صاحب الغبطة يوسف

رسالة الميلاد 2016

١٥ ١٢ ٢٠١٦
رسالة الميلاد 2016
المسيح ولد في فلسطين...
والمسيحيّة ولدت في سوريّة...
 
هاتان العبارتان تختزلان المعاني الأسمى لعيد الميلاد المجيد. وجود المسيح مرتبط بوجود المسيحيّة. ووجود المسيحيّة مرتبط بمقدار ارتباطها بالسيّد المسيح. فلا مسيحيّة بدون يسوع المسيح. ولا مسيح بدون المسيحيّة والمسيحيّين وبدون وجودهم ودورهم وشهادتهم في العالم، لا سيّما في الشرق حيث ولد المسيح!
اليوم الوجود المسيحيّ مهدّد في الشرق الأوسط مهد المسيحيّة. مهدّد بسبب الحروب التي تتسبّب في الهجرة المخيفة، لا سيّما للمسيحيّين. وهذا ما نراه لا سيّما في فلسطين وسوريّة والعراق ولبنان وفي الأردنّ ومصر... هذه البلاد التي تمثّل نواة الحضور المسيحيّ في العالم العربيّ في مشرقنا الحبيب!
الحفاظ على هذا الحضور، مسؤوليّة مشتركة بين المسيحيّين من جميع الطوائف، كما أنّها مسؤوليّة البلدان العربيّة بأن تحافظ على المسيحيّة، لأنّ المسيحيّة تراث من أبرز تراثات هذه المنطقة. إنّنا نهتمّ بآثارها الآبدة... بالهياكل القديمة... بالحجارة... بمعابد تدمر وبعلبك. الآن الأمر الأكثر أهميّة هو الاهتمام بالحجارة الحيّة... بالحضور المسيحيّ!
المسلم مسؤول عن الوجود المسيحيّ: لأنّ المسيحيّ أبدع في خدمة أوطانه المشرقيّة العربيّة على مدى التاريخ قبل الإسلام ومع الإسلام. وهكذا فإنّ ثمار الميلاد والتجسّد هو الوجود المسيحيّ والدور المسيحيّ.
لدينا نموذج فريد لهذا الدور المسيحيّ وفي التواصل المسيحيّ الإسلامي، الوجود المسيحيّ تميّز وبرز في حلقة حضارة حوض البحر المتوسّط. وهذا وصف لهذه الدورة الحضاريّة الفريدة. وهذه أبرز مراحلها:
المرحلة الأولى:آباء الكنيسة باسيليوس وغريغوريوس وأثناسيوس ويوحنّا الذهبيّ الفمّ وكيرلّس... إلخ. كلّهم نهلوا من الحضارة والثقافة اليونانيّة التي كانت منتشرة في المنطقة انطلاقًا من أثينا. وكان آباء الكنيسة قد درسوها واطّلعوا على جميع فروع العلوم اليونانيّة: الفلسفة وعلم الفلك والهندسة والجبر والطبّ... إلخ.
المرحلة الثانية:آباء الكنيسة طعّموا هذه الحضارة وطبّقوها وطوّروها انطلاقًا من إيمانهم المسيحيّ وتعاليم التوراة والإنجيل المقدّس. ويمكن أن نقول: إنّهم عمّدوا الثقافة والفلسفة والأدب اليونانيّ. إنّهم مسحنوه! جعلوه مسيحيًّا. وميلاد السيّد المسيح تجسَّد حضارة مشرقيّة متنوِّعة! وهذا ما ورثناه من آباء الكنيسة لا سيّما اليونان. وكتاباتهم تملأ مكتبات العالم حتى اليوم.
المرحلة الثالثة:مع ظهور الإسلام ودخوله المنطقة قادمًا من الجزيرة العربيّة، وتفاعل الإسلام مع المسيحيّة، بطرق شتّى، منها الحروب ومنها التفاعل الثقافيّ بنوع مميّز. ومع انتشار اللغة العربيّة في المنطقة، بدأت عمليّة الترجمات لا سيّما من اليونانيّة. وتمَّ ذلك بمساعدة العلماء المسيحيّين المتضلِّعين باللغة اليونانيّة، وهي لغة حياتهم اليوميّة، وطقوسهم، التي بدأ الاحتفال بها باللغة اليونانيّة والسريانيّة ولاحقًا بالعربيّة، بالإضافة إلى القبطيّة والأرمنيّة. وهذا عمل ميلاد وتجسّد لقيم الميلاد!
