صاحب الغبطة يوسف

رسالة الفصح 2013

٢٢ ٣ ٢٠١٣

 

 

رسالة صاحب الغبطة
البطريرك غريغوريوس الثَّالث
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والاسكندريَّة وأورشليم
للرُّوم المَلَكيِّين الكاثوليك
في عيد الفصح والقيامة المجيدة
31 آذار 2013

 

من غريغوريوسَ عبدِ يسوعَ المسيح
برحمةِ الله تعالى
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق
والإسكندريّة وأورشليم

 

إلى الإخوة السَّادة المطارنة، أعضاء المجمع المقدَّس الموقَّرين
وسائر أبنائنا وبناتنا بالمسيحِ يسوع، إكليروسًا وشعبًا،
المدعوِّين قدِّيسين، مع جميع الذين يَدعُون باسم ربِّنا يسوع المسيح، ربِّهم وربِّنا
نعمةٌ لكم وسلامٌ من الله أبينا، والرَّبِّ يسوع المسيح (اكور: 1-3)

 

الإنجيل بُشرى القيامة



بشِّروا بالإنجيل

السيد المسيح القائم من بين الأموات يدعو تلاميذه بعد القيامة إلى حمل بُشرى الإنجيل إلى العالم أجمع قائلاً: "إذهبوا إلى العالم أجمع وبَشِّروا بالإنجيل للخليقة كلِّها" (مرقس 16: 15).

تبدأ انطلاقة المسيحية بعد القيامة بالبشارة، أعني بالإنجيل، أعني بالمسيح فهو البشارة وموضوعها، وهو الإنجيل!

كما أنَّ انطلاقة المسيحية يوم ميلاد السيد المسيح بدأت أيضًا بالبشارة، أعني بالإنجيل، أعني بالمسيح. وهذا هو فحوى بشارة الملاك يخاطب الرعاة ليلة الميلاد: "إنّي أُبشِّركم بفرحٍ عظيم يكون لجميع الشعب: إنَّهُ وُلِدَ لكم اليومَ في مدينةِ داود مخلِّصٌ هوَ المسيحُ الرَّبّ" (لوقا2: 10-12).

الميلاد يبدأ بالإنجيل-المسيح، البشارة السارَّة! وبعد القيامة تنطلق المسيحيَّة، وتنطلق البشارة بيسوع المسيح الحيّ القائم من بين الأموات. واعدًا تلاميذه: "أنا معكم إلى انقضاء الدهر" (متى 20:28). إذهبوا وبشِّروا!

الميلاد بُشرى سارَّة... وبعد القيامة تبدأ البشارة...

والآن أتى دورُنا لكي نحمل البشارة! ويتردَّد في قلوب جميع المعتمدين صوتُ الرب يقول لأشعيا النبي: "من نرسل؟ من ينطلق لنا؟" (أشعيا 8:6)

وهكذا بعد قول الملاك:"أُبشِّركم" تأتي الآية: "إذهبوا أنتم وبشِّروا!"

المسيحية إنجيل! المسيحية بُشرى سارَّة!

هكذا يبدأ التاريخ المسيحي بالبشرى الصالحة وبالإنجيل. الإنجيل هو بداية المسيحيَّة نفسها! أجل المسيحيَّة حاملة الإنجيل، حاملة البشرى الصالحة ! إنَّها إنجيل! وعبارة الإنجيل تحريف كلمة يونانية مؤلَّفة من مقطعين: إيڤ: جيد، وإنجيليون: بشارة. إذن العِبارة تعني بشارة جيِّدة. وهذا هو تعريف كلمة الإنجيل. وهذا هو التعريف الحقيقي الكامل للمسيحيَّة وللكنيسة وللإيمان المسيحي. وهكذا يتَّضح أنَّ المسيحية تتأسَّس على المسيح – الإنجيل. المسيح البشارة السارَّة المتجسدة. يستلم المؤمن هذه البشارة السارَّة (الإنجيل) يوم معموديته، ويصبح بدوره حامل هذه البشارة، حاملاً الإنجيل. وتصبح رسالته طيلة حياته أن يكرز وأن يبشِّر بالإنجيل.

هذا هو موضوع رسالة الفصح والقيامة لهذا العام الذي يتميَّز بأنَّه يستضيء بأنوارٍ باهرة ساطعة في خضم التحديات والظلمات التي نعيشها في عالمنا. أولاً: الإرشاد الرسولي الذي سلَّمنا إيَّاه قداسة البابا بندكتوس السادس عشر في لبنان في أيلول 2012، ووقَّعه في كنيسة القديس بولس في حريصا التابعة لبطريركيَّتنا، وعنوانه البرنامج المعبِّر المحفِّز: "شركة وشهادة". 

 ثانيًا: الاحتفال بالسينودس في روما في تشرين الأول 2012 وكان بعنوان: "بشرى الإنجيل المتجدِّدة!" وقد شاركنا فيه مع سيادة أخينا المطران جوزف العبسي النائب البطريركي في دمشق، واثنان من كنيستنا: السيد رياض صارجي رئيس جمعية مار منصور في دمشق، والسيدة جزيل مشاطي.

ثالثًا: هو إعلان سنة الإيمان (2012-2013).

 

بلادنا أرض الإنجيل

ما أحوجنا أن نتعمَّق أكثر فأكثر في مركزية الإنجيل في حياة المسيحي المشرقي. فهو ابن الأرض المقدَّسة التي هي أرض الإنجيل! هي الأرض التي فيها المسيح – الإنجيل نفسه، وُلِدَ وعاشَ وعلَّم وصنع عجائب المحبَّة والإيمان والرجاء، وسار يعمل الخير ويشفي كلَّ مرضٍ وضعفٍ. وأحبَّ الناس كلَّ الناس حتّى أنَّهُ أراد أن يتألم ويصلب ويموت لأجلهم، لكي "تكون لهم الحياة وبوفرة" (يوحنا 10:10). ويشتركوا في قيامته، ثمَّ يصبحون حاملي بشارة محبته للبشر.

أجل شرقنا المسيحي العربي هو أرض الإنجيل. فيه انتشر الإنجيل أولاً: في القدس ودمشق وصور وصيدا وأنطاكية والإسكندرية والعراق وحتّى الشرق الأقصى. ومن الشرق انتشر في الغرب وفي العالم أجمع. من الشرق أتى النور! ومن الشرق أتى المسيح نور العالم! ومن الشرق انطلق الإنجيل. في كلِّ الأرض ذاع منطقهُ! وإلى أقاصي المسكونة كلامهُ!

نَخطُّ هذه الرسالة حول الإنجيل المقدَّس لكي تكون تعاليمُ السيد المسيح، تعاليمُ الإنجيل وقيمهُ وبشراهُ المقدَّسة، نبراسَنا وهديَنا ونورَنا وقائدَنا وعونَنا في هذه الأيام العصيبة. نرجع إليه! نطالعه! نتأمل فيه! نسترشد بوحيِه وبأنواره! ونجد فيه تعزيةً وقوّةً وعزمًا وأملاً ورجاءً وفرحَ قيامةٍ. نرجوها قيامةً للجميع، لأوطاننا العربية، وبنوع خاصّ للبلدان الأكثر معاناة، سوريا ولبنان ومصر والعراق والأردن والأرض المقدَّسة... قيامةً لجميع المسيحيين المحتفلين بعيد القيامة المجيدة والفصح المجيد. لا بل قيامةً لجميع المواطنين من كلّ الطوائف. إذ كلُّهم مدعوُّون ليكونوا حامِلي بشرى الإنجيل، بشرى القيامة والحياة. بدلَ العنف والموت والقتل والدَّمار والإرهاب، والعداء والكراهية والتعصُّب. فكلُّنا خُلِقنا للحياة وليس للموت. ونترجَّى القيامة والحياة الأبدية. لأنَّنا وُلدنا للحياة! ونحن أبناء وبنات القيامة! نحن أبناء وبنات الإنجيل، إنجيل القيامة والحياة. 

 

هذه الرسالة

في هذه الرسالة أريد أن أبرز أهمية الإنجيل "البشرى الجيِّدة" في الحياة المسيحية، لا بلّ في حياةِ كلِّ مؤمن لا بل في حياة كلِّ إنسان. الكنيسة عبر عصورها أمٌّ ومعلِّمة. إحدى علاماتها أنَّها رسولية، حاملة الإنجيل، رسالة السيد المسيح، تبشِّر بها الأجيال وعبر الأجيال، وتحقِّق اليوم دعوةَ بولس إلى كلِّ قلب، حيث قال: "الويل لي إن لم أُبشِّر" (1كور 16:9). ولي الأمل الوطيد أن أُشعل نار هذه البشارة الصالحة، لكي يصبح الإنجيل مشعلاً في قلبِ وفكرِ ويدِ كلِّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ في كنيستنا الروميَّة الملكيَّة الكاثوليكيَّة.

