صاحب الغبطة يوسف

رسالة الميلاد 2005

٢٥ ١٢ ٢٠٠٥


غـريغــوريــوس
برحمة الله تعالى
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق
والإسكندرية وأورشليم

النعمة الإلهيّة والبركة الرسوليّة
تشملان إخوتنا السادة المطارنة، أعضاءَ المجمع المقدّس،
 وسائر مؤلّفي كنيستنا الروميّة الملكيّة الكاثوليكيّة، إكليروسًا وشعبًا،
وتحلاّن عليهم.



التجسّد الموحِّد

"التجسد الموحِّد" عبارة تختصر إيماننا المسيحي المقدَّس وتشرح بإيجاز وإعجاز دقيقين هذا السرَّ الحاضر الذي نحتفل به، في هذه الأيام المباركة، ألا وهو عيد ميلاد ربّنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح بالجسد، "الذي من أجلنا، نحن البشر، ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسّد من الروح القدس ومن مريم العذراء وتأنّس". صار جسداً شبيهاً بالجسد الذي جبله في مطلع الخليقة، عندما خلق السماء والأرض وكلَّ ما فيهما، ونفخ في الإنسان نسمة حياة، وقال إنه حسن، هذا الإنسان الذي قال فيه صاحب المزامير: "ما الإنسان حتى تذكره، أو ٱبن الإنسان حتى تتعهّده؟ نقَصته قليلاً عن الملائكة. كلَّلته بالمجد والكرامة،        وسلَّطته على أعمال يديكَ! أخضعت كلَّ شيء تحت قدميه: الغنَم والبقرَ كلَّها، وبهائم البرِّ أيضاً، وطير السماء وسمك البحر السالك سبل البحار" (مز 8: 4-7).

كرامة الإنسان
هذا الإنسان الذي قال عنه باسكال إنه قصبة ولكنه قصبة مفكرة، هذا الإنسان أراده الله مميَّزاً عن كل هذه الخلائق وملكاً عليها. وأراده شبيهاً له. ولذا قال الكتاب: "خلق الله لإانسان على صورته. على صورة الله خلقه. ذكراً وأنثى خلقهم. وباركهم الله وقال لهم: أنموا واكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها". (تك 1: 27-28)
هذا الإنسان أراده الله نديماً له. أراده أن يبقى قريباً إليه، متَّحداً به، ملتصقاً به. فهو خليفته على الأرض. وقد وردت في سفر التكوين آيات توحي إلينا الكثير من علاقات الوُدِّ والمحبة والألفة والصداقة والحبِّ والحنان والعطف بين الخالق وخليقته، بين الجابل وجبلته. هكذا نقرأ في سفر التكوين "وكان الله يتمشَّى في الجنّة عند نسيم النهار"(3:8). هذا هو الإنسان الذي أكرمه الله بصورته وحباه بهذا الكَمِّ الكبير الغزير الوفير من نعمه وآلائه ومحاسنه وخيراته، في جسمه ونفسه وفي أعضائه وحواسه وعقله وشعوره وقلبه! إنه لعمري صنعة متقنة الإبداع في كل دقائقها وكأنها زُخْرُفٌ مُنَمْنَمٌ ولوحة زاخرة بالألوان وإيقونة عكست في جمال صنعتها ألوان قُزَحِ عهدِِ الله مع البشر، عهدِ المحبة والجمال والبهاء.

فقدان الكرامة بالخطيئة
ولكن الإنسان لم يحافظ على هذه الكرامة. فسقط في الخطيئة التي يرويها سفر التكوين بصورة الأكل من الشجرة المحرّمة. ثم بصورة أخرى هي العريُّ والخجل من العري، جرَّ آدم وحواء إلى الاختباء من وجه الله! فأصبحا في غربة، أحدهما عن الآخر وكلاهما عن الله خالقهما. ومع ذلك بقيا في شوق إليه تعالى. وهذا ما تصفه صلواتنا الليترجية بتعابير عاطفية وجدانية رائعة. حيث نقرأ: "إنَّ الربَّ جابلي، لمَّا أخذني تراباً من الأرض، وأعطاني بنفخته المحيية نفساً، أحياني وأكرمني، وأقامني في الأرض رئيساً على جميع المنظورات، عائشاً كالملائكة. أمَّا الشيطان الغاشّ، فلما استعمل الحيّة آلة، خدعني بالأكل وفصلني عن مجد الله، وسلّمني بالموت الأسفل إلى الأرض. لكن ليتَ السيِّد يُجدِّد حياتي بما أنه المتحنن".
"يا ربّ، لما خالفتُ أنا الشقيّ  أمركَ الإلهي بمشورة العدوّ، عُرِّيتُ من الحلّة الإلهية النَّسج، وتردَّيتُ بورقِ التين والثياب الجلدية. وحُكم عليَّ بأن آكل بالعرق خبزاً شاقًّا. والأرضُ لُعنتْ لتُنبتَ لي شوكاً وحسكاً. لكن أيها المتجسِّد من البتول في الأزمان الأخيرة، أدعني أيضاً وأدخلني إلى فردوس النّعيم."
ويخاطب آدمُ الفردوسَ بهذه العبارات المؤثرة:" أيُّها الفردوس الكاملُ الإجلال، البهيُّ الفائق الجمال، والمسكنُ الذي بناهُ الله، السرورُ والبهجة التي لا تنتهي، مجدَ الصِّديقين وفرحَ الأنبياء وموطنَ القديسين، إبتهلْ بحَفيف أوراقكَ، إلى الإله الخالق الجميع، أن يفتحَ ليَ الأبواب التي أُغلقت بالعصيان، ويؤهِّلني للتناول من عودِ الحياة، وللفرحِ الذي تنعَّمتُ بهِ فيكَ قديماً".

مريم تظهر لنا الربَّ المحبَّ البشر
المسيح تجسّد لأجل خلاص هذا الإنسان الخاطئ وحبًّا به.وتجسيداً لذلك الحبّ، أتى الملاك إلى عذراءِ الناصرة مريم كي يقول لها قولاً بسيطاً، وفي الآن نفسه عجيباً، غريباً، فائق الإدراك، قولاً مشتهًى ومحبَّباً، مرغوباً فيه، وموضوع آمالِ الانسان وتطلعاته! قال لها الملاك قولاً بسيطاً وجيزاً لكنه يحوي السماء في طيَّات حروفه القليلة: السلام عليكِ يا مريم! إن الربَّ معكِ! الله معكِ! ومعنا لأجلكِ، تزيد الأناشيد الليترجيّة. ومع صوته تجسّد سيّد الخليقة في أحشاء مريم، لماَّ قبلت سلام الملاك. وفي أحشائها صار الكلمة جسداً، وحلَّ فيها وفينا، وأتى إلى خاصّته التي لم ينفصل عنها أبداً. أتى إلى صورته التي هبطت من السماء إلى الأرض، التي خرجت من يده، ومن نسمة فيهِ تعالى. أتى إلى خاصّته، وهو في شوق كبير عميق أبديّ إليها. وصار جسداً وسكن في ما بين الناس، الذين أحبَّهم وخلقهم بفعل حبٍّ أزليٍّ وأبديّ.
التجسّد سرّ محبة الله للبشر، لخليقته، لصورته، لمثاله، لإيقونته...لكَ! لكِ! لي! لنا جميعاً... لأن الله الخالق هو الإله المحبُّ البشر! كلَّمنا الله، في العهد القديم، بالأنبياء والوسطاء والمرسلين! لكن لماّ بلغ ملء الزمان أراد الله نفسه أن ينزل إلى الأرض، كي يجعل الإنسان فلاَّحاً في فردوسه وجنّته في هذا العالم، ويعيش مع خليقته لما للإنسان من عظيم الكرامة في عينيه. وهذا ما يقوله الله بلسان أشعيا النبي: "والآن، هكذا قال الربُّ خالقُكَ وجابلك: لا تخفْ فإني قد افتديتُكَ. ودعوتُكَ باسمكَ، إنَّك لي. إذ قد صرتَ كريماً في عينيَّ ومجيداً فإنيّ أحببتكَ!" (أشعيا 43: 1و4).


التجسّد فعل محبة
التجسد فعل محبة! إنّه سر المحبة! وثمرة محبة الله للبشر! لماذا نرفض التجسد؟ لماذا نرفض دخول الله في حياتنا؟ ونسعى وراء آلهة غريبة، غير موجودة، هي صُنْعُ أيدي البشر، ونَزواتِ البشر وشَهواتِ البشر، وتصوُّراتِ البشر، وتَفاهاتِ البشر؟ التجسد ليس عقيدةً عقلانية. إنه سرُّك وسرّي وسرُّ كلِّ إنسان! سرُّ المسيحيّ والمسلم واليهوديّ والبوذيّ... سرُّ شوق الإنسان إلى الله، وشوق الله إلى الإنسان. التجسد هو تلبية أشواق الإنسان الدفينة الحقيقية... ولا أدري لماذا نعتبره سرّاً صعب الإدراك، ويدَّعي البعض أنّه يخالف العقل البشري. وربما ٱعتبره البعض كُفراً وزندقة. التجسد هو التعبير الدَّقيق الصَّميم الباطنيّ الطبيعيّ البديهيّ والأكثر ملاءَمةً لأحلام الإنسان وتطلعات نفسه الخالدة، وسموِّ طبيعته الضعيفة: هذه القصبة المفكِّرة، كما ذكرنا! التجسد هو الثمرة الطبيعية للخلق! وإذا كان الله خلق عن محبة، فقد تجسّد أيضاً عن محبة!