وهكذا نقل المسيحيّون الحضارة والثقافة اليونانيّة إلى العربيّة وإلى المجتمع الإسلاميّ. فكانت أساسًا للفقه الإسلاميّ والفلسفة الإسلاميّة، وعلوم الفلك والطبّ وسوى ذلك.
المرحلة الرابعة:بسبب الخلافات "الخلافيّة" بين المسلمين اتّجه المسلمون العرب إلى شمالي أفريقيا وحتى وصلوا إلى الأندلس في إسبانيا. وتأسّست خلافة إسلاميّة هناك ودولة إسلاميّة. وأثّرت اللغة العربيّة على اللغات المحليّة، لا سيّما اللاتينيّة التي كانت لغة العلم والثقافة في أوروبا. كما تفاعل المسلمون مع حضارة المسيحيّين هناك. وهنا أيضًا يبرز تأثير قيم الميلاد وتجسّد السّيد المسيح!
المرحلة الخامسة:وكانت ثمار هذا التفاعل أن نُقلت كتب المسلمين في الفلسفة والفقه إلى اللغة اللاتينيّة السائدة في أوروبا آنذاك. بالرغم من ظهور اللغات المحليّة. ومن خلال هذه الترجمات انتقلت الثقافة اليونانيّة إلى أوروبا وإلى كبار اللاهوتيّين في المسيحيّة من خلال المسيحيّين المشرقيّين، ومن خلال آباء الكنيسة القدّيسين، ومن خلال العلماء والفلاسفة العرب. ومنهم ابن رشد وسواه. وهكذا نجد في كتابات ملفان الكنيسة اللاتينيّة الغربيّة الكبير القدّيس توما الأكوينيّ، إشارات إلى الفلسفة اليونانيّة من خلال الكتّاب العرب ومنهم كما قلت ابن رشد وابن سينا. وهنا نرى وكأنّ التجسّد والميلاد انتقل إلى الغرب من الشرق!
ولا يمكننا أن نغفل أيضًا العلماء اليهود الذين ساهموا في هذا التفاعل اليونانيّ _الوثنيّ _ المسيحيّ السريانيّ _ العربيّ _اليهوديّ _ الإسلاميّ _ الغربيّ _ المسيحيّ...
إنّها حلقة رائعة وتفاعل فريد بين الوثنيّة واليهوديّة والمسيحيّة والإسلام... إنّها دورة ميلاديّة محلّيّة وعالميّة! وكلّ ذلك حدث في حوض البحر الأبيض المتوسّط. وقد لعبت المسيحيّة المشرقيّة الدور الأكبر في هذه الدورة الثقافيّة العلميّة العالميّة الفريدة.
دور المسيحيّين في الشرق
لا بدّ من الاعتراف بهذا الواقع، أعني بوجود المسيحيّة ودورها المميّز في كلّ أقطارنا العربيّة. إنّها حقًّا متابعة الميلاد ومفاعيل تجسّد السيّد المسيح في أرضنا المقدّسة. وهذا بفضل آبائنا الذين نشروا الإيمان بالمسيح في كلِّ الأقطار: في الشرق وإلى أقصاه وفي الغرب وإلى أقصاه! فالمسيحيّة انتشرت من خلالهم إلى أبعد من الجزيرة العربيّة في قطر والبحرين والسعوديّة والكويت... إلى الصين والهند...
وهذا يعني وجود راهبات وكهنة ورهبان ومطارنة ونشاط ثقافيّ ومدارس ومؤسّسات وكنائس، ساهمت وتساهم في تطوير هذه البلاد، اقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا ومعماريًّا. كما فعل المسيحيّون الآباء والأجداد في التاريخ. وهذا دليل على حيويّة المسيحيّة تجاه الصعوبات والرزايا! فهي التي قال عنها السيّد المسيح متكلّمًا عن الكنيسة: "إنَّ أبواب الجحيم لن تقوى عليها".