 

الإنجيلُ كلمةٌ حيَّة! بشارة حيَّة!

لدى قراءتنا للفصول والآيات والأحداث الواردة في الإنجيل المقدَّس نختبر قوّةً عجيبة وحركةً دائمةً وديناميكيةً جبّارة. فالإنجيل ليس كتابًا. ومن هنا، فإنَّ عبارة "أهل الكتاب" التي يطلقها القرآن على المسيحيين ليست دقيقة. إذ أنَّ الإنجيل هو بشارة بَشَّر بها السيد المسيح، ثم دَوَّنَ الرسل بعض ما جاء في الإنجيل، بعضَ ذكرياتِ بشارةِ معلِّمهم في الإنجيل في صياغةٍ مربَّعة، هي إنجيل متى ومرقس ولوقا ويوحنا.

ولهذا، فإنَّه مهمٌّ جدًّا أن نحافظ على قوَّة الإنجيل وديناميّته. فهو لا يُحصَرُ في كلمةٍ، أو عبارةٍ أو عقيدةٍ أو رؤيةٍ أو تعابيرَ محدَّدة... بل هو دائمًا يتخطَّى كلَّ هذه الحدود والتصنيفات والأوصاف، ولغاتِ البشر وشروحاتهم وتحاليلَهم.

 

الإنجيل دائمًا جديد

الإنجيل هو دائمًا مفتوح! ليس مغلقًا. وهو دائمًا جديد، متوثِّب، متجدِّد، متطوِّر، مرن، منفتح، متواصل، مستقبِلٌ لكلِّ فكرٍّ ورأيٍ وتوجُّه. إذًا الجديد هو من جوهر المسيحيَّة. المجمع الڤاتيكاني الثاني، الذي هو أهمُّ حدثٍ وأهمُّ اجتماعٍ ومجمعٍ في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية المعاصرة، وقد افتتح في 11 تشرين الاول 1962، كان موضوعه الأساسي التجدُّد والحداثة في الكنيسة. وكلُّ وثائقه دعوةٌ إلى المسيحيين لكي يفهموا أنَّ تعاليم المعلِّم في الإنجيل المقدَّس هي تعاليمٌ عصريَّة مناسبة لحاجات المؤمن اليوم في مجتمعه، في بيئته، أمام مشاكِله والتحدِّيات التي يتعرَّض لها، والأسئلة التي يطرحها هو أو يطرحها عليه المجتمع، والعالم والحداثة والتطور.

إذاً، لا يجوز أن تَعتَقَ المسيحية! لا يجوز أن يَعتَقَ الإنجيل! وأنت يا مَنْ تؤمن بيسوع، بإنجيل يسوع، لا يجوز لكَ أن تَعتَق، بل عليك أن تُظهِرَ المسيح دائمًا جديدًا!

 

الإنجيل اكتشاف

في الواقع من يقرأ الإنجيل بتمعُّنٍ وبإصغاءٍ روحيٍّ داخليٍّ يشعر بالفرح والنشوة، لأنَّه يكتشف دائمًا شيئًا جديدًا. وهذا ما عبَّر عنه السيد المسيح، من خلال المثل الذي ضربه لتلاميذه ولسامعيه عن ذلك الإنسان الذي اكتشف كنزًا جديدًا مخفيًّا في حقل، فباع كلَّ شيء واشترى ذلك الحقل (متى 44:13). وضرب مثلاً آخر مماثلاً عن تاجر اللآلىء الجميلة الذي اكتشف لؤلؤة فريدة، فباع كلَّ شيء واشتراها (متى 13: 45-46)

 

الإنجيل نعمة مميَّزة (Charisma)

الإنجيل نعمةٌ مميَّزةٌ دائمًا متجدِّدة. هو كاريزما (Charisma)، ولا يكتشفه إلاّ من أُفيضَت عليه نعمةٌ روحيةٌ خاصَّة.

وقد اكتشف المستمعون ليسوع هذه النعمة والكاريزما الخاصَّة في شخصه ووعظه وكلامه وعلاقته مع الناس، في تعامله مع أوضاعهم وحاجاتهم وطلباتهم وعقلياتهم ونفسيَّتِهم. وهذا ما عبَّر عنه الإنجيل عندما يصف موقف الناس من يسوع: بطرس يقول بحماسة ليسوع "إلى أين نذهب يا رب؟ إنَّ كلماتِ الحياة الأبدية هي عندك" (يوحنا 68:6). ويخاطب بطرسُ يسوعَ على جبل ثابور قائلاً "حسن لنا أن نكون ههنا" (مرقس 5:9). ويتعجَّب الرسل أثناء الزوبعة التي هبَّت عليهم في بحيرة طبريا: "مَن هذا! فإن الريح والبحر يطيعانه؟"(متى 27:8). يسوع يفاجىء مستمعيه؛ "ما نطق إنسان بما نطق به هذا" (يوحنا 46:7). وهكذا كان موقف سامعي يسوع من الأتقياء الذين حضروا عظتَه وشرحَه لأشعيا في كنيسة الناصرة في أحد السبوت: "وكانت عيون جميع الذين في المجمع شاخصة إليه" (لوقا 20:4)؛ "وكان الجميع يشهدون له ويتعجَّبون من كلمات النعمة الخارجة من فمه!" (لوقا 22:4).

 

الإنجيل بشارة

من المعروف أنَّ السيد المسيح لم يكتُب. كما أنَّ تلاميذه على ما يبدو لم يُدوِّنوا في الحال ما كانوا يسمعون من تعليم المعلِّم. ولكنَّهم أيضًا لم يُحاولوا لاحقًا أن يُدوِّنوا بطريقة توثيقيَّة ماسمعوه من تعاليم المعلِّم. ولكنَّ شرَّاح الكتاب المقدَّس يؤكِّدون أنَّ الرسل كانوا يبشِّرون؛ كانوا منهمكين في خدمة الكلمة. ولذلك أنشأوا رتبة الشمَّاس لكي يتفرَّغوا أكثر للبشارة. وهذا ما نلاحظه في أعمال الرسل: خطابات بطرس وإستفانوس وسواهما ليست مكتوبة بنصِّها الكامل في أعمال الرسل، بل هي رؤوس أقلام لما علَّموه ووعَظوا به.

إذًا الهمُّ الأكبر لدى الرسل الأوائل كان التبشير بالإنجيل، يجولون في أماكن مختلفة من فلسطين ومن آسيا الصغرى (تركيا حاليًا) واليونان وروما حتّى الهند، ويعلِّمون ويبشِّرون ويلاقون الناس ويجتمعون إليهم.

لاحقًا بدأ الرسل يُسجِّلون مابشَّروا به سابقًا. فالبشارة سبقت الكتابة. وأتت رسائل بولس المكتوبة بيد بولس أو من قِبَلِ معاونيه وتحت إشرافه. ولاحقًا أتى الإنجيل الذي كَتَبَ نصوصَه الإنجيليون الأربعة: متّى ومرقس ولوقا ويوحنا.

 
الإنجيل مختصر تعاليم يسوع

من يقرأ الإنجيل المقدَّس كما دوَّنه الإنجيليون، يجد أن ما كتبوه ودوَّنوه هو غيضٌ من فيضٌ. إنَّه بعض الذكريات من أمثال وعجائب وتعاليم المعلِّم الإلهي. وهذه بعض آياتٍ تُبرز صدق هذه المقولة، أستقيها من الإنجيل حسب لوقا الذي قرأته مرة دفعة واحدة، وتذوَّقت هذه الروايات الجميلة الواردة فيه. وقد اكتشفتُ آياتٍ كثيرةً تؤكِّد ما أقوله عن الإنجيليين الأربعة. من ذلك ما يلي: ماذا علَّم يسوع في الهيكل وماذا سأل وهو يخاطب المعلِّمين عندما كان عمره حوالي 12سنة؟ (لوقا 46:2). ونقرأ: "كان يعلِّم في مجامعهم مُمتَدَحًا من الجميع (لوقا 15:4)؛ "كان الجميع يشهدون له ويتعجَّبون من كلمات النعمة الخارجة من فيه" (لوقا 22:4)؛ وأيضًا كان يعلِّم في السبوت: "فبُهِتوا من تعليمه لأنَّ كلامه كان بسلطان" (لوقا 32:4)؛ "على أثر ذلك كان يسير في المدن والقرى يكرز ويبشِّرُ بملكوت الله" (لوقا 8:1)؛ "الجموع إذ علموا (بوجوده) تبعوه. فقبلهم وكلَّمهم عن ملكوت الله" (لوقا 11:9). وهناك شواهدُ كثيرةٌ بهذا المعنى. ونتساءَل: ما هي هذه الكلمات؟ ما هو نص هذا التعليم؟