الله الخالق المحبّ
ولهذا نقول في قانون الإيمان: أؤمن بإلهٍ واحد آبٍ ضابطِ الكلّ، خالقِ السماءِ والأرض، كلِّ ما يُرى وما لا يُرى! ولا نقول أؤمن بإله خلق السماء والأرض وانتهى الخلق، وتنتهي علاقة الخالق بخليقته... بل نقول: خالق السماء والأرض. فهو على اتصالٍ دائم أزليٍّ وأبديٍّ، وآنيِّ وحاضرٍ، وفاعلٍ، بالعالم وبالكون وبالإنسان مَلِكِ الكون الذي خلقه على صورته ومثاله... التجسد هو متابعة الخلق وتواصل الخالق بخليقته. وهذا ما أكّده السيد المسيح قائلاً: "إن أبي ما زال يعمل، وأنا أيضاً أعمل"(يو 5: 17) وليس فقط في الماضي، في مطلع الخليقة، وفي التاريخ، بل في حاضر كلّ انسان، وتاريخ كلّ انسان. إنّه يعمل ويخلق ويحبّ ويتجسّد!

التجسّد في التاريخ
إنّه يتجسد في تاريخ كل إنسان! لأنه خالق كل نسمة حياة في هذا الكون. وهذا ما أكّده بولس الرسول للأثينييّن في وسط الأريوباغس: "فهذا الذي تعبدونه وأنتم تجهلونه هو الذي أبشِّركم به. إن الإله الذي أبدع الكون وكلَّ ما فيه، وهو ربُّ السماء والأرض... هو يعطي الجميعَ الحياة والنفس وكلَّ شيء...، إذ فيه لنا الحياة والحركة والوجود" (أع 17: 23-28). هذا هو التجسّد! تجسّد في تاريخ البشرية، في التاريخ، في مطلع المسيحية! وتجسّدٌ في العام الميلادي 2005. ولهذا ننشد في عيد الميلاد: "اليومَ العذراء تأتي إلى المغارة! اليومَ البتول تلد الفائق الجوهر! اليومَ المسيح يولد في بيت لحم من البتول! اليومَ الذي لا بدء له يبتدئ والكلمة يتجسّد".
لكننّا ننشد في قنداق الميلاد: "وُلِدَ لنا طفلٌ جديد! الإلهُ الذي قبل الدهور". ونقول "جديد" وليس "صغير" للدلالة على الخليقة الجديدة في المسيح يسوع. ونقول "قبل الدهور" لنؤكد أن هذا الطفل المولود في التاريخ، هو إله، قبل التاريخ وسيّدُ التاريخ وبه يبدأ التاريخ وينتهي، فهو هو أمس واليوم وإلى الدهور، وهو الألف والياء.
إنَّ هذا التأكيد من جهة على "اليوم" ومن جهة اخرى على "الطفل الجديد الإله الذي قبل الدهور"، يدلُّنا على أن هذا اليوم ليس يوماً ماديّاً فحسب، بل هو "يوم" مرتبط بالتاريخ، لا بل مرتبط بتاريخ التجسد. وقد قرأت عبارة في إحدى متاحف برلين، حيث تؤرَّخ تحفه بهذه العبارة للدلالة على ميلاد السيِّد المسيح: "قبل تحوُّل الزمن! بعد تحوُّل الزمن!" أي قبل الميلاد وبعد الميلاد.
أعطى القديس كيرلّس المقدسي الأورشليمي شرحاً جميلاً لهذا الأمر: "إذاً إن سمعتَ الإنجيل يقول: "كتابُ ميلادِ يسوعَ المسيحِ، ٱبنِ داود، ٱبنِ إبراهيم"، فافهمهُ عن ميلاده حسب الجسد، لأنّه ٱبن داود في ملء الأزمنة، ولكنّه ابن الله قبل الدهور، بلا بداية. تقبَّلَ بنوّته الجسدية التي لم تكن له، أمّا بنوّته للآب فهي له منذ الأزل. إنَّ له أبوين: داود بحسب الجسد، والله الآب بحسب الألوهية. فما هو بحسب داود يخضع للزمن ويُلمَس وله نسب، ولكن ما هو بحسب الألوهية فلا يخضع لزمان أو مكان، ولا نسب له، لأنَّ "مولده من يصفه"؟ "ألله روح": فوُلِدَ روحيّاً – بصفته  لا جسد له – ولذا لا يمكن الكشف عنه ولا إدراكه. الابن ذاته يقول على لسان الآب: "الربّ قال لي: أنت ابني وأنا اليوم ولدتك". هذا "اليوم" ليس حديثاً بل أزليّاً، هو يومٌ لا يحدّه زمن، هو قبل كل الدهور "من الرَّحِمِ قبل كوكب الصبح ولدتكَ" (العظة 11،5).
وهكذا فإن التجسد يربط البشر بحياة الله: يربطُ دقائقَ وساعاتِ وشهورَ وسنواتِ البشر، بحياة الله وأبديَّته وأزليّته. وهكذا يوحِّد التجسدُ تاريخَ البشر ويربطه بأبدية الله، ويجعله تاريخ الخلاص والفداء. لا بل يجعل من زمن البشر المحدود وقتَ الله غير المحدود. ويعطي لوقت البشر المحدود قيمةَ الأبدية والخلود. ويعطي لأعمالِ البشر في الزمانِ والجغرافيا، وحدودِ الأرضِ والتاريخِ، يعطي لهذه الأعمال قيمةً أبدية، قيمةَ الخلاص والفداءِ للإنسان، لنفسِه ولإخوته البشر.

التجسّد الموحِّد
يتجسّد كلمة الله لكي يبقى هذا الكون، وهذا الإنسان واحداً، متناسقاً متماسكاً، موحَّداً، متألقاً، جميلاً، فيه آثار الخالق وميزاته وصفاته، وأهمّها الوحدة!
"الله الواحد، الأحد، الصمد الذي ليس له كفؤ أحد"، يريد أن لا يضيع الإنسان في الكثرة والبعثرة والتمزّق والتِّيه والغربة والبعاد عن الله، والانقسام والخصام والعداوة، والحرب والقتل والدمار، والانتقام والبلبلة والغربة. أراد أن يُشرك الإنسان في وحدته تعالى! ولهذا تجسد في شخص يسوع المسيح "ليجمع في الوحدة  أبناءَ الله المشتّتين!" (يو 11: 52)، وينير ما قد أظلم، ويهدي من ضاع، ويخلِّص ما قد هلك! عبَّر القديس بولس عن هذا التجسّد الموحِّد بطريقة رائعة في رسالتة إلى أهل أفسس: "إنَّ المسيح هو سلامُنا، هو الذي جَعَل مِنَ الشَّعبَيْنِ واحدًا، إذْ نَقَضَ الحائِطَ الحاجِزَ بينَهما، أيِ العداوة؛ وأَزالَ، في جسدهِ، النَّاموسَ مَعَ وصاياهُ وأحكامِهِ، لكي يُكوِّن في نفسِهِ، مِنَ الاثْنَيْنِ إنسانًا واحدًا جديداً، بإحلالِ السَّلامِ (بَيْنَهما)، ويُصالِحَهما مَعَ الله، كلَيْهما في جسَدٍ واحدٍ، بالصَّليبِ الذي بهِ قَتَلَ العَداوة. فلَقد جاءَ وبَشَّرَ بالسَّلام، بالسَّلامِ لكم، أنتمُ البَعيدينَ، وبالسَّلامِ للَّذين كانوا قَريبين: لأنَّ بهِ، لنا كِلَيْنا، التَّوصُّلَ، إلى الآب، بروحٍ واحد" (أفسس 2: 14-18) .