نحن من أرومة واحدة
العبرة في انقراض المسيحيّة القديمة من الجزيرة العربيّة لاحقًا ليس المرارة، وليس الحقد، وليست الكراهيّة، وليس التباعد... بل بالرّغم من ذلك، وبالرّغم من اضطهادات كثيرة من المسلمين على المسيحيّين، لا سيّما من خلال تصرّفات بعض الخلفاء والحكّام والولاة، وفي حقبات مختلفة! بالرغم من ذلك بقي المسيحيّون والمسلمون يتعايشون في المنطقة... وأكثر من ذلك، كم من  المسلمين عرفتُهم شخصيًّا في القدس، وفي سوريّة، وفي لبنان، يقولون بدون حرج أنّ أجدادهم كانوا مسيحيّين! وهذا يعني أنّنا من أرومة واحدة! لا بل من أسرة واحدة! وكلُّنا نعرف أنّ المسيحيّة بقيت الأغلبيّة في المنطقة حتى القرن الثالث عشر! وهكذا فالميلاد بمعانيه وتأثيره حاضر في المجتمع الإسلاميّ!
وثيقة مفصليّة
لا بدّ من أجل متابعة المسيرة أن يكون هناك مجال للغفران، وطلب السماح، والرحمة، والتراحم... إلى هذا دعت وثيقة المجمع الفاتيكاني الثاني التي مرّ خمسون عامًا على إصدارها (1965) وهي بعنوان "علاقة الكنيسة بالديانات غير المسيحيّة". مع العلم أنّ الآباء الذين كان لهم الفضل الأكبر بصدورها وبصدور الفصل الخاصّ بالإسلام فيها، كانوا من الشرقيّين وعلى رأسهم بطاركة الشرق، ولا سيّما بطل المجمع الفاتيكاني الثاني البطريرك مكسيموس الرابع الصائغ. وقد قدّمتُ هذه الوثيقة بعنوان "رسالة بطريرك عربيّ مسيحيّ إلى إخوته المسلمين حيثما كانوا في العالم"، في مكتبة الأسد بدمشق أمام حشد من نخبة المفكّرين مسيحيّين ومسلمين، بتاريخ (4 حزيران 2016). في هذه الوثيقة الفاتيكانيّة أمور رائعة في الانفتاح، والاحترام، والتقدير. أكتفي بسرد المقطع المتعلق بالإسلام.
نظرة المسيحيّة للإسلام
"وتنظر الكنيسة بعين الاعتبار أيضًا إلى المسلمين الذين يعبدون الإله الواحد الحيَّ القيُّوم الرّحيم الضّابط الكلّ خالق السماء والأرض المكلِّم البشر. ويجتهدون في أن يخضعوا بكلّيتهم حتى لأوامر الله الخفيّة، كما يخضع له ابراهيم الذي يُسنَدُ إليه بطيبة خاطر الإيمان الإسلاميّ. وإنّهم يُجلُّون يسوع كنبيّ وإن لم يعترفوا به كإله، ويكرّمون مريم أمّه العذراء كما انّهم يدعونها أحيانًا بتقوى. علاوة على ذلك إنّهم ينتظرون يوم الدين عندما يُثيبُ الله كلّ البشر القائمين من الموت. ويعتبرون أيضًا الحياة الأحلاقيّة ويؤدّون العبادة لله، لا سيّما بالصلاة والزّكاة والصّوم" (وثيقة المجمع الفاتيكاني الثاني، رقم 3)
"وإذا كانت قد نشأت، على مرّ القرون، منازعات وعداوات كثيرة بين المسيحيّين والمسلمين، فالمجمع المقدّس يحضُّ الجميع على أن يتناسَوا الماضي وينصرفوا بإخلاص إلى التفاهم المتبادل، ويصونوا ويُعزِّزوا معًا العدالة الاجتماعيّة والخيور الأخلاقيّة والسلام والحريّة لفائدة جميع الناس" (وثيقة المجمع الفاتيكاني الثاني، رقم 3)
اكتشاف قيم إيماننا! قيم الميلاد!