ويسوع بنفسه يؤكِّد على أهمية البشارة في حياته فيقول: "ينبغي لي أن أبشِّر المدن الأُخَر أيضًا بملكوت الله، لأني لهذا قد أُرسلت. فكان يكرز في مجامع الجليل" (لوقا4: 43-44). وفي الفصل الخامس نقرأ "وكان الجمعُ يزدحمُ عليه ليسمعَ كلمةَ الله" (لوقا 1:5). وحالاً نقرأ: "ثم جلس [في السفينة] التي كانت لسمعان وصار يُعلِّم الجموع من السفينة" (لوقا 3:5)؛ "اجتمع جموعٌ كثيرة لكي يسمعوا وُيشفَوا من أمراضهم" (لوقا 15:5). وكان يسوع يُعلِّم خاصَّة أيام السبوت في المجمع: "وكانت الجموع تتقاطر إليه ليسمعوه" (لوقا 17:6). وما عظة الجبل الشهيرة (لوقا6 ومتى 5 و6 و7) إلاّ نموذجًا من هذه التعاليم الكثيرة. وربَّما هي مختصرُ تعاليم في أماكن مختلفة وظروف مختلفة.

لدينا شهادة مميَّزة عند الإنجيلي يوحنا الحبيب، حيث نقرأ وصفًا عن تعاليم يسوع والعجائب التي صنعها: "وآياتٍ أُخَرَ كثيرةً صنع يسوع قدام تلاميذه لم تُكتَب في هذا الكتاب. وإنَّما كُتبت هذه لتؤمنوا بأنَّ يسوع هو ابن الله ولكي تكون لكم إذا آمنتم الحياةُ باسمه" (يوحنا20: 30-31)؛ "أشياءُ أُخَرُ كثيرة صنعها يسوع لو كُتِبَت واحدةً فواحدة لما ظننت أنَّ العالم يسع الصحف المكتوبة. آمين" (يوحنا 25:21).

 

الإنجيل مخاطبة الناس

هذه هي فرادة الإنجيل! إنَّهُ كلمة الله. يخاطب البشر، يتواصل مع الناس، يرشدهم، يعظهم، يوجِّههم إلى الخير، إلى الفضيلة، إلى الإيمان، إلى الرحمة، إلى الرجاء، إلى المسامحة، إلى الغفران، إلى التسامح، إلى العدل، إلى التراحم... هذا هو الإنجيل! إنَّه النور المنير كلَّ إنسانٍ آتٍ إلى العالم! إنَّه خبز الحياة! إنَّه قوت الجياع! وماء العطاش الظامئين إلى الارتواء الروحي! إنَّه الرؤية الجديدة والفريدة إلى الحياة، إلى البشر، إلى الطبيعة، إلى الزهور والزنابق والطيور، وإلى الإنسان، إلى الخاطىء والبار والصدِّيق، إلى المرأة، إلى الاطفال، إلى الملوك والقياصرة وأصحاب المسؤوليات، إلى القِيَم، إلى القانون والشريعة والعبادة والطقوس... وبخاصَّة نجد في الإنجيل الرؤية الحقيقيَّة للإنسان (رجل وإمرأة وطفل وجنين) وقيمته وكرامته ومحوريَّته وحرِّيته.

الإنجيل موسوعةُ محبَّة الله للإنسان! موسوعة القِيَم والأخلاق والتعاليم السامية والأحكام الصائبة. إنَّه موسوعةُ كلمات الحياة، لكلِّ إنسان، لكلِّ جيل، لكلِّ مكانٍ وزمان، لكلِّ ظرفٍ أو حالٍ أو مناسبةٍ أو بلدٍ أو قومٍ... إنَّك لَواجدٌ في الإنجيل دائمًا نورًا وهدايةً ومشورةً وحكمةً ومخرجًا ورأيًا ودرايةً... وكلَّ ما تصبو إليه نفسُك من كلماتِ هذه الحياة والحياة الأبدية.

 
يسوع مُبشِّر جوّال

يسوع هو الإنجيل! وهو المبشِّر الأول بالإنجيل. حياة السيد المسيح العلنية مسيرة بشارة، مسيرة إنجيل. ويسوع هو الإنجيلي الأول، المبشِّر الأول. قضى ثلاث سنوات يكرز ويبشِّر ويعلِّم. وأول ظهور له في عمر الشباب، حوالي اثنتيّ عشرة سنة، وقف في الهيكل بين العلماء ورؤساء الكهنة والكتبة، يُعلِّم ويستمع اليهم ويجيب على أسئلتهم. لا بل يمكن أن نقول أنَّه استقل عن أبيه وأمه. وقد عبَّرا عن ذلك عندما رجعا من سفرهما إلى الجليل، بعد زيارة أورشليم، ووجداه في الهيكل وسألاه : "لماذا فعلت بنا هكذا. فأنا وأبوك كنا نطلبك متوجِّعيَن". فأجابهما: "أما تعلمان أنَّه ينبغي لي أن أكون في ما هو لأبي؟" (لوقا 2: 46-49).

وقد حفظ لنا الإنجيلي لوقا أيضًا أوّل عظة ليسوع هي أوّل درسٍ وشرح للكتاب المقدّس. وقد اختصره يسوع بعبارة البشارة. هكذا نقرأ عند الإنجيلي لوقا: "دُفع إليه (إلى يسوع ) سفرُ أشعيا النبي : روحُ الربِّ عليَّ لأنَّه مسحني لأبشِّر المساكين" (لوقا 4: 17-18، أشعيا 61: 1-2). ويضيف يسوع شارحًا نبؤة أشعيا، لا بل كلَّ العهد القديم وكلَّ الكتاب المقدس ومجمل الوحي الإلهي، قائلاً: "اليوم تمَّـت هذه الكتابة التي تُليَتْ على مسامعكم" (لوقا 21:4). وعندما أراد يسوع أن يشرح لتلميذَي يوحنا اللذَين أرسلهما اليه ليسألاه: "أأنت الآتي أم ننتظر آخر؟" (لوقا 19:7) أجابهما وقد صنع عجائب أمامهما قائلاً: "إذهبا وأعلِما يوحنا بما سمعتما ورأيتما: أنَّ العمي يبصرون، والعرج يمشون، والبرصَ يطهرون، والصمَّ يسمعون والموتى يقومون، والمساكينَ يبشَّرون"( لوقا 7: 22) وهكذا يختصر يسوع تعاليمة ورسالته وعجائبة بالبشارة، بالإنجيل! ويدعو من يشفيهم لكي يبشِّروا هُم بدورهم بالإنجيل (لوقا 39:8).

من خلال هذه الآيات والمواقع المختارة في الإنجيل المقدَّس يتَّضح أنَّه بشارة حيَّة وكلمةُ حياة، نشرها السيد المسيح على طرقات فلسطين، في قُراها، ودساكرها، على شاطىء بحيرة طبريا، في المجامع اليهودية، في البيوت، على الهضاب، في السفينة، في القدس، في الناصرة، في أريحا، في كفرناحوم، في صفد، في نائين، على جبل الزيتون، في هيكل سليمان، في نابلس، في الجولان، على ضفاف بحيرة طبريّا ونهر الأردن...

يسوع هو رسولٌ جوّال! واعظٌ ساحر! إنسانٌ حبّاب محبٌّ، يقرن الوعظ والتعليم دائمًا بالشفاء والعجائب ودلائل المحبَّة والحُنوّ والعطف والشفقة... إنَّه حاملُ أجمل بشارة للناس! ألا وهي محبَّة الخالق لخليقته إذ إنَّ الله محبَّة! وكلُّ أعمالِ الله محبَّة! وعجائبُ يسوع محبَّة! وخلائقُ الله محبَّة! والطبيعةُ المخلوقة هي فردوس محبَّة الله للبشر!