يسوع الكلمة المتجسّد
"والكلمة صار بشراً وسكن بيننا مملوءاً نعمة وحقاًّ وقد رأينا مجده، مجدَ ابنٍ وحيدٍ آتٍ من الآب"(يو 1: 14).
الكلمة الذي في البدء! الكلمة الله! كلمة الله الخالق... صار جسداً. خلق بكلمته كل شيء! قال كوني فكانت! قال ... فخلق... وتجسّد... الكلمة الخالق هو الكلمة المتجسّد!
"وقال الله: لنصنع الانسان على صورتنا كمثالنا" (تك1: 26). هذا الذي خلق، هو نفسه تجسّد. ولذا قال يوحنا الانجيليّ الرسول الذي كان يسوع يحبّه: "الله محبة"(1يو 4: 8) الله الخالق محبة! الكلمة الخالق المتجسِّدة هو كلمة محبة الله لخليقته وللناس الذين خلقهم ويخلقهم! هكذا أحبّ الله العالم، وأرسل ابنه الوحيد إلى العالم، إلى هذا الكون الذي أحبّه، وشبَّهه بالكرم، فقال: "أنا الكرمة الحقيقيّة وأبي الكرّام"... "أنا الكرمة وأنتم الأغصان"(يو 15: 1و5).
في طقسنا الشرقي نشيدٌ فريدٌ بالمقارنة مع باقي الطقوس شرقاً وغرباً، يرنّمه المؤمنون بألحان وأنماط مختلفة. وهو مختصر لمعاني الميلاد المجيد. إنّه نشيد الكلمة المتجسِّد: "يا كلمة الله الابن الوحيد الذي لا يموت. لقد رضيتَ من أجل خلاصنا أن تتجسد من والدة الإله القديسة مريم الدائمة البتولية. فتأنَّستَ بغير استحالة وصلبتَ أيها المسيح إلهنا وبالموت وطئت الموت. أنت أحد الثالوث القدوس الممجَّد مع الآب والروح القدس خلصنا".

التجسّد أساس إيماننا المسيحي
التجسّد هو أساس إيماننا المسيحي وجوهره. وهكذا فليس الميلاد عيداً بشريًّا أو ماديًّا أو جسديًّا. وليس هدايا وليس "بابا نويل"، وليس احتفالاً خارجيًّا ظاهريًّا... التجسّد مرتبط بحياة البشر، مسيحييّن وغير مسيحيين. التجسّد هو محطُّ آمال البشرية كلّها. وهذا ما عبَّر عنه الآباء القديسون كما نقرأ في خدمة عيد بشارة العذراء مريم: "اليوم انكشف السّرُّ الذي منذُ الدُّهور. وابنُ الله يصير ابن البشر. حتّى إنّه باتخاذهِ الأدنى يَمنحنا الأفضل. آدم قد ٱشتهى قديماً أن يصير إلهاً، فخاب قصده ولم يصر. فصار الإله إنساناً لكي يصير آدم إلهاً. فلتبتهج إذاً الخليقة، ولتجذل الطبيعة".
ونرنّم في عيد الميلاد: "هلمَّ نبتهج بالربّ، مذيعين السرَّ الحاضر. فإنّه قد زال سياج الحائط المتوسِّط. والحربة اللهيبية تنقلب راجعةً. والشيروبيم يُبيحُ عودَ الحياة. أمّا أنا فأعود إلى التمتّع بنعيم الفردوس، الذي نفيتُ منه قبلاً بسبب المعصية. لأن صورةَ الآب وشخصَ أزليّته، المستحيلَ أن يكون متغيّراً، قد اتَّخذ صورة عبدٍ. وورد من أمٍّ لم تعرف زواجاً، من غير استحالة. إذ إنه لبثَ إلهاً حقيقيًّا كما كان. واتخذ ما لم يكن، إذ صار إنساناً لأجل محبّته للبشر. فلنصرخ إليه هاتفين: يا من وُلدَ من البتول. أللّهمَّ ارحمنا". وأيضاً: "اليوم السماء والأرض اتّحدتا بولادة المسيح. اليوم الإله على الأرض ظهر. والإنسان إلى السماوات صعِد"(خدمة عيد الميلاد).



التجسّد يرسم هدفاً للحياة
من خلال التجسّد والإيمان بكلمة الله المتجسّد، نكتشف أنّا أعضاءٌ في أسرة كبيرة. كما يقول بولس الرسول: "فأنت إذاً، لستَ بعدُ عبداً، بل أنتَ ابنًٌ. وإذا كنتَ ابناً فأنت أيضاً وارثٌ (بنعمة) الله"(غلا 4: 7). وهكذا نصبح بالمسيح المتجسّد أسرةَ الله وأسرةَ الكنيسة، وأسرةَ البشرية كلّها! ومن خلال ذلك نكتشف معنى حياتنا، ومصدرَها، ووجودَها وجوهرَها وغايتَها وشرفَها وكرامتَها. ومن خلال ذلك نشعر بالمسؤولية الناجمة عن هذا الشرف الأثيل والكرامة الأصيلة والمقام الرفيع والأصل الشريف.
ومن خلال ذلك نشعر بأنه علينا أن نأتي بثمار، ونخدم الآخرين، ونكون بناةَ عالمِ حضارةٍ وحياة، وصانعي سلامٍ ومفجِّري المحبة والخير والازدهار في المجتمع. وبدون هذه القناعات نقع في اليأس والقنوط  ونفقد معنى الحياة، ونصبح أناساً أشراراً، ونهدم ونقتل وندمِّر الآخر ونستثمره ونستغلّه ونحتقره ونشنِّع ونبشّع صورة الله، الإنسانَ، أخانا ورفيقَ دربنا، سواء أكان زوجاً أو زوجة، ابناً أو ابنة، قريباً أو نسيباً، جاراً أو مواطناً أو أجنبيًّا، أسودَ أو أبيضَ، من ديننا أو من غير ديننا...
إن التجسّد هو أصل كرامة الإنسان وشرفه وقيمته! ومن لا يفهم التجسّد لا يفهم معنى الحياة. ومن لا يؤمن بتجسّد ابن الله في هذا الكون لا يمكنه أن يجدَ معنى للحياة، أو يجد فيها لذّة أو نعيماً، أو يعمل على إسعاد الآخر وخدمته... ولهذا قال القديس إيريناوس: "إن مجد الله هو الانسان الحيّ". ولذا وبهذا نربط معنى الحياة بمعنى السماء وقيمة حياة الإنسان بقيمة حياة الله. وهذا ما عبَّر عنه الآباء القديسون بعبارة التأليه والمشاركة في البنوّة الإلهية وفي حياة الله، في اللاهوت: "الكلمة صار جسداً لكي يجعل الإنسان قادراً على أن يتقبَّل اللاهوت"؛ "وصار إنساناً لكي يوحِّدنا مع الله بشخصه" (أثناسيوس الإسكندري) . "هذا هو مغزى السرّ الأعظم الحاصل من أجلنا، سرّ محبة الله المتجسِّد لأجلنا... لقد جاء ليجعلنا جميعاً واحداً في المسيح"(غريغوريوس النزينزيّ).

الإفخارستيا هي التجسد الدائم
احتفلنا هذا العام 2005 بسنة الإفخارستيا واشتركتُ حول قداسة البابا بندكتوس السادس عشر مع  حوالى مئتين وخمسين مطراناً من العالم كلّه بسينودس الأساقفة وتأملنا معاً في سرّ الإفخارستيا المقدّسة.
إنَّ الافخارستيا هي سرّ التجسد الدائم وتأوينه. ولذا فقد أدخلت كنيستنا الملكية، في طقسها، عيد الجسد الإلهيّ، الذي هو في أصله عيد غربي متعلّق بخاصة بأعجوبة جرت في إيطاليا، وجعلت منه عيد التجسّد، عيد التدبير الخلاصيّ بأسره، عيد الأعياد وموسم المواسم، فصحاً دائماً.
وهذا  ما تشير إليه صلوات العيد وأناشيده: "إن المسيح إذ أحبَّ خاصته وإلى الغاية أحبَّهم، منحهم جسده ودمه مأكلاً مشرباً"؛ وأيضاً: "أعجبُ العجائب كلّها أن يرى الإله بجسد... أما مجموع العجائب كافّة، فهو وجوده الفائق الإدراك تحت الأعراض السريّة".
من خلال الليترجيا نحتفل بسر الكلمة المتجسد، ثم نكرس ونقدس الخبز والخمر، وختاماً نشترك من خلالهما بجسد الرب ودمه، لا بل بحياته كلّها.
وننشد في ختام الليترجيا الإلهية نشيداً ميلاديًّا وثالوثيًّا في آنٍ واحد: "لقد نظرنا النور الحقيقيّ وأخذنا الروح السماوي ووجدنا الإيمان الحق. فلنسجد للثالوث غير المنقسم لأنه خلصنا". ويصلي الكاهن سرًّا في ختام ليترجيا القديس يوحنا الذهبيّ الفم: "أيها المسيح إلهنا، بما أنَّك كمال الناموس والأنبياء. وقد أكملتَ كل ما دبّرته عنايةُ الآب، إملأ قلوبنا فرحاً وسروراً كل حين". ويصلي الكاهن في ختام ليترجيا القديس باسيليوس الكبير: "أيها المسيح إلهنا لقد رأينا رسم قيامتك، وامتلأنا من حياتك التي لا نهاية لها..."، هكذا نعيش أحداث التجسّد ومراحل تدبير الله علينا في ليترجيّا القداس والإفخارستيّا المقدسة.