أيّها الأحبّاء
أمام حروب الأمس واليوم هناك مسؤوليّة كبيرة... علينا أن نكتشف قيم إيماننا المسيحيّ ومعاني الميلاد الإلهيّ، ويكتشف إخوتنا المسلمون قيم إيمانهم، لكي يجابهوا معًا ما قاله المثل اللاتينيّ ليس عن المسيحيّين، ولا عن المسلمين، ولا عن هذا أو ذاك الإنسان، أو هذه أو تلك من الشعوب، بل عن الإنسان، وكلّ إنسان، بغضّ النظر عن معتقده ولونه وجنسه وأمّته. هذا المثل هو "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان"
لا بل علينا إزاء حقائق تاريخيّة فيها ما فيها من السلبيّات، وأيضًا الإيجابيّات، أن نكتشف معًا أنّ مستقبلنا في هذا الشرق واحد! وعلينا أن نبني مستقبلاً أفضل لأجيالنا الطالعة.
والعبرة أنّه قد حان الوقت للعمل معًا لأجل مستقبل أفضل لأجيالنا الطالعة لا سيّما في جوّ العولمة، وأمام موجة الهجرة من البلاد العربيّة والإسلاميّة إلى أوروبا. هذه الهجرة خطيرة جدًّا على المسلمين والمسيحيّين، ويمكن أن تفجّر صراعات دامية وحروبًا أهليّة. وتؤجّج مشاعر اللامسيحيّة واللاإسلاميّة، والإسلاموفوبيا.
وهذا ما بدأنا نشهده في أوروبا حاليًّا، في الهجمات على باريس وبروكسل وفي المظاهرات في ألمانيا، وإحراق مخيّمات اللاجئين في مناطق ألمانية، وإحراق العنابر التي كانت مجهّزة لاستقبال النازحين في السويد...
معًا على الطريق! مسيرة الميلاد!
آن الأوان لكي نحقّق ما دعا إليه بطاركة الشرق الكاثوليك: "معًا على الطريق! مسيحيّين ومسلمين على الطريق!" والمهمّ أيضًا أن تتابع المؤسّسات المسيحيّة التربويّة والثقافيّة والعلميّة والصحيّة والاجتماعيّة، أن تتابع رسالتها اليوم كما في التاريخ رسالة الميلاد!
الشرق مهد المسيحيّة وهو مكان الحوار واللقاء والتفاعل والتوافق والإغناء المشترك. هذا هو تاريخنا... هذا هو تراثنا... هذا هو غنانا... بالرّغم من خلافاتنا ومآسينا وشهدائنا... نحن... والآن... وهنا في الشرق، يمكننا ويجب علينا أن نحافظ على هذا التراث الغنيّ. إنّه تراث الميلاد، يتجسّد في حياة الكنيسة في المجتمع!
خارج هذه البلاد المقدّسة سيكون أكثر صعوبة أن نحافظ على هذا الإرث الخاصّ بكلّ منّا والمشترك بيننا... ومسؤوليّتنا مشتركة أن نحافظ عليه وهنا والآن وغدًا. نحن بكلّ تواضع معلّموا الحياة والعيش المشترك. هنا يمكننا أن نحقّق ما قاله البابا فرنسيس للشباب المسيحيّ: علينا أن نحافظ على هويّتنا .. ونكون منفتحين على الآخر وهويّته وإيمانه ومعتقده ونمط حياته.
هويّة وانفتاح! الميلاد هويّة وانفتاح!
الهويّة بدون انفتاح ومشاركة وتفاعل واحترام متبادل واعتراف بالأخر وكل مكوّنات شخصيّته (دينه-حقوقه-معتقده)، تعني قوقعة وانعزالاً ممّا يولّد الخوف والعداء ... وربما العنف والإرهاب والحرب... كما أنّ انفتاحًا من دون هويّة يعني فراغًا وتبعيّة وانعدام الشخصيّة والكرامة والحقوق. إلى هذا يدعونا الميلاد بمعانيه السامية!