اليوم يتهافت الناس في برامج التلفزيون لكي يستمعوا إلى مواعظ بعض الوعّاظ الشهيرين المدعوين "كاريزماتيك" أو أصحاب مواهب مميَّزة! يسوع هو أعظم واعظ وأفصح وأنطق واعظ و"كاريزماتيك"! ومتكلِّم متفوِّه! والجموع خير شاهدٍ على هذه الأوصاف لهذا المعلِّم العظيم، المعلِّم الإلهي... وهناك آيات كثيرة تشير إلى إعجاب الناس بيسوع وبتعاليمه وعجائبه ومواقفه ونصائحه وأحكامه وآرائه، كما ذكرنا سابقًا. ولدينا شهادة طريفة جدًّا وهو هتاف تلك المرأة التي كانت تسمع مع جموع غفيرة تعاليم يسوع، حيث نقرأ: "ورفعت إمرأة من الجمع صوتها (أي قالت ليسوع زلغوطة) وصاحت وقالت: طوبى للبطن الذي حملك وللثديين اللذين رضعتهما" (لوقا 27:11) .وإذا بيسوع يجيب بعفوية وحكمة فائفة: "بل طوبى للذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها" (لوقا 28:11).

 
بولس الإنجيلي الخامس

بولس عاشق الإنجيل! لا بل يمكن أن ندعوه بحقٍّ الإنجيليَّ الخامس. ويكفي أن نذكر كلمته الشهيرة: "الويل لي إن لم أبشِّر" (1كورنثوس 16:9). من هذا المنطلق طالعتُ رسائل بولس كلَّها لأجل تهيئة هذه الرسالة عن الإنجيل، واكتشفت أنَّ عبارة الإنجيل تتردَّد في كلِّ رسالةٍ، ومرارًا. وقد سجَّلتُ أكثر من 50 مقطعًا فيه الكلام عن الإنجيل. هذا ناهيك عن عبارات هي مرادفة بمعناها للإنجيل مثل  التدبير الخلاصي، سرّ المسيح، الكرازة، والبشارة.

من خلال هذه المطالعة اكتشفتُ معنى علاقة بولس الرسول بالإنجيل، وعمقها وقوَّتها ومكانتَها في حياة بولس وعمله الرسولي الجَّبار. فهو يُطلق على نفسه عباراتٍ جميلة، وألقابًا مؤثِّرة، تُبيِّن دوره في حمل بشرى الإنجيل الصالحة إلى كل مكان "لكي يَسبيَ كلَّ بصيرة إلى معرفة يسوع المسيح"(فيليبي 8:3). بولس في علاقة مباشرة بالإنجيل. حياته كلُّها مرتبطة بالبشارة بإنجيل يسوع، بيسوع الإنجيل. وهو ملتصقٌ بالإنجيل حتّى إنَّه يُردِّد عبارةً يُفهم منها أنَّ بولس له إنجيل خاص. هكذا يصلِّي لأجل أهل روما "لكي يثبِّتهم الله حسب إنجيلي" (روما 25:16)؛  ويقول: "إن كان إنجيلنا محجوبًا فإنَّما محجوبٌ عن الهالكين" (2 كورنثوس 3:4)؛  ويقول: "إنَّ تبشيرنا بالإنجيل لم يصر لكم بالكلام فقط" (1 تسالونيكي 5:1)؛ وأيضًا: "لا بل نتكلَّم كخدامٍ اختبرهم الله قبل أن يأتمنهم على الإنجيل" (1 تسالونيكي 4:2)؛ ويخاطب تلميذه تيموثاوس: "أذكر يسوع المسيح المقام من الأموات بحسب إنجيلي" (2 تيموثاوس 8:2).

 

بولس سفير الإنجيل

ويعبِّر بولس عن مركزية الإنجيل في حياته وبشارته بأوصاف رائعة فيقول: "إنَّه رسولٌ مفرَزٌ لإنجيل الله" (روما 1:1)؛ وهو "خادم الإنجيل" (أفسس 7:3)؛ "هو سفير الإنجيل في السلاسل" (أفسس 20:6)؛ "وهو مؤتمن عليه" (1تيموثاوس 11:1)؛ الله جعله للإنجيل "كارزًا ورسولاً ومعلِّمًا" (كولوسي 23:1).

هذه الألقاب الجميلة التي يُطلقها بولس على نفسه في علاقته مع يسوع-الإنجيل تعني التزامه بالإنجيل وبحمله والبشارة به، واستعداده لكلِّ شيء لأجل إتمام خدمته التي تَكرَّس لها عندما التقى يسوع القائم من بين الأموات على طريق دمشق. وكانت أوّلُ كلمة يخاطب بها يسوع، كلمةَ استسلامٍ كاملٍ واستعدادٍ كاملٍ لعملِ كلّ ما يريد يسوع منه ويقول: "من أنتَ يا ربّ؟ ماذا تريد أن أعمل ؟" (أعمال الرسل  5:9).

 

بولس عاشق الإنجيل

بولس لايستحي بإنجيل المسيح "لأنَّه قوَّة الله للخلاص لكلِّ مؤمن" (روما 16:1)؛ وهو "يعبد الله بروحه في إنجيل ابنه"(روما 9:1). ولا يمكن أن يفصله شيء عن إنجيل يسوع وعن القيام برسالته وخدمته للإنجيل وليسوع الإنجيل. ومن أجمل التعابير عن عشق بولس للإنجيل وحماسته في حمل البشارة ما وَرَد: "من يفصلُنا عن محبَّة المسيح؟ أشدَّةٌ أم ضيقٌ أم اضطهادٌ أم جوعٌ أم عريٌ أم خطرٌ أم سيف؟ كما هو مكتوب إنَّا من أجلِكَ نُمات النهارَ كلَّه. وقد حُسِبْنا مثلَ غنم للذبح" (روما 8: 35-36 راجع مزمور 23:44). وما أجمل بولس يحترق لأجل بشارة الإنجيل كما نقرأ في الرسالة الثانية إلى الكورنثيين (الفصلان11و12): "من يَضعُف ولا أضعفَ أنا! من يعثرُ ولا ألتهبَ أنا! (2كورنثوس 29:11). ويصف الأتعاب وكلَّ ما احتمل بسرور لأجل حمل بشرى الإنجيل في كل مكان: السجون، الجلد، الموت قبل الموت، الضرب بالعصي، الرجم بالحجارة، الغرق في البحر، أخطار السيول، أخطار اللصوص، أخطارٌ من الوثن والعصابات، الأسهار، الإخوة الكذبة، البرد، العري، الجوع، العطش... (2كورنثوس11: 23-28). ويختم الكلام عن كلِّ ما تحمَّله لأجل بشارة الإنجيل: "فبكلِّ سرورٍ أفتخر بالحري بضعفي لكي تستقرَّ عليَّ قوّة المسيح. لذلك أُسَرُّ بالصَّفعات والشتائم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح، لأني حينما أنا ضعيف فحينئذٍ أنا قوي" (2كور12: 9-10). وهذا القول يُذكِّرني بكلمة رائعة للمثلَّث الرحمة البطريرك المسكوني العظيم أثيناغوراس الأول: "ماعدتُ أخاف! لأنّي رميتُ سلاحي".

 

الويل لي إن لم أبشِّر!

يريد بولس أن يبشّر بأريَحيَّة فائقة: "إنَّه خيرٌ لي أن أموتَ من أن يُعطِّل أحدٌ فخري. لأنه إن كنتُ أبشِّر فليس لي فخرٌ إذ الضرورة موضوعةٌ عليَّ. والويل لي إن لم أبشِّر. فإنَّه إن كنتُ أفعل هذا طوعاً فلي أجرٌ، ولكن إن كان كُرهًا فقد أوتمنت على وكالة. فما هو أجري؟ إذ وأنا أبشِّر أجعل إنجيل المسيح بلا نفقة، حتّى لم أستعمل سلطاني في الإنجيل. فإنّي إذ كنت حُرًّا من الجميع، إستعبدتُ نفسي للجميع لأربح الأكثرين. فصرت لليهود كيهوديٍّ لأربح اليهود. وللذين تحت الناموس كأنّي تحت الناموس لأربح الذين تحت الناموس. وللذين بلا ناموس كأنّي بلا ناموس. مع أنّي لست بلا ناموس لله، بل تحت ناموس المسيح، لأربح الذين بلا ناموس. صرت للضعفاء كضعيف لأربح الضعفاء. صرتُ للكلِّ كلَّ شيء، لأخلِّص على كلِّ حال قومًا. وهذا أنا أفعله لأجل الإنجيل، لأكون شريكا فيه." (1كور9: 15-23).

 

بولس يطلب الطاعة للإنجيل

في هذا كلِّه، يطيع بولس الإنجيل ويطلب الطاعة للإنجيل (روما 16:10). ويُحذِّر الذين لا يُطيعون إنجيل ربنِّا يسوع المسيح (2تسالونيكي 8:1). كما يريد أن يقوم بخدمة إنجيل الله المقدَّسة لكي يجعل من "الوثن قربانًا مقبولاً ومقدَّسًا بالروح القدس" (روما 16:15).

