صاحب الغبطة يوسف
رسالة الصوم 2007
الصـــوم درب الصليـــب والقيـامـــة
رسالة غبطة البطريرك غريغوريوس الثالث
بمناسبة الصوم الأربعيني الكبير
شباط 2007
من جديد تدعونا الكنيسة إلى مسيرة الصوم الكبير المبارك من خلال صلواتها المقدّسة التي ترافق مرحلة الصوم عبر الآحاد الأربعة التي تسبق بدء الصوم الكبير، وكل يوم من أيام الصوم.
بهذه المناسبة نتوجّه بهذه الرسالة الروحيّة إلى إخوتنا الأساقفة الأحبّاء والكهنة والرهبان والراهبات وعموم المؤمنين في كلِّ أبرشيّاتنا، في البلاد العربيّة وبلاد الانتشار بهذه الاعتبارات الروحيّة.
مسيرة فصحيّة
الصوم مرحلة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بعيد الفصح وبقيامة السيِّد المسيح. والصوم الكبير هو صوم فصحي لأنّه استعداد مباشر للفصح المجيد. ولذا دعوته في عنوان هذه الرسالة كونه درب الصليب والقيامة. ولا يخلو يوم من أيّام الصوم إلا وقد تذكّرنا فيه الكنيسة من خلال الأناشيد والصلوات بآلام السيِّد المسيح وبالقيامة. هكذا نقرأ في أناشيد الاثنين (المدعو اثنين الراهب) الأوّل مطلع الصوم: "لنبتدئ بالإمساك متلألئين بأشعّة أوامر المسيح، بضياء المحبّة وبرق الصلاة وطهارة العفاف وقوَّة الشجاعة، لكي نبلغ مضيئين بنور عدم الفساد إلى قيامة السيِّد المسيح المقدّسة الثلاثية الأيّام المبهجة المسكونة". ونقرأ في اليوم التالي: "... لكي نعيِّد عيدًا روحيًا لقيامة المخلّص من الأموات". ونقرأ يوم الأربعاء: "هلّم نذلِّل أهواء الأفكار بالصيام... حتّى إذا جزنا عاصفة العدو بخفّة استحققنا أن نسجد للصليب المذبوح عليه ابن الله طوعًا من أجل العالم. وعيّدنا روحيًا لقيامة المخلّص". ونقرأ يوم الجمعة: "أهّلنا نحن الشاكرين الصائمين أن ننظر قيامتك". ويوم الأحد الأوّل من الصوم نصلّي هكذا: "أهلّنا يا مخلّص بالصيام لأن نحظى بقيامتك". وفي مطلع الأسبوع الثاني نصلّي: "حتى إذا أكملنا السعي نبلغ جميعًا إلى يوم القيامة السيِّديّ بفرح" (الاثنين مساءً). ونصلّي أيضًا "حتى إذا بلغنا آلام المسيح بإرضاء حسن". وأيضًا "أعطنا أن نشاهد جميعًا آلامك الكاملة الوقار" (الأربعاء من الأسبوع الثاني).
مسيرة الآلام
وتزداد الإشارات إلى الآلام الخلاصية والقيامة المقدّسة، مع الأحد الثالث من الصوم وفيه الاحتفال بالسجود للصليب المكرَّم. " أهِّلنا أن نعاين عود صليبك ونسبِّح آلامك. وندرك بطهارة قيامتك المقدسة". (الخميس من الأسبوع الثالث). لا بلّ نذكِّر الصلوات المؤمنين بتفاصيل الآلام وبآيات التعذيب: الحربة والمسامير والمجالد والقصبة والسياط والبصاق... وهي أدوات تخليصنا وتقديسنا وفدائنا. وتتكرَّر الدعوات إلى المشاركة المسيح في آلامه واحتمال الآلام لكي نصلب مع المسيح ونموت معه فنعيش معه. وتترافق الدعوة إلى الآلام بالدعوة إلى الفرح والابتهاج والتوبة والدموع وطلب الغفران والمسامحة بالزلاّت... وبالطبع تتوارد أيضًا الدعوات إلى الصوم والصدقة والمحبّة وممارسة الفضيلة والطهارة والنقاء.
ويبدو الصيام هكذا محورَ كلِّ مرافق الحياة المسيحية، وهذيذَ المسيحي المؤمن، وموضوعَ صلاته وشكره وتسبيحه، ومحطَّ عواطفه وغايةَ أشواقه. لا بل هو الفردوس السعيد المفقود، والنعيم والسرور، والسعادة الكاملة ويعجز القلم عن سرد الألقاب والأوصاف والنعوت التي يطلقها آباؤنا القديّسون وناظمو الأناشيد على الصيام الكبير المبارك.