الإفخارستيّا سرّ الوحدة المسيحية
الإفخارستيّا هي سرُّ الوحدة المسيحية الكبير: وحدةِ الله مع البشر، ووحدة البشر في ما بينهم. وهو غاية سعي المسيحييّن نحو وحدتهم في المسيح الواحد، وفي سرّ الإفخارستيا الذي هو رمز وحدتهم وقمة هذه الوحدة وكمالها. فلا وحدة حقيقية بلا إفخارستيا واحدة بين جميع المسيحييّن، ولا إفخارستيا حقيقية بدون وحدة المسيحيين. وستبقى شهادة المسيحييّن محصورةً محدودةً ضعيفة، إذا لم تتحقق إفخارستيا واحدة، يجتمع فيها جميع المسيحيين حول المائدة الواحدة والمسيح الواحد، والأسقف الواحد، في شراكة روحية كنسية اجتماعية مؤسّساتية واحدة.
ولهذا فإنَّ المسيحيين يصبون إلى الإفخارستيا الواحدة، ويختلفون حول الإفخارستيا الواحدة! ولهذا نفهم عمقَ وسببَ عدمِ إمكانية المشاركة في الإفخارستيا الواحدة بين المسيحييّن، إذا لم تتحقق الوحدة الكاملة الحقيقية بينهم.
أجل يمكن في ظروف معيّنة أن يتقبّل المؤمنون القربان المقدّس في كنائس مختلفة. ولكن هذا الأمر تصرّف فرديّ وعابر وقرار شخصيّ، ولا يعني أبداً حصول الوحدة بين الكاثوليك والأرثوذكس. لقد باركنا الله فدشّنا معاً، أنا وغبطة بطريرك الروم الأرثوذكس، كنيسة واحدة مشتركة هي كنيسة القديسَين بطرس وبولس في دمّر (دمشق). ومع ذلك فنحن لم نحقّق الوحدة، ولكنّا خطونا خطوة جديدة مميزة. والله يسدِّد خطانا في السير معاً لتحقيق أهداف وحدوية لاحقة، تقودنا إلى الوحدة الكنسيّة المرجوّة. ونحن لا نقطع الأمل أبداً من تحقيقها لأنها موضوع صلاة يسوع، الذي أراد أن يكون جميع تلاميذه المؤمنين به واحداً لكي يؤمن العالم!

صلاة يسوع لأجل الوحدة
التجسّد والتوحيد هما عبارتان متلازمتان. ونجد الإشارات إلى قصد الله في توحيد خلائقه، به وفي ما بينها في عمق الوحي الإلهي.
والأمر عينه نجده في العهد الجديد في بشارة يسوع، في تعاليمه، في عجائبه، في أمثاله عن ملكوت الله بين البشر، في خطابه قبل الآلام الخلاصية، وبخاصة في صلاته الكهنوتية الاحتفالية الرهيبة لأجل وحدة المؤمنين به: يا أبتاه! ليكونوا واحداً كما نحن واحد! وكأن خطًّا متواصلاً يربط كل أحداث حياة يسوع بهذا "الهوس الإلهي"، أن لا يضيع الإنسان ويتقوقع ويتبعثر ويتصدَّع في نفسه، في فكره، في قلبه، في تطلعاته، في حياته الشخصية، والمهنية، والعائلية أو المجتمعية... هذا الإنسان الذي خلقه الله على صورته كمثاله، يريد أن يجمعه في حظيرة واحدة، ويكون له الراعي الصالح الذي يترك التسعة والتسعين خروفاً ليذهب في طلب الضالّ، ويحمله على منكبيه ويعود به إلى الحظيرة، فتكون رعية واحدة وراعٍ واحد! ويكون هو الكرمة والبشر الأغصان المتحدة بربط المحبة، فتأتي بثمار وافرة وتدوم ثمارها.
إلى هذه الوحدة يشير نشيد رائع في خدمة عيد الصعود الإلهي: "أيّها الإله، لقد جدَّدت بذاتك طبيعة آدم الهابطة إلى أسافل الأرض. وأصعدتها اليوم فوق كلِّ رئاسةٍ وسُلطة. لأنَّك لحبِّك إياها أجلستَها معكَ. ولتحنُّنكَ عليها وحَّدتَها بكَ. ولاتحادكَ بها تألَّمتَ فيها. ولتألمكَ فيها، وأنتَ عادم التألم، مجَّدتَها معكَ".
ويأتي حدث العنصرة حيث يحلُّ الروح القدس على التلاميذ الخائفين أمام صعوبة الرسالة التي أوكلها يسوع إليهم بعد قيامته قائلاً: "إذهبوا إلى العالم كلّه، وبشِروا بالإنجيل للخليقةَ كلَّها"(متى 16: 15). لكنه في الوقت نفسه شجَّعهم واعداً إياهم بعربون الروح القدس قائلا": "إنتظروا موعد الآب الذي سمعتموه مني... بيدَ أّنكم ستنالون قدرة الروح القدس الذي سيأتي عليكم فتكونون شهودي إلى أقاصي الأرض!" (أع 1: 4 و8).
ويومَ العنصرة نال الرسلُ الروحَ القدسَ بشكل ألسنة ناريّة، ورأوا الجموع تستمع إلى عظة بطرس وتُفجِّر في قلوبهم الإيمان بالمسيح، فيعودون إلى بلادهم وقد وحَّدهم الإيمان الواحد. وعلى الأثر انطلق الرسل إلى الأصقاع التي سمعت بشرى يوم العنصرة، ونشروا الإيمان بالمسيح بلغاتٍ مختلفة في الثقافات المختلفة بين الشعوب المتعدّدة...
حدَثُ العنصرة هو تجسّد الروح الموحِّد في العالم، كما نقرأ في ترانيم عيد العنصرة المجيدة: "لماَّ نزل العليّ وبلبل الألس قسَّم الأمم. وحين وزَّع الألسن النارية دعا الجميع إلى الوحدة. فنمجّد الروح القدس باتفاق الأصوات". من هذا النشيد نكتشف وحدة الله في ثالوث يدعو البشر إلى الوحدة. وهذا ما عبَّر عنه الآباء القديسون بهذا النشيد في خدمة عيد العنصرة: "هلّموا أيّها الشعوب، نسجد للثالوث المثلَّث الأقانيم، الابن في الآب مع الروح القدس. لأنَّ الآب وَلد بلا زمن الابنَ المساويَ له في الأزليّة والعرش، والروحُ القدسُ كان في الآب ممجّداً مع الابن. قوّةٌ واحدة. جوهرٌ واحد. ولاهوتٌ واحد."

الكنيسة مكان الوحدة
حدث العنصرة هو عيد الوحدة والتعددّية، لا بل هو أساس علامات الكنيسة كما صاغها آباء الكنيسة في قانون الإيمان النيقاوي: أؤمن بكنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية.
هذه العلامات هي تحقيق أهداف التجسّد والفداء والخلاص في العالم. فالكنيسة هي مكان الوحدة والخلاص والفداء. وهذا ما شرحه ببلاغة رائعة القديس إيريناوس (+202): "إنَّ الكنيسة، على انتشارها في العالم كلّه، من أقاصي الأرض إلى أقاصيها، قد نالت من الرسل وخلفائهم الإيمان بإله واحد، آبٍ ضابط الكل، ونالت أيضاً الإيمانَ بيسوعَ المسيحِ الواحد ابنِ الله المتجسِّد لأجل خلاصنا. وبالروح القدس الواحد. وبالرغم من انتشارها في العالم كلّه، فهي تحفظ هذا الإيمان بكل دقةٍ كأنها تعيش في مكان واحد، وتؤمن إيماناً واحداً، كأنَّ لها قلباً واحداً وروحاً واحداً. وباتفاق تامٍّ تبشِّر بهذا الإيمان وتعلّمه وتمنحه، كأنها تملك للنطق به فماً واحداً. اللغات على الأرض مختلفة، ولا شكَّ، لكن قوّة التقليد واحدة ومتشابهة، والكنائس المؤسسة والمنتشرة في العالم كلّه تؤمن إيماناً واحداً."
الكنيسة تحقق الوحدة بين جميع المؤمنين في العالم أجمع من خلال مهمة التقديس والتعليم والتنظيم، بحيث تتحقق الوحدة من خلال التعليم الواحد، والاحتفال الواحد بالأسرار المقدسة الواحدة ومن خلال الوحدة في النظام والرعاية.

تطبيقات عملية
دعوة يسوع المتجسِّد الموحِّدة موجَّهة اليوم إلى كنيستنا الرومية الملكية الكاثوليكية على كل المستويات: الوحدة الداخليّة والوحدة الخارجية؛ الوحدة مع ذواتنا، مع تراثنا، مع تقاليدنا، مع قوانين كنيستنا، مع طقسنا، مع قوانين رهبانياتنا، مع شرعنا الخاصّ...