ويُوبِّخ بولس أهل كنيسة غلاطية لأنَّهم يتحوَّلون عن الإنجيل ويقول: "إنّي أتعجَّب أنَّكم تنتقلون هكذا سريعا عن الذي دعاكم بنعمة المسيح إلى إنجيل آخر. ليس هو آخر، غير أنَّهُ يوجد قومٌ يُزعجونكم ويُريدون أن يُحوِّلوا إنجيل المسيح. ولكن إن بشَّرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشَّرناكم، فليكن أناثيما. كما سبقنا فقلنا أقول الآن أيضا: إن كان أحد يبشِّركم بغير ما قبلتم، فليكن أناثيما (أي محرومًا). أفأستعطف الآن الناس أم الله؟ أم أطلب أن أُرضي الناس؟ فلو كنت بعد أُرضي الناس، لم أكن عبدًا للمسيح. فإنّي أُعلن لكم أيُّها الإخوة أنَّ الإنجيل الذي بُشِّر به عن يدي، ليس هو إنجيل بشر. لأني لم أتسلَّمْه من إنسان، بل بوحي يسوع المسيح" (غلاطية 1: 6-12).

أظن لا بل أجزم أنَّ بولس اطَّلع على تعليم الإنجيل قبل كتابة الإنجيل من خلال الوحي الذي حلَّ عليه عندما كان مقيمًا في "بلاد العرب" أي حوران. وعلى الأغلب في بلدة "مسمية"، قرب بلدة والدتي "خبب"، وحيث أبني مشفى تخليدًا لذكرها وذكر بولس الرسول. إنَّها المنطقة التي يسوغ أن ندعوها حقًا مهد المسيحيَّة. وإلى هذا يشير بولس في رسالته إلى غلاطية نفسها وفي الفصل الأول نفسه، حيث يذكر أنَّه مكثَ في بلاد العرب ثلاث سنوات (غلاطية 1: 17-18).

ويؤكِّد بولس بذلك على أهميَّة التعلُّق بالإنجيل. لأنَّ الإنجيل دائمًا على حقٍّ. ولهذا يتكلَّم عن "حقِّ الإنجيل" (غلاطية 5:2). ويخاطب أهلَ كنيسة كولوسي قائلاً: "نشكر الله... من أجل الرجاء الموضوع لكم في السماوات، الذي سمعتم به قبلاً في كلمة حقِّ الإنجيل الذي قد حضر إليكم في كلِّ العالم أيضًا. مثمرًا فيكم أيضًا منذ يومَ سمعتم وعرفتم نعمة الله بالحقيقة" (كولوسي 1: 3-6).

علاقة بولس بالمؤمنين الذين بشَّرهم هي الإنجيل. فيقول: "قد وصلنا إليكم أيضًا في إنجيل المسيح" (2 كورنثوس 14:10). وأيضًا: "إنَّني حافظكم في قلبي وفي قيودي وفي المحاماة عن الإنجيل وتثبيته، أنتم الذين جميعكم شركاء لي في النعمة." (فيليبي 7:1).

ويقول أيضًا مخاطبًا أهل كنيسة كولوسي: "الله صالحكم... إن ثبتم متأسِّسين وراسخين وغير منتقلين عن رجاء الإنجيل الذي سمعتموه والمكروز به في كلِّ الخليقة" (كولوسي 23:1).

 

المعتمد حامل بشارة الإنجيل

المعتمد يؤمن بالمسيح-الإنجيل، ويصبح مؤتَمنًا على الإنجيل. يقبل الإنجيل ويعطي الإنجيل. إنَّه مسؤول عن الإنجيل وعن المحافظة عليه وعن التبشير به ونشره وتحبيبه للآخرين من أعضاء الكنيسة، من رعيَّته، من حارته، لا بل من الآخرين من غير إيمانه وجماعته ومعتقده وعقيدته. الإنجيل يصبح هويته، دعوته، رسالته، معنى حياته وهدفها. ويردِّد مع الرسول بولس: "الحياة لي هي المسيح!" (هي الإنجيل)، و"الويل لي إن لم أبشِّر (بالمسيح، بالإنجيل)" (1كورنتوس 16:9).

هذا الكلام عن البشرى والبشارة والتبشير ربما يُخدِّش آذان كثيرين، ولا سيَّما في مجتمعنا العربي ذي الغالبية المسلمة. لا بل أيضًا في أوروبا العلمانية، وأميركا وغيرها. يُخدِّش آذانَ المسيحيّين والمسلمين: آذانَ المسيحيّين لأنَّهم يعرفون موقف المسلمين من عبارة  التبشير، وآذانَ المسلمين لأنهم يرفضون عبارة التبشير وعمل التبشير لغير المسلم. وكأنَّ التبشير حكر على المسلم وعلى الإسلام، وجائز فقط للمسلم وللإسلام. ومحظور على المسيحي وأيِّ مؤمن من غير دين الإسلام.

إنَّني أعلم حقَّ العلم خطورة هذا الكلام حول هذا الموضوع في بلادنا وأوطاننا العربية، التي هي مهد المسيحية قبل أن تكون مهد الإسلام، وقبل ذلك مهد اليهودية. كما أعلم أنَّ هذا الكلام صعب في أوروبا العلمانية، حيث تكثر المشاكل حول قضايا اللباس والمأكل والمشرب والزواج والأسرة في الإسلام... وعمومًا حول الشريعة الإسلامية وقوانين الأحوال الشخصية وحريَّة العبادة وحريَّة المعتقد وبناء الكنائس والمساجد والمآذن والحلال والحرام ...

وكلُّنا ندرك خطورة هذه الأمور وأهميَّتها وصعوبةَ حلِّها ومشاكلها والحساسية تجاهها، ونبحث عن الطريقة الفضلى لمعالجتها.

وربما تكمن الصعوبة في عقيدةِ كلِّ مؤمن، أنَّ إيمانه هو الأفضل، وعقيدته هي الأصح، ودينه هو الأفضل، وهو من أبناء الشعب المختار، والأمَّةِ الفضلى والخيِّرة، والكنيسة المعصومة. وكلُّنا نعرف العباراتِ المألوفةَ والمتداولة َفي كتب التعليم الديني والتربية الدينيَّة، والتي تُدرَّسُ في الكتب والكنائس والجوامع وبيوت العبادة، وفي المعاهد الدينية الإسلامية والمسيحية واليهودية. وتكثر الشروحات بشأنها في المؤلّفات والكتب الدينية والأبحاث والمؤتمرات. كما تكمن الصعوبة أيضا في طريقة التوصُّل إلى ضمان صفاء العقيدة، وواجب المحافظة على صفاء ونقاء عقيدتي أنا، وفي الوقت ذاته الاحترام لعقيدة الآخر من غير ديني، وكيف أعيش في سلام مع الآخر من غير معتقدي. لا بل كيف نبني مجتمعًا مدنيًّا مؤمنًا يكون نموذج المدينة الفاضلة، التي تكلَّم عنها اللاهوتيون المسيحيون والعلماء المسلمون، بحيث يجمع الوطنُ الواحد المواطنين على اختلاف عقائدهم، في تعايشٍ سلميٍّ واحترامٍ متبادل وقبولٍ وإكرامٍ وتقديرٍ وصداقةٍ ومحبَّة.

 

الدين الأفضل! والأُمَّة المختارة!

أودُّ أن أكون أكثر صراحة في هذا الشأن. في تاريخ اليهودية وفي كتاب التوراة تَرِد عبارة الشعب المختار، وشعب الله وأرض الميعاد... وفي المسيحية نجد العبارة نفسها بطريقة أخرى، إذ تعتبر الكنيسة ذاتها شعب الله الجديد. هكذا نقرأ في رسالة القديس بطرس الأولى الجامعة: "أمَّا أنتم (المؤمنون بالمسيح،  المسيحيّون) فجيلٌ مختار، كهنوت ملكي، أمَّةٌ مقدَّسة، وشعبٌ مقتنى" (1 بطرس 9:2). ولدينا العبارة المشهورة: "لا خلاص خارج الكنيسة". والآية القرآنية "كنتم خير أُمَّة أُخرِجت للناس" (آل عمران 110) و"الدين عند الله الإسلام" (آل عمران 19). ولا أدري ماذا يقول البوذيون عن أنفسهم وماذا تقول الدول والبلدان عن نفسها.