التخصُّص لله
إنّ الصيام الوقت الذي فيه "كل أحد يتخصَّص لله" (الثلاثاء الخامس من الصوم) أعني يتفرّغ بكلِّيته لله، بحيث ينال من خلال رياضات الصوم المختلفة درجة وشهادة هي "التخصّص لله". ويمكننا أن نعتبر الممارسات والوصايا والتوجيهات والتحريضات التي تتردّد في صلوات الصوم المبارك، أنهّا الدروس العملية التي تؤهلنا لننال هذه الشهادة (الدبلوم) التي نحملها طيلة حياتنا: إننّا متخصّصون لله! متخصّصون في عبادة الله وإكرامه وتسبيحه وشكره والالتصاق به. هذا التخصّص يقودنا إلى الإبداع في الحياة المسيحية، وإلى الترقّي والتسامي والنموّ المطّرد في الفضيلة. وهذا هو الطريق إلى القداسة التي يُدعى إليه كل مسيحي ابتداءً من يوم معموديّته ومرورًا بكل الأسرار المقدّسة التي يتقبلّها طيلة حياته.
من هذا المنطلق نضع أمام اخوتنا وأبنائنا وبنات كنيستنا الروميّة الكاثوليكية هذه القواعد الخاصة بالصيام المقدّس. ونفضِّل أن نضع النظام الكنسي التقليدي تاركين لكلِّ من إخوتنا المطارنة الأجلاّء أن يضع التعليمات الإضافية الخاصة بأبرشيّته.
قانون الصوم والقطاعة
أيام الصوم هي أيّام الأربعاء والجمعة من أسبوع مرفع الجبن. وأيام الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة من أسابيع الصوم والأسبوع العظيم المقدّس. ما عدا اليوم الذي يقع فيه عيد البشارة (25 آذار).
سبت النور. وهو السبت الوحيد الذي يجب الصوم فيه. بينما يمنع الصوم في السبوت الأخرى لارتباط السبت بأحد القيامة.
أيام القطاعة تشمل الصوم الأربعيني بكامله بما فيه الآحاد. بالاضافة إلى الأسبوع العظيم المقدس. ما عدا عيد البشارة وأحد الشعانين حيث يسمح بأكل السمك.
معنى الصوم والقطاعة
الصوم هو الامتناع عن كل مأكل ومشرب، من نصف الليل وحتى الغروب. وهكذا يتناول الصائم وجبة واحدة في اليوم وعمومًا بعد صلاة الغروب أو بعد رتبة الأقداس السابق تقديسها.
الصوم الإفخارستي أو القرباني. الصوم بهذا المعنى مرتبط بالاحتفال بالليترجيّا الإلهية وبتناول القربان المقدس. حسب التقليد القديم على المتقدِّم إلى المناولة أن يكون صائمًا عن كل مأكل ومشرب. فالمناولة تنهي الصوم (وتكسر الصوم)، أكان ذلك خارج أياّم الصوم أو في ايام الصوم الكبير. وفي هذه الحالة ينهي الصائم نهاره وصومه بالاحتفال بليترجيّا الأقداس السابق تقديسها، وهي رتبة الغروب مع مناولة احتفالية. وينتهي صوم بارامون الميلاد والغطاس أو الظهور الإلهي بليترجية القديس باسيليوس الكبير تسبقها رتبة صلاة الغروب. وينتهي صوم الأيّام الثلاثة الأخيرة في الأسبوع العظيم المقدس بالمناولة الفصحية صبيحة أحد الفصح.
القطاعة هي الامتناع عن اللحم ومرق اللحم، وعن البياض، أعني البيض والجبن والألبان والزبدة... أما السمك فيسمح به في أيّام معينة. وكذلك الزيت والخمر يسمح بهما في أيّام معيّنة.
حكمة الأصوام
يعتبر الآباء القدّيسون الصيام الأربعيني الكبير كتأدية العشر لله (في الواقع 40 وهو تقريبًا عُشر السنة 365 يومًا). والوصيّة تقول:" أَوْفِ البركة " أي العشر. يضاف إليه صوم الميلاد والرسل والسيِّدة. وتتوزّع هذه الأصوام الأساسية الأربعة على فصول السنة الأربعة لتقدّس السنة كلّها: صوم الميلاد للخريف. الصوم الأربعيني للشتاء. صوم الرسل للربيع وصوم السيِّدة للصيف.
وهكذا فإنَّ المسيحيّ المؤمن المواظب على الأصوام المختلفة، يبقى على اتصال دائم بالرياضات الروحيّة والممارسات التقشفيّة، وفي يقظة روحية لعمل الروح فيه. ويحافظ بذلك على "لياقة" النفس والجسد في آن واحد.
كثيرون يقصدون الأطبّاء والعلماء لكي يحصلوا على المعلومات الوافية للمحافظة على صحتهم الجسدية. وكم تكون دهشة الكثيرين إذا علموا أنَّ حكمة الكنيسة في توزيع الأصوام تتوافق مع التوجيهات الطبية، لا بل تفوقها لأنها تهدف إلى صحّة النفس والجسد. وهكذا يتمّ قول السيِّد المسيح المعلّم الأكبر: "أطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه وهذا كلّه يزاد لكم". ويقول: "ليس بالخبز وحده يحيا الانسان بل بكلِّ كلمة تخرج من فم الله". وهذا كان جواب يسوع للمجرّب في البرية. ويقول بولس شارحًا معنى الصوم الحقيقي: "إن أكلتم أو شربتم أو مهما عملتم فاعملوا كل شيء لمجد الله". ويقول أيضًا: "مجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم أيضًا".