دور كنيستنا الوحدوي
هذه الوحدة هي أيضاً عملنا جميعاً في بطريركيتنا الرومية الملكية الكاثوليكية، الوحدة على كل المستويات. لكي تتحقق ثمارُ التجسد والتوحيد في هذه الكنيسة الرسولية، وتتحقق دائماً أمنية البابا الراحل يوحنا بولس الثاني التي قالها لنا لدى زيارتنا الأولى له عام 2001: "أنتم كنيسة قوية ومتماسكة".
إني أكتشف أكثرَ فأكثر أهمية هذه الوحدة في خدمتي البطريركية. ولا عجب فإني كنت أشعر بهوس الوحدة منذ سنوات دراستي الكهنوتية ونشأتي في دير المخلص وتحصيلي الأكاديمي في رومة. وعلى أثر عودتي إلى لبنان أسست مجلة "الوحدة في الإيمان" (1962)، وشاركت في الحركة الوحدوية المسكونية في لبنان في الستينات ومطلع السبعينات. وفي أثناء خدمتي كنائب بطريركي عام في القدس، كنتُ أجمع رؤساء الكنائس المسيحية هناك في لقاءات شهرية، دورية أخوية وعفوية غير رسمية، لأجل تحقيق عملٍ وطنيّ وجماعيّ واجتماعيّ وراعويّ وكنسيّ متفاعل. وفي القدس أسست مع أصدقائي مسيحييّن ومسلمين "مركز اللقاء"، و"الندوة المقدسية" و"مركز كيرلّس للثقافة الدينية"... وكلّها مشاريع تهدف إلى جمع  الكلمة الفكرية والروحية والاجتماعية والرعوية، التي تجلّت في أروع مظاهرها في المجمع الأبرشي المشترك بين الكنائس الكاثوليكية في الأرض المقدسة.
إن تحقيق أهداف التجسد الموحِّد واجبٌ بالغ الأهمية داخل كنيستنا وخارجها، داخل مجتمعنا الكنسيّ الشرقي، وعلى مستوى الكنيسة الجامعة. هذا إرث كنيستنا الأنطاكية وهذا دورها عبر تاريخها. وهذا ما أوضحتهُ في رسائل متعدّدة إلى رومة، وفي أثناء سينودس الأساقفة في تشرين الأول من هذا العام. لقد أبرزتُ أهمَّ محطات هذا الدور ومراحله ابتداءً من البطريرك الأنطاكيّ بطرس الثالث الذي حذّر البطريرك ميخائيل كيرولاريوس من مغبَّة كسر الشركة مع رومة (عام 1054). وهذا مقطع من رسالته: "ليلَ نهارَ تساءَلتُ عن سبب القطيعة الكنسية، وكيف يمكن أن يُستبعَدَ خليفة بطرسُ الكبير، ويُفصلَ عن جسم الكنائس الإلهيّ، ولا يُسمعُ صوته في مجلس الأساقفة، ولا يتحمّل قسطه من الاهتمامات الكنسية، على أن يتلقَّى منهم، هو أيضاً توجيهاً أخويًّا ورسوليًّا". ولا ننسَ الرعيل الأول الذي جاهد في إنجاز الوحدة مع كنيسة رومة على الرغم من كل ملابساتها (1724). وهل ننسى سلفنا البطريرك غريغوريوس الثاني في المجمع الفاتيكانيّ الأول (1870)، حيث حذّر من مخاطر تحديدٍ أحاديِّ الجانب للعصمة البابوية لما لها من أهمية بالغة في علاقات الكنيستين الرومانيّة والأرثوذكسية. وتمثلت المحطَّة الكبرى في الدور المميَّز الفريد الفاعل البارز الذي لعبه سلفنا البطريرك مكسيموس الرابع الصائغ وأحبار كنيستنا في المجمع الفاتيكاني الثاني في عدة أمور لا يزال تأثيرها بادياً حتى اليوم في العمل المسكونيّ وحياة الكنيسة وهيكليتها.
أمام هذا الإرث العظيم، لا يجوز لنا أن تخور قوانا أمام متطلّبات الوحدة المسيحية، ولا أن نشكك في دورنا المسكونيّ الوحدويّ الفريد على مستوى الشرق والغرب.
فنحن نمثِّل في شركتنا مع رومة حضور "الغائب الأكبر والحاضر الأكبر" أعني الكنيسة الأرثوذكسية. ليس لكي نحلَّ محلَّها، ولكن لكي نثير دائماً انتباه الكنيسة الغربية إلى الكنيسة الشرقية وتراثها بكل غناه وأبعاده: اللاهوتية والآبائية والليترجية والراعوية.
إنَّ ما يسمّى الشقاق الكبير والذي وُضِعَ له تاريخٌ رمزيّ وهو العام 1054، لم يكن سببُهُ خلافاً لاهوتيًّا في مجمع مسكونيّ، وإنما بدأ بزعل وحَرَدٍ بين البطريرك ميخائيل والكردينال هومبرتوس. وطال الزعل وأتت ظروف سياسية تاريخية معروفة خلقت هوّة بين الشرق والغرب. والعقيدة المسيحية منها براء! وعلى الأثر بدأ كل فريق يشدِّد على الأمور التي تفرِّق وتزيد في عمق الهوّة والغربة والتغرّب بين الشرق والغرب.
اليوم تتمُّ الوحدة بالمصالحة وإزالة الزعل والحرد وإنماء المحبة وبتأكيد على أن ما يجمعنا أكثر بكثير مما يفرِّقنا. وهذا هو مختصر لاهوت التجسّد ومعاني عيد الميلاد:إن  اعتقادي أن الاتحاد ممكن إذا تواضعنا كلّنا أمام الله وقبلنا ثمار التجسد الموحِّد. وعندما نتَّحد يمكننا أن نحلَّ العقد اللاهوتية من الداخل، من خلال شركتنا الكنسية، وحياتنا معاً وتواصلنا معاً واكتشاف بعضاً بعضاً من الداخل ومن خلال شركتنا نفسها، ومن خلال محبة الله لنا ومحبتنا بعضنا بعضاً.
إنَّ رسائلي البطريركية في هذه السنوات الأولى من خدمتي البطريركية، هدفت كلها إلى دعم مسيرة كنيستنا كي تزداد قوةً وتماسكاً وترابطاً ونموًّا وتضامناً ووحدة. لأن الأمور الموحَّدة تبقى كما يقول المثل المعروف: "في الاتحاد القوة". من هذا المنطلق تتوضّح لنا جميعاً رؤية دورنا الوحدوي.

الوحدة في الحياة الطقسية
تشدِّد الكنيسة على وحدة الطقوس لأنها تعبير عن وحدة الكنيسة. هذا ما نقرأه في "مجموعة قوانين الكنائس الشرقية"، فالقانون 39 ينصّ على ما يلي: "يجب أن تُحفظَ وتُعزَّز بعناية وورع طقوسُ الكنائس الشرقية على أنها تراث لكنيسة المسيح الجامعة، يشرق فيه التقليد الآتي من الرسل بطريق الآباء ويؤكد وحدة الإيمان الكاثوليكي الإلهية في التنوّع".
أما البند 1 من القانون 40 فينصّ على التالي: "ليُعنَ من يرئسون الكنائس المستقلّة وجميعُ الرؤساء الكنسيّين الآخرين، عنايةً بالغةً بصون طقسهم بأمانة وممارسته بدقّة، ولا يقبلوا أيّ تغيير فيه إلا بداعي تطوره العضوي واضعين نصب أعينهم تعاطف المسيحيين ووحدتهم".
ونقرأ في نداء البابا الراحل يوحنا بولس الثاني حول الأمانة للمراسم الطقسية: "وفي عصرنا أيضاً، علينا أن نكتشف قيمة الطاعة للمراسم الطقسية، لأنها شهادة لوحدة الكنيسة وشموليّتها ومرآة لها. وهي تتجلّى في كل احتفال ليترجيّ. إن الكاهن الذي يحتفل بالليترجيّا الإلهية بأمانة للمراسم الطقسية، مع رعيته، يظهر بطريقة صامتة وفصيحة، محبتّه ومحبتها للكنيسة".
لقد بُذلتْ في كنيستنا جهودٌ جبارة في المجال الليترجيّ والطقسيّ منذ أواخر الخمسينات مع المثلث الرحمة المطران نيوفيطوس إدلبي، وعام 1969 مع إصلاحات أقرَّها السينودس المقدَّس وبخاصة في عهد سلفنا مكسيموس الخامس وفي أثناء رئاستنا للجنة الليترجيّة السينودسيّة والبطريركية (منذ عام 1986). ولبست كتبنا الطقسية حلّة قشيبة في النصوص والألحان. ومع ذلك نرى هنا وهناك من يزدري هذه المجهودات ويُعرِضُ عن استعمال هذه الكتب. وهناك من ينشر كتباً أخرى بدون إذن السلطة الكنسية وموافقتها أو يحوِّر في النصوص على هواه. هذا مخالف للقوانين الكنسية والشرع الكنسيّ صراحة، هذا مع العلم أن سلطة البطريرك في الشأن الليترجي تشمل الكنيسة الرومية الملكية الكاثوليكية جمعاء في البلاد العربية وفي بلدان الانتشار قاطبة وفي كل العالم.
ونودُّ أن نذكِّر بمقطع من المرسوم البطريركي لسلفنا المثلث الرحمة البطريرك مكسيموس الخامس في تقديم الكتب الجديدة. وهو يختصر تطلعاتنا في الشأن الليترجي. والمقطع هو التالي: "ولنا الأمل الوطيد في أن يسهم هذا الكتاب، بحلّته الجديدة، في إحياء تراثنا الليترجيّ العريق، وتفهّم أعمق للروحانيّة الشرقيّة. فيكون وسيلة فعّالة لمناجاة الرّب والتقرّب إليه، واقتفاءِ أثر السلف الصالح، الذي طالما وجد في صلوات أمّنا الكنيسة، مصدراً ثرًّا للتقوى والعبادة، فكانت له سبيلاً إلى الحياة المسيحيّة الأصيلة والقداسة".
إنَّ وحدة الكنيسة تظهر أيضاً من خلال الألحان. إن نتاجنا الإنشادي لدى الرهبانيات والمرنمين والجوقات هو تراث ملكي موسيقي مشترك ومتشابه جداً، ولو برزت اختلافات بسيطة.
ولذا دأبنا على نشر هذا التراث تحت هذا العنوان: ترانيم كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك في الصلوات الطقسية وفي ترانيم ليترجيا القداس الإلهي.
ولنا الأمل أن تسهم هذه المنشورات في توحيد الحدّ الأدنى من الألحان بحيث تعمُّ أبرشياتنا ورعايانا ورهبانياتنا ومدارسنا وأخوياتنا ومؤسساتنا ومعاهدنا المباركة. ولا شكَّ أن الصلاة والإنشاد والاحتفال بالصلوات والليترجيا الإلهية هي المواقع التي تُظهر بالأكثر وبأفضل صورة قوة كنيستنا وتماكها ووحدتها. وهكذا نحقق شعاراً أطلقناه في التقويم الطقسي بحلته الجديدة.
كنيسة رومية كاثوليكية واحدة، نصوص طقسية واحدة.
كتب طقسية واحدة، ألحان عامة واحدة.