كنت أنزعج عند قراءة أو سماع هذه التعابير. والآن أصبحتُ أتفهَّم منطقَ كلِّ فريق وأهلِ كلِّ معتقد. إذ إنه من الطبيعي أن يحترم كل منّا عقيدته ويُجلِّها ويُنزِّهَها عن العيب والخطأ والنقصان، ويفتخر بها ويدافع عنها تجاه الآخرين. ولا يُعقل أن يحتقر أحدٌ دينه ومعتقده، أو أن يتشكَّك بشأنه أو بقيمته. ويقول بولس الرسول: "كل ما ليس من الاعتقاد فهو خطيئة" ( رومانيون 23:14).

ولكنيّ أعتبر أنَّه من الضروري أن نتعالى فوق هذه الحساسيات، محترمين كلُّ واحدٍ شعورَ الآخر ومعتقدَه ودينَه، وعاملين كلُّ واحد على المحافظة على هويته ومعتقداته وتقاليده وقوميته وأُمَّته وعشيرته وبلده ووطنه ومجتمعه. بحيث يعيش كلُّ مواطن في وطنه وبلده ومجتمعه بحريَّة كاملة؛ حريَّة العبادة، وحريَّة المعتقد وحريَّة الفكر والرؤية والفن والسياسة، إلخ... تجمعنا كلَّنا قيمُ إيماننا المقدَّس، نضعُها موضع العمل في حياتنا وفي مجتمعنا وسياستنا واقتصادنا، مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات والامتياز. وعاملين على أن نكون مستحقّين الألقاب التي تطلق على كلِّ فريقٍ دينيٍّ أو سياسيٍّ أو اقتصادي أو اجتماعي. وذلك من خلال تضامننا وتواصلنا وخدمتنا المتبادلة وانتمائنا إلى وطننا أو كنيستنا أو أمَّتنا أو قومنا أو عشيرتنا، ومن خلال الأعمال الصالحة وخدمة المجتمع والعمل على ازدهاره وتطوّره وأمنه وأمانه وسلامه.

ولتكن هذه العبارات الحسّاسة المذكورة، دافعًا للتفوّق في الأخلاق والأعمال الصالحة والمواطنة والفضائل السامية. ويقول المثل الفرنسي المعروف "الشرف ملْزم" (Noblesse oblige).

في هذا الإطار وعلى ضوء هذه العقلية المنفتِحَةِ والمحافِظَةِ والمحترِمَةِ، يمكننا أن نعيش مسيحيَّتنا وإسلامَنا ويهوديَّتنا وأحزابَنا السياسيَّة وتوجهاتِنا الاجتماعية، فنصبح كلُّنا خيرَ أُمَّة أُخرِجَت للناس، وموضعَ خلاص، وشعبًا مختارًا وأمَّة مقدَّسة وكهنوتًا ملكيًا، ونشعر بالأمن والأمان والاستقرار، والإيمان والرجاء والمحبَّة...

إلى هذا علينا أن نسعى مسيحيين ومسلمين ويهودًا وبوذيين وكنفوشيين وحتى مُلحدين أو بعيدين عن الدين، ومن خلال هذا الموقف يغني الواحدُ الآخرَ ويحامي عنه، وعن عرضه وأرضه وفرص عمله وتراثه وعاداته، إلخ.

لا بل إنَّ التربية على هذه الأمور والعمل على جعلها شركةً حياتيَّة للمسيحيّين والمسلمين بنوع خاصّ، وتضامنَ جهودِ المسيحيين والمسلمين على تنميَتِها وعلى تربية الأجيال الطالعة عليها، وإدخالها في المناهج التعليميَّة، وسعيَ رجال الدين مسيحيّين ومسلمين على إحقاقها والوعظِ عليها في الكنائس والجوامع، ومن خلال المحاضرات والمؤتمرات، ومن خلال برامج خاصة يلتقي الشباب حولها، مسيحيّين ومسلمين (ويهودًا حيث يوجد يهود)، إنَّ هذا كلَّه هو الضمانة الحقيقيَّة للعيش المشترك ولتخفيف خطر الهجرة والتمييز والتفاضل. وهذا ما من شأنه أن يعطي الأمن والأمان للمسيحي كما للمسلم، وللمسلمين فيما بينهم، وللمسيحيين فيما بينهم،  وللدول العربية في علاقتها الواحدة مع الأخرى بعيدًا عن التكفير المتبادل.

 

أجواء لعيش الإنجيل

وهذه الأجواء هي التي تهيِّئ الإطار الحقيقيَّ لحوارٍ مسيحيٍ- إسلاميٍّ حقيقيٍّ حياتيٍّ وإيمانيٍّ ولاهوتيٍّ واجتماعيٍّ ووطنيّ. وتُمهِّد لعيش الإنجيل المقدَّس في مجتمعنا، حسب التوجيهات والإرشادات التي تَدارسها رعاةُ الكنيسة في روما في تشرين الأول 2010، والتي تضمَّنها الإرشاد الرسولي الذي وجَّهه قداسة البابا بندكتوس السادس عشر وسلَّمنا إياه في لبنان في أيلول 2012. ومن خلال لبنان وجَّهه إلى الشرق الأوسط، ومن خلاله يخاطب الجميع مسيحيين ومسلمين ويهودًا.

لا بل إنَّ هذه هي الأجواء الضروريَّة لكي نعيش إيماننا المسيحي كمواطنين عربًا في مجتمعنا العربي ذي الأغلبية المسلمة.

هذه الأمور هي ضمانة عيش إيماننا المسيحي المقدَّس في أوطاننا العربية، وهي الحافز لكي نبقى كما كنَّا عبر التاريخ. نعملُ ونخدم ونعطي ونؤسِّس ونبني هذه الأوطان التي عشنا قيمَها حُلوَها ومرَّها في كلِّ البلدان العربيَّة.

 

الإنجيل دعوة إلى العيش المشترك

لا بل هذه الأمور هي الأساس لكلِّ هذه العلاقات المؤسِّسة لعيشنا المشترك، وتعايشنا واحترامنا لبعضنا البعض، ولقبول بعضنا بعضًا، بالرغم من كلِّ أنواع اختلافنا وخلافاتنا. ولا سيَّما في البلاد العربية وفي هذا العالم الواسع. نؤكِّد كلُّنا على عقيدتنا بدون أيِّ تحفُّظ أو تخصيص أو إستثناء أو استئثار، ألا وهو أنَّنا كُلَّنا "عباد الله" ومخلوقون على صورة الله ومثاله، وأنَّ "أكرمهم عند الله أتقاهم" (حديث مرفوع)، وأنَّ الله يُحبُّنا جميعًا لأنّ الله محبَّة، ورحمن رحيم، ويُشرق بشمسه على الأشرار والصالحين، ويريد أنَّ جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يبلغون. وهو المحبُّ الصديقين والراحم الخطأة، والداعي الكلَّ إلى الخلاص بموعد الخيرات المنتظرة، وإلى الحياة معه تعالى، "إنّا لله وإنّا إليه راجعون" (سورة البقرة 156). ولأنَّه قال لنا جميعًا إنَّ في بيت أبي منازل كثيرة (يوحنا 2:14). وقال يوحنا الإنجيلي: "إنَّه أراد أن يموت ليس فقط عن الأمَّة (أعني أمَّة اليهود أو أمَّة محدَّدة دون غيرها من الأمم)، بل إنَّه مات لكي يجمع أبناء الله المتفرِّقين إلى واحد" (يوحنا 11: 51-52). ولأنَّه هو سلامنا، هو جعل الاثنين واحدًا وهدم الحائط الحاجز بينهما (بين كلِّ إنسان وآخر مهما كان الآخر) أعني العداوة، لكي يجعل من الإثنين إنسانا واحدًا بإحلاله السلام بينهما (أفسس 15:2).