خَبَرنا كلَّ ذلك على مدى تاريخنا الطويل المشترك، وهو بالرغم من مآسيه وويلاته وأزماته في العلاقات بين المواطنين من طوائف مختلفة مسيحيّة ومسلمة؛ ومهما يكن الأمر من هذه الظروف المتنوّعة التي مررنا بها، يبقى المكان الذي نشعر فيه أنّنا في وطننا هو مشرقنا. خارجه ربما نجد الرفاهيّة والعمل والدخل والربح والكرامة والحريّة... لكنّنا نبقى غرباء وضيوفًا وأجانب، ومحرومين من أمور كثيرة من حياتنا وشخصيّتنا وتراثنا وتقاليدنا وقيمنا الدينيّة والعائليّة...
رسالتنا هنا في الشرق مميّزة فريدة عالميّة تاريخيّة لا أحد غيرنا يقوم بها. فنحن أبناء الأنبياء والرسل، أبناء الكتب المقدّسة، أبناء الميلاد! وكلّ منّا مسؤول عن الحفاظ على تاريخه ومعتقده ودينه وتراثه.
أنت ابن الشرق! أرض الميلاد
يا أخي المسيحيّ! هذه الرسالة الملقاة على عاتقكَ هي أنّكَ من بلدٍ هو مهد المسيح والمسيحيّة. وتبقى رسالتَكَ حتى ولو نزحتَ أو هاجرتَ ... وطنُكَ يبقى رسالتَكَ، ومسيحيّتُكَ تبقى رسالتَكَ أينما كنتَ وأينما رحلتَ. ولماذا تخاف من صعوبة وأزمات ومآسي الحياة في بلدك؟ هل من حياة بلا ألم أو مرض أو أزمة في العالم؟ وهل حياتك بعيدًا عن وطنك مهد المسيحيّة حقًّا أقلَّ مشاكل من حياتكَ في وطنكَ هنا. وهناك أيضًا مشاكل وأمراض وأزمات ومصاعب. ولهذا مع تفهّمنا لكلّ أسباب هجرتك ونزوحكَ... مازلنا ندعوكَ إلى محاولة البقاء والتغلّب على خوفكَ وهواجسكَ وأخطار الحرب وظروف الحياة الصعبة. أينما كنت تحمل رسالة الميلاد!
النازحون ورعايتهم
لقاءاتي تتكرّر بالنازحين أولادنا الأحبّاء لا سيّما في ألمانيا والسويد وهولندا وسويسرا وبولندا. من جهة أفهم أسباب النزوح ومن جهة اخرى أصلّي لكي تُقصَّر أيّام الحرب لكي يعودوا إلى أرضهم وترابهم. ومن جهة اخرى أسعى لكي أؤمِّن لهم الرعاية الروحيّة، وهي متوفّرة في السويد. وبدأنا العمل على تأسيس رعيّة في ألمانيا برعاية الأب ميّاس عبود. ويجول الأب جورج عبود بتكليف من مجلس أساقفة ألمانيا في أنحاء ألمانيا لكي يكتشف أماكن تواجد أولادنا ولأجل متابعة العناية الروحيّة والطقسيّة والرعويّة بهم. ونسعى لتأسيس رعيّة في هولندا.
نريد من خلال ذلك أن نساعد أولادنا النازحين لكي يحافظوا على شعلة الإيمان، إيمان الأباء والأجداد مشعشعة  في قلوبهم وفي حياتهم وتصرفاتهم ومسلكهم.
ونشكر إخوتنا الأساقفة في ألمانيا والسويد وهولندا وسواها... الذين يتجاوبون مع مختلف حاجات أولادنا لا سيّما الروحيّة.
سنبقى هنا! في أرض الميلاد
كم مسؤوليتنا جسيمة كبيرة خطيرة عالميّة تاريخيّة أن نبقى هنا. ليس المطلوب أن نضحّي بأسرتنا... ولكن أن نجاهد لنبقى هنا بالرغم من الأخطار والصعوبات والتضحيات.