السعي نحو وحدة العمل الرعوي
إنَّ الوحدة الكنسية تتجلّى أيضاً في قطاع آخر هو العمل الرعوي وبخاصة في خدمة الأسرار وتوزيعها وفي خدمة الرعية وفي راعوية الشباب بنوع خاص. وهذا هو موضوع المجمع البطريركي الذي تحدِّد مجموعة قوانين الكنائس الشرقية غايته وأهدافه السامية في البند 140 حيث نقرأ: "المجمع البطريركيّ هو الهيئةُ الاستشارية لكلّ الكنيسة التي يرئسها البطريرك وسينودس أساقفة الكنيسة البطريركية في الأمور ذات الأهمية الكبيرة، للتوفيق بين أوجه الرسالةِ وأساليبها والنظام الكنسيّ من جهة، وما يجدُّ من ظروف الزمان والخير العامّ في الكنيسة الخاصّة من جهةٍ أخرى، مع مراعاة الخير العامّ في كلِّ رقعة الأرض التي تتعايشُ فيها كنائسُ مستقلّةٌ متعدّدة." أما القانون 141 فيقول: "يجب أن يُدعى المجمعُ البطريركيّ كلَّ خمسِ سنوات على الأقلّ، وبموافقة السينودس الدائم أو سينودس الكنيسة البطريركيّة كلَّما رأى البطريرك ذلك مفيداً".
أملنا كبير وتطلعاتنا عالية أن تساعدنا دراساتُ المجمع البطريركي وتوصياته وقراراته حول الموضوع المقرّر له أعلاه في صياغة دليل رعوي شامل يجسِّد رؤية راعوية واضحة المعالم والأهداف ويرسم السبل المتطورة والمبتكرة المبدعة لأجل تحقيقها. بحيث يسهم المجمع في وحدة العمل الرعوي وتفعيله لأجل حفظ الإيمان قوياً عميقاً في أبرشياتنا ورعايانا وبخاصة عند أجيالنا الطالعة.

وحدة النظام الكنسي في الأبرشيات
لقد ظهر الشرع الكنسي الشرقي الجديد عام 1990 بعنوان "مجموعة قوانين الكنائس الشرقية". وهو إلزاميّ لكل الكنائس. وعلى أساس هذه القوانين قدَّمت اللجنة القانونية دراسة وافية إلى السينودس المقدّس حول النظام الداخليّ لكل أبرشية، بحيث يستند هذا النظام إلى هذه القوانين وهي تشكِّل الإطار القانوني العام لكل الكنائس الشرقية؛ ويستند أيضاً إلى النظام أو الشرع الخاص الذي أقرّه سينودسنا المقدس في صيغته الحالية عام 2004. ويستند هذا النظام أيضاً على أوضاع كل أبرشية وحاجاتها وخصوصياتها المختلفة. والمقصود هو أن يصبح هذا النظام الدستورَ الواضح لكل أبرشية يُلزم المطران والكهنة والرهبان والراهبات والعلمانيين ويكون في أيدي الجميع. لكي يتعاون الجميع في مسيرة كنسية مشتركة واحدة لخير الكنيسة أفراداً وجماعات، ونموّ رسالتها ونجاحها في المجتمع. بالأسف لا تزال أكثر الأبرشيات بدون هذا النظام والدستور. وإذا وجد يبقى هذا النظام نصاً محصوراً بالمطران أو بمن حوله. نأسف أنه لم تُفهم الغاية المقصودة من التشديد على وضع هذا النظام لأنه حامل وحدة كنسية، بالإضافة إلى كونه واجباً راعوياً تفرضه القوانين الكنسية...
إنَّ تجاوز القوانين الكنسية أو عدم الاطلاع الكامل عليها وعدم بذل الجهود اللازمة لمعرفتها وتطبيقها، يجرُّ الكنيسة إلى الفوضى ويضعف طاقات الإبداع ومسيرة التجديد وخصب الخدمة الرسولية ونجاح العمل الرعويّ، على مختلف المستويات، ويجعل الكنيسة عاجزة عن مواجهة التحديات وتلبية متطلبات الأجيال الطالعة ونجاح رسالتها في المجتمع. لا بل هو نسفٌ وهدمٌ لوحدة الكنيسة الداخلية.
ولا بدَّ لكنيستنا الرومية الملكية الكاثوليكية أن تتحدَّث وأن تنطلق في مراقي التقدم والازدهار مستندة إلى كل التقنيات والأساليب المعاصرة، لكي تتمكن من خلال ذلك من التواصل بكل أبناء وبنات رعايانا في العالم بأسره.

الوحدة في الانتماء والتضامن
من ثمار التجسّد الموحِّد الوحدةُ الكنسيّة الداخليّة، إذ إنّها جسدٌ واحدٌ، كما يعلِّمنا بولس الرسول موضحاً بطريقة رائعة وحدة المسيح، ووحدة المؤمنين بالمسيح، وحدة الرجل والمرأة، وحدة الأسرة، ووحدة الأعضاء في الجسد الواحد، حيث يقول: "فكما أنَّ الجَسَدَ واحدٌ، ولَهُ أعضاءٌ كثيرةٌ، هي جسدٌ واحدٌ، كذلكَ المسيحُ أيضاً. فإنَّا جميعاً قَدِ ٱعتمدنا بروحٍ واحدٍ لجَسَدٍ واحدٍ، يهوداً كنّا أمْ يونانيينَ، عبيداً أمْ أحراراً؛ وسُقينا جميعاً من روحٍ واحد"    (1 كور 12-13).
إنَّ شعاري البطريركي "إسهروا وسيروا بالمحبة" يعني بالدرجة الأولى السهر على وحدة الكنيسة الداخليّة بين جميع أعضائها بحيث تتحقّق ثمار الميلاد والتجسد في كنيستنا بطريركاً ومطارنة وكهنة ورهباناً وراهبات وعلمانييّن، كلهم مؤمنو الكنيسة الروميّة الملكيّة الكاثوليكيّة الواحدة.
إنّا كنيسةٌ بلا حدود ومنفتحةٌ على الآخرين. ولكن لا بدَّ لأجل تحقيق هذه الصفات، من أن يكون لنا هُويَّة واضحة المعالم، بحيث نكون كنيسة متحصّنة بوحدة داخليّة قويّة بعيدة الجذور وصامدة أمام كل أخطار الانشقاق والتفكك والتعصّب الداخليّ، والحزبية (رهبانيةً كانت أم كهنوتيّة، قوميّةً أم طبقيّة...).
من الضروري أن نرى صفوفنا متراصّة كما أوضحتُ في رسالتي الميلادية لعام 2003 (الفقر والإنماء) عندما طرحت مشروع "التضامن الملكي"، بحيث يتعهّد كلُّ فرد روم كاثوليك بأن يدفع دولاراً واحداً سنويًّا لدعم كنيسته المنتشرة قي أقطار العالم.
وأوضحتُ آنذاك أن مشروع التضامن الملكيّ يجب أن يشمل جميع الروم الكاثوليك فرداً فرداً، وفي كلّ مكان. إنه لا يهدف فقط إلى التقدّم الماديّ، وجمع المال الوفير لخدمة الفقير وإطلاق ورشة الإنماء. إنه ذو بعد روحيّ جماعيّ كنسيّ عام. إنّا نأمل أن نحقق من خلاله نمواً في الانتماء الكنسيّ، وفي التضامن الروميّ الملكيّ الكاثوليكيّ، وفي الشعور بأنّا جسمٌ واحد، وكنيسة واحدة، وجماعة وطائفة مترابطة. بحيث يصبح كلُّ شخص روم كاثوليك في العالم، مرتبطاً بأخيه الروم الكاثوليك في كل العالم.
ونحبّ أن نشدّد هنا على الوحدة بين أعضاء الأسرة الواحدة وأفرادها. فإن أخطاراً كثيرة تهدّد الأسرة ووحدتها وثبات سر الزواج المقدس. يربط بولس الرسول بين وحدة المسيح والكنيسة ووحدة الرجل والمرأة ووحدة الزواج المسيحي وثباته، فيقول: "إن هذا السرَّ لعظيم" (أف 5: 32)
إنَّ إيماننا المسيحي بالمسيح المتجسّد الموحِّد لكفيلٌ بأن يثبِّت الروابط العيليّة في رعايانا. ففي الأسرة يظهر مفعول سرّ المسيح المتجسّد ومفعول الأسرار المقدسة التي يتقبلها المؤمن، ومنها بخاصة سرّ الزواج المقدس.
إنَّ المحبة يجب أن تكون عنوان وحدتنا الكنسية وميزتها، بحيث يتمّ فينا ما قال السيد المسيح عن تلاميذه: "بهذا يعرف الناس أنكم تلاميذي (وأنكم روم كاثوليك) إذا كنتم تحبّون بعضكم بعضاً".
هذه الوحدة ضرورية أيضاً على الصعيد المجتمعيّ، بالالتزام الاجتماعي والمجتمعيّ والمهنيّ والسياسيّ في مجتمعنا. إن مجتمعنا بحاجة إلينا. ومعاً نبني عالماً أفضل، عالماً مخلَّصاً مفتدى، عالماً يعيش قيمَ الإنجيل، قيمَ المسيح المتجسّد الموحِّد.