هذا هو إيماننا كلِّنا، مسيحيّين ومسلمين ويهودًا وبوذيين وكنفوشيين وحتّى غير مؤمنين وملحدين نظريين وعمليين. وهذه هي البشرى، وهذه هي قِيَم الإنجيل التي علينا أن نعيشها في أعماق نفوسنا، والتي علينا أن نحملها ونقدِّمها للآخر، لجميع إخوتنا، ليس لِكَي نهديهم، فالله يهدي من يشاء. بل لِكَي تكون لهم جميعًا الحياة، وتكون لهم بوفرة! (يوحنا 10:10)

 

الإنجيل دعوة إلى الحوار بين الناس

في سياق هذا الموضوع الهام جدًا في مجتمعنا الشرقي، أُحب أن أسرد مقاطع من رسالتي الميلاديَّة لعام 2007، بعنوان "الكلمة صار جسدًا". وفيها أُشير إلى أهميَّة كلمة الله في الحوار بين المسيحيين والمسلمين، وبين الناس الناس جميعًا:

"تعالوا إلى كلمة سواء!" فلنتخاطب بكلمات إيماننا الجميل. لأنَّ الكلمة التي أعطاني إياها الله في إيماني المسيحي، هي لي. ولكن ليست لي فقط! هي لمجتمعي، لإخوتي البشر! عليَّ أن أحملها لهم نورًا! محبَّةً! إشعاعًا! دعوة محبَّة! علامة رجاء للآخر، لكي ينمو في دينه ومعتقده ويتعمَّق فيه، وليس لكي يحتقره! أو أنا أحتقره!

إنَّه من الأهميَّة على جانبٍ كبير أن يُحبَّ كلُّ إنسانٍ دينهُ، "كلمة الله له". ويتعرَّف عليه، ويتعمَّق فيه، ويحافظ عليه، ويدافع عنه. ولكن عليه أن يكون منفتحًا على الآخر، وعلى معتقده وإيمانه. وإلاّ وقعنا في النسبيَّة التي هي أكبر أعداء الإيمان.

لا احتكار لكلمة الله! إنَّها لي وللآخر! عالمنا المسلم يخاف التبشير! ولكنَّه يدعو إلى التبشير بالإسلام. هذا موقف غير معقول. إنَّنا نطالب مواطنينا المسلمين أن تؤمَّن لنا حريَّة حمل البشارة الصالحة إلى الآخر، بمحبَّة واحترام، وتقدير لإيمان الآخر. ولا نطلب من الآخر أن يعتنق إيماننا! يكفي أن يكتشف إيماننا، ويقدِّره ويحبُّه. أمّا الهِداية فهي عمل الله. "إنّك لا تهدِ من أحببت ولكنّ الله يهدي من يشاء!" (سورة القصص 56).

نشكر الله على العلاقات الكثيرة الجميلة بين المسيحيّين والمسلمين، بخاصَّة في الحياة اليوميَّة. ولكنَّني أطلب أن نشارك بكلمة الله! هذا ما يجمعنا! ويوحِّدنا ويقوّينا! ويقوّي إيماننا! لا نخف أن نحبَّ كلمة الله عند أخينا! لا نخف من الآيات القرآنيَّة، ولا نخف من آيات الإنجيل المقدَّس! أو التوارة! إنَّها كلمة الله لنا كلٌّ حسب دعوته. وأقول لإخوتي المسلمين لا تخافوا من إيماننا. بل بالحريّ علينا أن نخاف من كلماتنا الحاقدة! الناقدة! المتكبِّرة! المتعالية! كلمة الله لا تحتقر! لا تتكبر! لا تنتفخ! لا تتباهى. لا تفرح بالسوء بل تفرح بالحقّ. لا تحبّ الإساءة! لا تفرح بالظلم! بل تفرح بالحبّ! تصدِّق كل شيء (1 كو 12).

لنُحبَّ كلمة الله. فإنَّ كلمات الله لنا جميعًا! فلنتقاسمها ولنتغنَّ بها! ولنحبَّها! ولتكن لنا كلماتٍ لودِّنا وعيشنا المشترك وتعايشنا! وتواصلنا! بدل أن نتغنَّى بكلمات المجاملة الفارغة والكاذبة والمتملِّقة. فلنتغذَّ بها ولنغذِّ بعضنا بعضًا بأجمل كلمات الأرض، ألا وهي كلمات السماء! كلمات الله لأبناء البشر. فالله غنيّ وكلماته كلمات منعشة لنا كلنا! لا نخف من كلمات الله، بل لنخف من كلمات الناس! ولنعمل لكي تتحوَّل كلمات الناس إلى كلمات الله!

غيرتنا على كلمة الله يجب أن تكون أولاً أداة لتقديسنا وتعمُّقنا في إيماننا. ولا يجوز أن تتحوَّل غيرتنا على كلام الله وتعاليمه أداةً وسلاحًا لاستغلال الآخر، أو الحكم عليه أو اضطهاده أو إرغامه على اعتناق ديننا. كما لا يجوز أن تصبح كلمة الله مصدر صراع بين المؤمنين وأصحاب المعتقدات المتنوعة، ولا أن تصبح أداة إرهاب أو مفاضلة باطلة.

وأقول لإخوتي المسلمين لا تخافوا من إيماننا. بل خافوا من عدم إيماننا! من عاداتنا التي لا تحبُّونها. ولإخوتي المسيحيّين أقول: "لا تخافوا من المسلمين المؤمنين الذين يحفظون كلمة الله!"

 

الكنيسة حاملة بشرى الإنجيل

تعاليم الإنجيل، هذه البشارة السامية، التي نشرها يسوع في فلسطين، تحتاج إلى رسل يحملونها إلى العالم إنطلاقًا من فلسطين. كما أوصاهم يسوع: "إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعلِّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به" (متى 28: 19–20). وفي مرقس: "إذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلِّها" (مرقس 15:16). وفي لوقا: "أنتم  شهود لذلك" (لوقا 48:24) أعني شهودًا للإنجيل!

وانطلق التلاميذ إلى العالم أجمع يُتمِّمون وصيَّة معلِّمهم ومخلِّصهم وإلههم. وأسَّسوا الكنائس في كلِّ مكان، وهي المكان الجغرافي والزماني والإنساني للبشارة المقدَّسة. وكلُّ عضوٍ في الكنيسة دخلها في المعموديَّة المقدَّسة يصبح بدوره رسولاً وحاملاً بشارة الإنجيل.

الكنيسة بجميع أعضائها المنتمين إليها هي حاملة بشرى الإنجيل المقدَّس: الرعاة والرعيَّة وجماعة المؤمنين. وذلك من خلال الرعاية والأعمال الصالحة والإرساليات والرهبانيات الرجالية والنسائية والمؤسَّسات على اختلافها: المدارس، الجامعات، المياتم، المستشفيات، دور العجزة، والمؤسَّسات الخيريَّة. ومن خلال حضور أبناء الكنيسة في المجتمع حضورًا اجتماعيًا ومهنيًا وسياسيًّا واقتصاديًّا وفنِّيًّا وصحافيًّا وعلميًّا. بشرى الإنجيل تتمُّ يوميًا من خلال الكنيسة، كما قال يسوع في مجمع الناصرة: "اليوم تمَّت هذه الكتابة". "اليوم" هو مجمل تاريخ الكنيسة عبر العصور حيث ما فتئت تنتشر بشارة إنجيل يسوع.

 

مكانة الإنجيل المقدَّس المميَّزة

يحتلُّ الانجيل المقدَّس نفسه ككتابٍ وسفرٍ مكانة مميَّزة في التعبير عن أهميَّة البشارة في تاريخ الكنيسة وعباداتها وتقاليدها وليترجيَّتها. فكتاب الإنجيل المقدَّس هو موضوع احترام لدى المؤمنين المسيحيين. فلا احتفال ولا صلاة ولا سرّ من أسرار الكنيسة، ولا جماعة ولا اجتماع إلاّ وفيه قراءة من الإنجيل المقدَّس، ومرارًا من أعمال الرسل ورسائل بولس الرسول ومن العهد القديم بأسفاره المقدَّسة.

ويوضع الإنجيل المقدَّس على مائدة الهيكل المقدَّسة بطريقة دائمة في التقليد الشرقي. وهكذا ترتبط ليترجيا القدّاس الإلهي وصلاة الكنيسة بالإنجيل المقدَّس. ويزيَّح الإنجيل في ليترجيا القدّاس الإلهي، وفي الصلوات والاحتفالات الكنسية وأعياد القديسين.

ولا ينقل الإنجيل إلاّ باحتفال وأُبَّهة محاطًا بالشموع يتقدَّمه البخور ويتَّجه المؤمنون إليه لدى قراءته على المنبر العالي وأثناء مروره بين المؤمنين بالزياح ويقبِّلونه أو يقبِّلون ثياب الكاهن أو الشماس حامله، ويرسلون إليه القبلات من بعيد ويركعون تحته لدى قراءته. ومرارًا يواكبون موكبه أو الزياح به.