أصلّي لكلّ من يقرّر أن يذهب. وأدعو بحرارة إلى البقاء هنا!
ومع من يبقى سأبقى وسنبقى، وستبقى المسيحيّة...
البقيّة الباقية ستبقى! ويبقى يسوع من خلالنا...
ابقوا هنا ليبقى يسوع .. وتبقى مريم .. وتبقى المسيحيّة، ويبقى عيد الميلاد عيدنا جميعًا!
الهجرة!
بسبب فرادة وجود المسيحيّ في الشرق، وميلاد المسيح في الشرق، يختلف موقف الكنيسة ورعاتها من هجرة المسيحيّين من الشرق. الهجرة حقّ طبيعيّ للإنسان، كلّ إنسان، وفي كلّ مكان. لكنّ الهجرة من بلاد الشرق أمر آخر. ذلك أنّ الشرق هو مهد المسيحيّة. والمسيحيّ هو تجسّد هذا الوجود المسيحيّ في مهد المسيحيّة. بحيث أنّ غياب المسيحيّ من الشرق، يعني غياب المسيحيّة، لا بل غياب المسيح. فالمسيح تجسّد في أرض وجغرافية ووطن. فهو مواطن مشرقيّ. إنّه مواطني انا الشرقيّ. وإذا هاجر المسيحيّ، كأنّ المسيح يهاجر من أرضه ووطنه. وإذا انقرض الوجود المسيحيّ من وطن المسيح، يعني انقراض وجود المسيح من هذا الوطن. وإذ ذاك يتساءل سائل أو إنسان غير مسيحيّ: إذا كان المسيح قد ولد في هذه المنطقة وهي وطنه، وإذا ما عاد يوجد مواطن مسيحيّ، وإذا زالت آثار أتباع المسيح من وطن المسيح، فحقّ للسائل أن يستنتج أنّ المسيح لم يولد في هذه المنطقة... وربما وجوده أسطورة وليس حقيقة...
المسيحيّون وميلاد المسيح
المسيحيّون الشرقيّون برهان لميلاد المسيح في الشرق، وشهود على حياته وإنجيله ورسالته. إنّنا أحفاد الرسل وتلاميذ المسيح. من هنا تتضح أهميّة وجود المسيحيّ في بلد المسيح في فلسطين وفي الأوطان حيث ولد المسيح وولدت المسيحيّة، في سوريّة التاريخيّة التي تضمّ حاليًّا سوريّة ولبنان والأردن وفلسطين والعراق ومصر. إنّها مهد المسيحيّة. وانقراض المسيحيّة من هذه البلدان، هو انقراض آثار الميلاد وآثار المسيح والمسيحيّة. لهذا يحرص رعاة الكنيسة على وجود المسيحيّين في المنطقة... ومن هنا تأخذ الهجرة، والنزوح والانتشار... أهميّة تختلف عن هجرة أيّ مسيحيٍّ من أيّة منطقة خارج الشرق الأوسط.
هذا ما نريد أن نشرحه في عيد الميلاد المجيد لأولادنا المسيحيّين الذين يواجهون صعوبات وويلات ومعاناة مما يضطرّهم إلى الهجرة. فنحن ندرك جسامة مأساتهم، ونفهم الأسباب التي تدفعهم إلى الهجرة... ولكنّنا مع ذلك نريد أن يصمدوا ويبقوا في أرضهم، في الشرق مهد المسيحيّة ومهد المسيح!
هذا هو السبب لموقفنا! وإلا فكما قلنا أعلاه الهجرة حقّ طبيعيّ لكلّ إنسان، وفي كلّ بلد. ولهذا فالمطران خارج الشرق لا يتأثّر بهجرة أبناء رعيّته، ولكن الأمر يختلف تمامًا بالنسبة لنا كشرقيّين.
هذا ما أردتُ إيضاحه في هذه الرسالة. وأنا أفهم وأدرك كلّ الإدراك الأسباب التي دفعت وتدفع أولادنا إلى الهجرة لا سيّما في سوريّة حاليًّا إلى بلاد الله الواسعة. ولكنّي أحترم قرار أبنائي وأعمل لكي أؤمِّن لهم الرعاية الروحيّة والرعويّة والاجتماعيّة في أماكن هجرتهم وانتشارهم.