الوحدة من خلال التنشئة المسيحية
إنَّ تحقيق أهداف التجسّد الموحِّد لا بدَّ وأن يطال كلّ قطاعات حياة كنيستنا، ومنها قطاع التنشئة، وقد كانت الموضوع الرئيس في دورة "مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان" (تشرين الثاني 2005).
التنشئة المسيحية هي متابعة نموّ المسيحيّ (رسالتنا لميلاد 2002: "يسوع ينمو") في الحياة في المسيح، من خلال تفعيل الأسرار المقدسة في حياته. ولا بدَّ وأن تتضافر جهود رعاة كنيستنا، أساقفةً وكهنةً ورهباناً وراهبات، في سبيل المحافظة على وديعة الإيمان ناميةً عميقةً صامدةً نقيةً صافيةً في قلوب جميع رعايانا، وبخاصة الشباب منهم، الذين علينا أن نوليهم اهتماماً مميَّزاً في كل شيء، وهم مستقبل الكنيسة. ولا ننسَ تنشئة الكهنة والرهبان والراهبات في المعاهد الفلسفية واللاهوتيّة ودور التنشئة. فهم قادة الكنيسة في المستقبل. ولا بدَّ من رفع مستواهم وتحديث المسارات التدريسيّة وإعطائها طابعاً شرقيّاً مميّزاً. ولا ننسَ أهمية اللغات القديمة والأجنبيّة لأجل تحصيلٍ علميّ كهنوتيّ لائق.
ولا بدَّ هنا أيضاً أن نطوِّر في كنيستنا مناهج الثقافة المسيحية بحيث يبرز طابعها الروميُّ الملكيُّ الكاثوليكيُّ الخاص، بالإضافة إلى طابعها الكاثوليكي العام، وإلى طابعها التوافقيّ مع الكنائس المسيحيّة في المنطقة.
وقناعتي أنه لا يمكن أن نتفاعل مع الآخرين إذا لم نكن أمناء لهويتنا الخاصة ولدور كنيستنا الخاص، إذ لا أحد يعطي ما لا يملك. ولا يمكن أن نسهم مع الآخرين إذا لم يكن لدينا ما نُسهم به.

الوحدة من خلال الرهبانيات والجمعيات الرجالية والنسائية
التجسّد الموحِّد له حقلٌ مميّز وفريدٌ يتمثَّل في الرهبانيات والجمعيات الرجالية والنسائية التي لها دورها الكبير في حمل بشارة السيد المسيح وميلاده وتجسّده في عالمنا ومجتمعنا وفي كنيستنا بنوع خاص.
إن خدمتها واحدة ولو كانت مراسم حياتها وطرق رسالتها الرهبانية والكنسية متنوعة. ولي أمنية غالية على قلبي عبَّرتُ عنها في زياراتي لأديارنا العامرة، وفي اجتماعات ولقاءات مختلفة، ألا وهي أن نبذل معاً جهوداً مركَّزة تهدف إلى تفعيل التواصل والتضامن والتعاون والتشاور في سبيل ما يمكن تحقيقه من أمور تقود إلى وحدةٍ - أو فدرالية - رهبانية، سعياً وراء الكمال الرهباني، لما فيه خير الرهبان والراهبات، تأميناً لخدمة فضلى في الكنيسة والمجتمع، ولأجل تثقيف رهبانيّ هادف، وتعاون إداريّ، وتحسين الأحوال الاقتصادية واستثمار الأراضي والعقارات المختلفة. فتطوّر الأديار مؤسّساتها وتتوسّع خدماتها، وبخاصة الاجتماعية منها والخيرية، لأجل مساندة الفقراء في تخفيف  معاناتهم، والإسهام في التنمية الاجتماعية والإنسانية.
ولا ننسَ أن معنى كلمة الراهب باللغتين اليونانية والسريانية واللغات الأوروبية تعني المتوحِّد أو الموحَّد، الذي يسعى إلى وحدته مع ذاته ومع الله ومع القريب. لا بل بهذا المعنى كلُّنا مدعوّون إلى أن نكون رهباناً، بالمعنى الأصيل، بأن نتغلَّب على كل عوامل الانقسام في شخصيّتنا، وعوامل التفرقة في الكنيسة وفي المجتمع. الراهب، لا بل كل مسيحيّ، يجب أن يكون موحِّداً وموحَّداً ورسولَ وحدة في المجتمع، على مثال السيِّد المسيح رسول الوحدة ورباطها.