البرنامج المناسب
أيها الأخوة والأخوات الأحباء!
لقد وضعنا أمام الجميع "البرنامج" الروحي والقانوني أو الطقسي. وكما قلتُ فإنَّ سينودساتنا المقدّسة قد تركت لكلِّ مطران أن يصدر التوجيهات المناسبة لأبرشيته في مطلع الصيام.
الحدَّ الأدنى هو الصوم عن الأكل والشرب في اليوم الأوّل من الصوم المدعوّ اثنين الراهب، من نصف الليل وحتى الساعة الثانية عشرة ظهرًا. ومن ثمّ الصوم في الأيام الثلاثة الأخيرة من الأسبوع العظيم المقدّس، أعني خميس الأسرار والجمعة العظيمة وسبت النور.
أمّا بالنسبة للقطاعة فهو الامتناع عن اللحم والبياض أيّام الأربعاء والجمعة طيلة أسابيع الصوم والأسبوع العظيم المقدّس كلّه.
لكننا نعلم أنَّ الكثيرين من المؤمنين الأتقياء يريدون أن يصوموا حسب التقليد القديم. فإنّنا من جهتنا نشجِّعهم وندعو الجميع إلى التقيّد بهذا التقليد القديم. ولكي نسهِّل الأمر على الجميع فإنّنا نقترح أن يضع كل فرد وأن تضع كل أسرة نظامًا خاصًا للصوم ينسجم مع توجيهات المطران من جهة ومع الحدّ الأدنى، ويتناسب مع أوضاع كل فرد وكل عائلة.
الصوم والحياة الروحيّة
ونحرِّض الجميع على الصوم والممارسات التقوية والصلوات، والصدقة والمحبة والإحسان والإماتة وبروحانية هذه الرسالة: "الصوم درب الصليب والقيامة".
ومع أناشيد الصوم المبارك نحرِّضهم بكل حرارة لكي يقدِّسوا هذه الأيام المقدّسة. "لقد انفتح الآن باب التوبة الإلهية. فلندخل فيه بنشاط مطهّرين أجسادنا. ممسكين عن الأطعمة والشهوات كتلاميذ المسيح. الداعي العالم إلى ملكوت السماوات. ولنقدِّم لملك الجميع عُشر السنة كلّها (أي الأربعين يومًا من الصوم). لكي ننظر قيامة المسيح المجيدة بشوق".
"لنستقبل الصيام بسرور فهو بدء الجهاد الروحي. ولنطرح شهوات الجسد. ونضاعف مواهب الروح... يا نفسي عبثًا تفرحين بالصيام. إذا صمتِ عن المأكل ولم تتطّهري من الشهوات. لأنه إذا لم يكن الصيام سببًا لتحسين السيرة، يمقتك الله كالكاذبة".
وتُبرز صلواتنا الشقّ الاجتماعي في الصوم، حيث نقرأ: "مع صومنا أيها الإخوة جسديًا، لنصم ايضًا روحيًا. ونحلَّ كلَّ صكِّ جائر، ونعطِ الجياع خبزًا ولنضِف المساكين الذين لا مأوى لهم لكي ننال من المسيح الرحمة العظمى".
برنامج متكامل
هذا هو البرنامج الروحي والجسدي والعبادي والاجتماعي والنفسي الذي يقدّمه لنا زمن الصوم، كما نكتشفه من خلال صلوات هذه الأيام المقدسة. بحيث نستعد للاحتفال بذكرى آلام المسيح باحتمال آلامنا وبأعمالنا الصالحة ومحبّة الغريب وبحياة الصلاة في الكنيسة مع الجماعة وفي بيوتنا، وفي اجتماعات مختلف النشاطات الراعوية التي تتكثَّف أيام الصوم. وهكذا نستعد للقيامة بأعمال الحياة الروحيّة بأعمال القيامة، وهي أعمال الفضيلة.
وأخيرًا أذكر عادة لا تزال قائمة في أديار المتوحّدين وفي بعض الرعايا، ويا حبّذا لو تعود إلى رعايانا أو إلى الأديار. ذلك أنه أثناء صلاة الغروب يوم أحد مرفع الجبن الذي يسبق الاثنين مطلع الصوم ويسمى هذا الأحد "أحد الغفران"، يطلب الحضور الغفران والسماح بعضهم من البعض فيتصافحون ويستغفرون بعضهم من البعض ويرنمون معًا نشيد القيامة: المسيح قام...
بهذه العواطف نتمنّى لكم جميعًا أيها الأحباء صومًا مقدسًا يكون دربًا إلى أفراح القيامة.
مع تكرار المحبة والبركة والدعاء
غريغوريوس الثالث
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والإسكندرية وأورشليم