اعتبارات ميلاديّة
أنهي رسالتي الميلاديّة باعتبارات ثلاث، هي بمثابة خريطة طريق، ودليل للمسيحيّين في مشرقنا المبارك أو الذين نزحوا أو هاجروا إلى بلاد أخرى.
الاعتبار الأوّل:هي كلمة البابا القديس يوحنّا بولس الثاني: إنّ جوهر الإنسان أن يكون مع ولأجل. فالمسيحيّ المشرقيّ بنوع خاصّ مدعوٌّ لتطبيق هذا الشعار لا سيّما في وطنه الأصيل في الشرق، فيكون مع جميع المواطنين من كلّ أطياف أوطاننا العربيّة، ويكون لأجلهم لكي يحمل إليهم نور الإنجيل بحضوره ودوره ومسلكه وأسلوب حياته... المسيحيّ مع الأخرين، ليكون المسيح مع كلّ إنسان!
الاعتبار الثاني:هو كلمة البابا فرنسيس ووصيّته للشباب في البرازيل: إنّكم بحاجة إل أمرين: هويّة وانفتاح! وهذا الشعار على المسيحيّ المشرقيّ أن يعيشه في وطنه في الشرق وفي أيّ مكان ينزح إليه، أن يحمل معه هويّته المشرقيّة، ويعيشها في مجتمعه، في وطنه الأصيل ووطنه الجديد! هويّتنا هو يسوع الطفل الجديد والإله الذي قبل الدهور!
الاعتبار الثالث:هو العبارة الشهيرة باللغة اللاتينيّة: من الشرق يأتي النور! حيثُما حللتَ أو رحلتَ تبقى ابن الشرق! ابن كنيسة الشرق أم الكنائس! تبقى ابن الشرق من حيثُ يأتي النور! أنت ابن الشرق وحامل نور الشرق في وطنك في الشرق... وأنت ابن الشرق وحامل نور الشرق، في أيّة بقعة خارج الشرق، في أيّ بلد يصبح وطنكَ الجديد. من الشرق يأتي يسوع نور العالم بأسره!
لا تنس هذه الصفة المميّزة الفريدة: ابن الشرق! الشرف يلزم Noblesse oblige !   
معايدة ودعاء
رسالتي الميلاديّة لهذا العام هي وقفة تأمّليّة أمام مغارة الميلاد، وأمام كلّ مغارة في كلّ بيوتنا وفي شوارعنا... إنّها في آنٍ واحد حزينة متألمة، وأيضًا فرحة! إنّها وقفة تأمّليّة في المغارة وتحت الصليب مع كلّ المواطنين ووقفة أمل ورجاء بأنّ القيامة هي مرحلة ما بعد الصليب.
إنّها دعاء لكي يشمل سلام الميلاد الإلهيّ بلداننا المعذّبة لا سيّما في فلسطين والعراق ولا سيّما سوريّة الحبيبة! وأُردّد مقولتي: أعطونا السلام والأمان! فهو صمّام الأمان! وهو شرط صمود المسيحيّ وحضوره! وأساس دوره وشهادته!... ونطلب من المخلّص المولود في فلسطين، أن يعطي السلام لبلاده، ويوقف الحروب في بلدان ولد فيها المسيحيّون المؤمنون باسمه، وفيها ولدت المسيحيّة.
ولتتحقّق لنا جميعًا نحن المسيحيّين من الشرق والغرب وفي كلّ مكان، تتحقَّق لنا ومن خلالنا أنشودة الملائكة في بيت ساحور وبيت لحم، في ليلة ميلاد السيّد المسيح له المجد:المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرّة!
 
ميلاد مجيد! وسنة جديدة 2017! سنة سلام وأمان وازدهار!
 
 
+ غريغوريوس الثَّالث
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والإسكندريَّة وأورشليم
للرُّوم الملكيّين الكاثوليك