دعوة إلى الوحدة في العالم العربي
إنَّ إيماننا المسيحي بالتجسّد الموحِّد لا ينحصر في السعي نحو الوحدة بين المسيحييّن. فالتوحيد في الله يصبح حافزاً لتوحيد البشر. وتوحيد التجسّد يعني توحيد أهدافنا في مجتمعٍ نواجه فيه التحديات الواحدة: مسلمين ومسيحييّن. لا بل إن وحدة الله وتوحيد الله دعوة إلى وحدة البشر وتضامنهم وتعميق رباط المحبة بينهم.
علينا أن نتّحد! إن رسالة التجسّد التوحيدية هي ضرورية أكثر من أي وقت مضى في عالمنا العربي!
نحن المسيحييّن العرب العائشين في مجتمع عربي ذي أغلبية مسلمة، لنا دعوة خاصة من هذا القبيل، في مجتمع نحن منه وله، وهو منا ولنا.
علينا أن نعي أننا كنيسة عربية، وكنيسة العرب وكنيسة الإسلام، بسبب ترابطنا بهذا العالم العربي والإسلامي في ثقافته وحضارته وقيمه وسياسته واجتماعياته وكل مظاهر حياته على مدى 1400 سنة.
ونحن كلنا، مسلمين ومسيحييّن، بنوع خاص، نواجه مؤامرة رهيبة، لا يجوز أن نقع في أشراكها: مؤامرة تهدف إلى تفريغ الشرق من المسيحييّن، لأجل ضرب الشرق والغرب، ضرب المسيحييّن والمسلمين.
أجل لنا دعوة خاصة لمناهضة هذه المؤامرة الكبرى. علينا أن نحبَّ بعضنا بعضاً، علينا أن نتضامن ونتعاون. فيُجيرُ المسلمُ المسيحيَّ والمسيحيُّ المسلمَ. ويدافع المسلم عن المسيحيّ والمسيحيّ عن المسلم. ويُظهر المسيحيّ مسيحيّته في أجمل أوجهها، ويُظهر المسلم إسلامه في أحلى مظاهره.
ولنقل أمام العالم أجمع: إن الحلَّ هو إيماننا مسيحييّن ومسلمين. وإذا نجحنا في مواجهة هذا التحدّي بإيجابية وحزم وتصميم، نكون قد فتحنا فتحاً مبيناً، وحقّقنا نصراً أكيداً وأصبحنا مَثلاً للملإ في العالم بأسره. ونكون صانعي سلام وخلاص في عالمنا شرقاً وغرباً.
المسيحيون والمسلمون في الشرق العربي يواجهون معاً هذا التحدّي. والمسلمون العائشون في أوروبا وأميركا والمجتمع الغربي عموماً، هم أيضاً يواجهون معاً هذا التحدّي. وقد أثير الموضوع معي في أثناء مشاركتي في سينودس الأساقفة الكاثوليك في رومة، في تشرين الأول 2005، في المقابلات الصحفية والمختلفة، وفي محاضرة كبيرة ألقيتها في مدينة بياشنتسا (شمالي إيطاليا)، ومحاضرة ألقيتها في البرلمان البريطاني وفي جامعة لندن في تشرين الثاني 2005.  وقد أثير الموضوع سابقاً معي في محاضرات ولقاءات في أوروبا وفي أميركا. وكلنا نسمع الأخبار ونتابع تطورات الخلافات القائمة في أوروبا خاصة حول انسجام وتأقلم المسلم في المجتمع الغربي مع الحفاظ على إيمانه وتقاليده...
أمام هذه الحقائق والتحديّات نتحقَّق من أهمية وحدتنا وتضامننا مع عالمنا العربي. لا بل إنه من أولويات كنيستنا العمل لأجل الوحدة في العالم العربي ولأجل خدمة العالم العربي. نحن منه وله ولأجله ولأجل تطوره وخدمته والدفاع عن دوره والتفاعل معه والتضامن معه ومع قضاياه... من واجبنا في كنيستنا أفراداً وجماعات ان نتعامل مع هذه الأفكار، كلٌّ في موقعه، وفي محيطه في الأبرشية والرعية والالتزام المهنيّ والمجتمعيّ والسياسيّ والثقافي.
إن ثمار التجسّد الموحِّد تطال العالم بأسره وشعوب الأرض بأسرها. وهذا ما ورد في إنجيل يوحنا عن يسوع: "سيموتُ عن الأمّة. وليس عن الأمّة فحسب، بل كان ليجمع أيضاً في الوحدة أبناءَ الله المشتّتين"(يوا 11: 51- 52). ولهذا فإنه من واجب المسيحييّن أن يكونوا دعاة وحدة عالمية وشاملة.
ولهذا فإنَّا نريد، من خلال هذه الرسالة، أن نوجِّه دعوةً ملحّةً إلى ملوك ورؤساء دول العالم العربي كي يحقّقوا المزيد من الوحدة في ما بين هذه الدول، فتتمكن معاً من مجابهة التحديّات الخطيرة التي تهدّد وحدة شعوب المنطقة التي تجمع في ما بينها عواملُ وحدويةٌ فريدة، منها العروبة والإسلام، بالإضافة إلى اللغة والحضارة والتاريخ، وكونها بخاصة مقدّسة للمسيحييّن والمسلمين واليهود.
الشرف يلزم! إذا كانت بلادنا مهدَ الديانات، وإذا كنا نتباهى بأَّنا كلُّنا نعبد الإلهَ الواحد، فعلينا أن نحقِّق هذه الوحدة بين شعوبنا، كي نستجيب نداءات أجيالنا الشابة وتطلعاتها في الإيمان بالله والعيش المشترك والخدمة المشتركة والتضامن والكرامة البشرية والمواطنية وحرية الدين والمعتقد في مجتمع يزداد تفككاً. وفي العدالة والمساواة والأمن والأمان والاستقرار والسلام العادل الشامل الثابت الذي هو مفتاح السلام للعالم أجمع، وهو الضمانة لإطلاق مسيرة التحديث والتطور والازدهار.
تطالب البلدان العربية أميركا وأوروبا والعالمَ بأسره بأن يساعدوها في حلِّ الصراع العربيّ الفلسطينيّ الإسرائيليّ الذي يلفّ المنطقة بالعنف وهو في أصل كلّ ويلاتها وحروبها وأزماتها منذ نصف قرن. إنَّا من موقعنا كبطريركِ كنيسةٍ تشعر شعوراً عميقاً بتضامنها مع هذا العالم العربي، كما أشرنا إليه سابقاً، نعتبر أن تجاوز المصالح الإقليميّة الضيِّقة وتحقيق الوحدة العربية هي الكفيلة بإيجاد حلٍّ عادلٍ وشامل ودائم لهذا الصراع وتضمن مستقبلاً للعالم العربي وتلبي تطلعات الأجيال الطالعة فيه.
إنَّا نعتقد اعتقاداً أكيداً أن إيماننا، مسيحييّن ومسلمين، هو سلاحنا الأقوى اليوم وغداً، كي نحقِّق أهداف رسالتنا المقدسة ونحافظ على قيم إيماننا المقدس. كما أنَّا نأبى على أنفسنا أن تُعْتَبَر بلادنا موطنَ الأصولية والعنف والإرهاب والقتل والعداء والتطرف والحرب الدينية. هذه عبارات ومواقف منافية لقيمنا الإيمانية ولتراثنا وحضارتنا. وفي هذا كلّه الوحدة هي الأساس المتين لدفع هذه التهم التي تُلصَقُ بسهولة بشرقنا العربي.
إنَّا كلَّنا موحِّدون. ومن منطلق إيماننا علينا ألاّ نكتفي بدفع التهم التي تلصق بنا، بل أن نكون خلاَّقين في إيجاد الحلول للصراع العربي الفلسطيني الإسرائيلي، ولوضع العراق المأسوي الدموي المفجع، ولباقي الأزمات الاجتماعية والمجتمعية والاقتصادية والدينية والروحية التي تهدد مجتمعاتنا وأُسرنا وشبابنا ومؤسّساتنا التربوية وتطال كل قطاعات حياتنا في الوطن العربي الكبير.
ونحبُّ أن نشير هنا إلى اهتمام الكنيسة المشرقية بجميع طوائفها في خدمة قضايا العدل والسلام والمصالحة في منطقتنا. وقد وضع البطاركة الشرقيون الكاثوليك وثائق كثيرة في سبيل خدمة العدالة والسلام. وقد كان هذا موضوع اجتماعهم السنوي لهذا العام في عمان – الأردن (28 تشرين الثاني – 2 كانون الأول 2005) حيث تناولوا هذه القضية بنوع عام، وبنوع خاص في البلدان العربية وبخاصة في الأردن (البلد المضيف) وفي لبنان وسوريا ومصر والعراق.
من خلال ذلك كله تقوم الكنائس بدور مميَّز في خدمتها المسيحية، بأن تكون منتدى لتدارس قضايا البلدان العربية من منظار روحيّ واجتماعيّ وكنسيّ وحضاريّ وحواريّ، ومن خلال ذلك منبراً للدفاع عن القيم الإيمانية المشتركة بين المسيحيين والمسلمين، في العالم العربي وأمام المجتمع الدولي.

الخاتمــة
هذه الرسالة الميلادية تأمّلٌ في سرّ التجسّد الإلهي الموحِّد. وإلى جانب ذلك أردت أن أضيف إلى التأمل اللاهوتي الروحي، بعض توجيهات عملية سُقْتُها بمحبة وثقة وبعواطف التقدير والشكر لإخوتي الأساقفة الأحباء أعضاء المجمع المقدس الموقرين، ومن منطلق غيرتي على أداءٍ أفضل لخدمتي البطريركية. بحيث تتحقق في كنيستنا الرومية الملكية الكاثوليكية ثمار التجسّد والفداء والخلاص. ومن خلالها تتحقّق في مجتمعنا الصغير والكبير، القريب والبعيد، وفي البلدان العربية وفي بلدان الانتشار.
إنّي أتوجّه بآيات التهاني القلبية إلى جميع أبناء رعايانا وبناتها، إكليروساً وشعباً، كي يكون عيدُ ميلاد ربنا وإلهنا ومخلصنا وسيدنا يسوع المسيح، عيدَ خيرٍ وبركة، عيدَ نموِّ الإيمان والرجاء والمحبة في قلوبنا جميعاً. فتتحقق لنا جميعاً آماني نشيد الملائكة في أرجاء بيت ساحور وبيت لحم، ويصل صدى هذا النشيد إلى العالم أجمع، إلى مؤمني كنيستنا في العالم العربي وفي بلاد الانتشار.
صلاتنا لأجل أن تتحقق معاني هذا النشيد الملائكي في أوطاننا العربية عامة، وبنوع أخص في فلسطين وفي العراق، وفي لبنان وسوريا لأجل تفاهم هذين البلدين الشقيقين المتجاورين وتجاوز الأزمات والتحديات التي تواجههما محليًّا وإقليميًّا وعالميًّا. ومع العلم أن فيهما العدد الأكبر من مؤمني كنيستنا.
إناَّ نجمع كلَّ ما أوردنا من تأملات واقتراحات وتوجيهات، لنصوغ منه باقة روحية تعطّرها محبتنا، ونقدِّمها إلى طفل المغارة "المشرِق من العلاء"، "الطفل الجديد والإله الذي قبل الدهور"، طالبين منه بشفاعة أمنا مريم العذراء أن يغذِّي نفوسنا جميعاً بكلمته الإلهية وبسرّ محبته في الإفخارستيّا المقدسة.
وباسمه ومن مغارة بيت لحم نستمطر عليكم جميعاً بركات الله الآب والابن والروح القدس.
ونتمنى للجميع ميلاداً مقدساً وعاماً جديداً يحمل إلينا بشائر تحقيق العدل والسلام والتضامن والإخاء والمحبة في قلوبنا وفي أسرنا وفي مجتمعنا. وكلّ عام وأنتم جميعاً بخير.


مـع محبتـي وبركتـي الرسوليــة


 

       †   غريغوريوس الثالث

                بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والإسكندريّة وأورشليم