كما يتقدَّم المؤمنون لإكرام وتقبيل الإنجيل المقدَّس في مناسباتٍ مختلفة، هكذا بعد الإنتهاء من قراءَته. كما يُعرض الإنجيل كلَّ أحد في صلاة السحر، بعد قراءة فصول الإنجيل الأحد عشر الواردة لدى الإنجيليين الأربعة، وهي تسرد أحداث قيامة السيِّد المسيح. فيقبِّله الأسقف والكهنة والمؤمنون الحاضرون. كما يوضع الإنجيل فوق رأس المرشَّح شماسًا أو كاهنًا أو أسقفًا، أثناء صلوات الرسامة المقدَّسة.

هذا ناهيك عن أنَّ أجمل هدية تهدى هي الإنجيل المقدَّس، أو العهد الجديد بأسره، أو العهد القديم، أو الكتاب المقدَّس بعهديه المقدَّسين القديم والجديد. وكم هو جميل أن نرى الإنجيل يحتلُّ مكانةً مميَّزة في البيوت. والأجمل من ذلك أن نرى المؤمنين والعائلات تواظب على قراءة الإنجيل في البيوت، وفي اجتماعات الأخويات وجماعة الصلاة، وفي مطلع أيِّ اجتماع او احتفال ديني.

 

بُشرى الإنجيل المتجدِّدة

إنَّ إكرام الإنجيل الأكثر أهميَّة، هو أن تكون الكنيسة وأن يكون أبناء الكنيسة هم الذين
يحملون قِيَم الإنجيل المقدَّسة إلى العالم، إلى مجتمعهم. "بُشرى الإنجيل المتجدِّدة" كان موضوع السينودس الذي دعا إليه قداسة البابا بندكتوس السادس عشر في شهر تشرين الأول 2012. وقد شاركتُ فيه، وقدَّمت مداخلة حول البشرى المتجدِّدة في كنيستنا الشرقيَّة الروميَّة الملكيَّة الكاثوليكيَّة، انطلاقًا من تقاليدنا التي توارثناها عن آبائنا وأجدادنا. والتي يمكن أن تصبح اليوم أيضًا باعثة تجديد وحاملة بشرى الإنجيل أمام التحدِّيات التي تعترض مسيرة المؤمن.

وهذه أهم محطَّات البُشرى المتجدِّدة:

1. الاهتمام " بالحج " إلى الأماكن المقدَّسة، سواء في فلسطين، أو في المزارات الكثيرة المنتشرة في بلادنا، مزارات العذراء مريم، والقدّيسين والقدّيسات، والأديار. ومن ذلك زيارة كنائس الطوائف المسيحيَّة على اختلاف تقاليدها الشرقيَّة الغنيَّة واكتساب خبرات روحيَّة جديدة.

2. إقامة رياضات روحيَّة للعلمانيين، للشباب وللرجال وللنساء، ولا سيَّما في الأديار.
ومشاركة الراهبات والرهبان في الصلوات، والاستماع إلى المحاضرات، وإلى تاريخ الأديار وخدماتها.

3.  اللجوء إلى مختلف وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي المعاصر، لأجل نشر تعاليم الإنجيل المقدَّسة، والتعمُّق فيها، ولا سيَّما لدى الشباب الذين هم الأكثر تعاملاً مع وسائل الإعلام والتواصل.

4.  الإفادة من الاحتفالات الطقسيَّة وبخاصَّة الليترجيا الإلهيَّة، وباقي الصلوات الطقسية، لأجل تعميق الحياة المسيحيَّة. ولا سيَّما في أيام الأعياد الكبرى وفي أزمنة الصوم التي تسبقها، وهي أربعة في تقليدنا الشرقي القديم : صوم الميلاد، صوم الفصح المجيد، صوم الرسل، صوم العذراء مريم.

5. إنعاش الصلوات ومساعدة المؤمنين، ولا سيَّما الشباب، على المشاركة الفعليَّة الشخصيَّة فيها ولاسيَّما ليترجيا القدّاس الإلهي. وكذلك صلاة الغروب وصلوات الصوم الكبير المبارك والسهرات الليليَّة للصلاة والتأمُّل.

6. الاحتفال المميَّز بأسرار الحياة المسيحيَّة. ولاسيَّما المعمودية والميرون المقدَّس والمناولة المقدَّسة والزواج. ولابد من مساعدة المؤمنين للمشاركة الفعلية فيها، ولا سيَّما من خلال الكراريس مع الشروحات المرافقة لها ورموزها الغنية.

7. الاهتمام من قبل الكهنة بمواعظ الآحاد والأعياد، وتهيئة طلاب الكهنوت على الوعظ والإرشاد والمرافقة الروحيَّة.

8. إطلاع المؤمنين على حياة القدّيسين وعلى تاريخ الكنيسة، وكيف عاشت الكنيسة قِيَم الإنجيل في ظروف متنوِّعة وصعبة، وحتّى التضحية بالحياة من خلال الاستشهاد.

9. اكتشاف دور الأيقونة الهام في تقليدنا الشرقي. لأنَّها إنجيل ولاهوت في ألوان ورموز.

كلّ عناصر الإيقونة تساعد على اكتشاف سرّ المسيح. ومن المهمِّ أن نُدخِلَ في رعايانا السهرات الروحية حول وأمام الإيقونات المقدَّسة، ترافقها الشروحات اللاهوتية والتقوية، وتتخلَّلها أوقات صمت وصلاة شخصيَّة خاشعة. وقد سَبَقَنا الغربُ في إقامة التأمُّلات والسهرات الليليَّة والعبادة الصامتة الخاشعة أمام الأيقونات...

10. خلقُ جوٍّ اجتماعيٍّ مسيحيٍّ جماعيٍّ، من خلال النشاطات الرعوية والاجتماعات للعائلات وللفئات الخاصَّة في الرعيَّة. من ذلك الأعياد والاحتفال بيوبيل أو بمناسبة الأسرار المقدَّسة أو اجتماع الأخويات. كلَّ هذه مناسبات للاجتماع وتبادل الخبرات الروحيَّة والكنسيَّة والإنجيليَّة المختلفة. وكلُّنا نعرف كم تحتاج رعايانا إلى هذا الجوّ الإيماني الرعوي، ولا سيَّما في الظروف الصعبة التي تمرُّ بها منطقتنا حاليًا. ولا بدَّ من الإفادة من محبَّة الشباب لهذه اللقاءات، لا بل هم الذين يمكن أن يكونوا الأكثر اهتمامًا بتنظيمها وإحيائها. 

 

إنجيل يسوع هو إنجيلي

لقد استفضنا في هذه الرسالة في تقديم الإنجيل المقدَّس. وحاولنا اكتشاف معانيه من خلال أوصافٍ ونعوتٍ تقريبيَّة، لا تفي مهما تعدَّدت بوصف الإنجيل العظيم المقدَّس الشريف السامي الشامل العالمي الكوني... بل كلُّها تبقى عاجزة ولا تعطي صورة إلا باهتة عن الإنجيل. لأنَّ الإنجيل هو يسوع، ولايجوز أن نعطفه إلى يسوع إلا بالمجاز اللغوي القاصر. فالإنجيل هو إنجيل وتعليم وبشارة يسوع... ولكن بالحري وفوق ذلك الإنجيل هو يسوع.

من هذه النعوت والأوصاف: الإنجيل كلمة حيَّة! بشارة حيَّة! الإنجيل دائمًا جديد! الإنجيل اكتشاف! الإنجيل نعمة مميَّزة! الإنجيل بشارة! الإنجيل مختصر تعاليم يسوع! الإنجيل مخاطبة الناس! الإنجيل كلمة حياة!

هذه الأوصاف كلّها جميلة ولكنَّها كلَّها تبقى وكأنَّها مناظر جميلة أمامنا. والآن وفي ختام هذه الرسالة ومن خلال هذا العنوان إنجيل يسوع: إنجيلي، أريد أن أضع في قلبِ كلِّ مسيحيّ، وبخاصَّة من أبناء كنيستنا، وكلِّ مؤمن وكلِّ مواطن محبوب وحبيب الله في أوطاننا العربية، شعلةَ الإنجيل، لكي أجعله يكتشف أنَّ الإنجيل ليس في الخارج، بل الإنجيل في داخله وهو مدعوٌّ لأن يُصبحَ إنجيلُ يسوع إنجيلَه، وتتحَّولَ حياتُه الإنسانية على الأرض وفي وطنه ومجتمعه، إلى إنجيل، إلى بُشرى حياة وبُشرى حيَّة.

كتبتُ جزء من هذه الرسالة أثناء إقامتي في روما، وبالتحديد يوم الحادي عشر من تشرين الأول عام 2012، حيث اشتركت في القدّاس مع قداسة البابا بمناسبة مرور خمسين سنة على المجمع الفاتيكاني الثاني (1962-1965). وكانت قراءة الإنجيل من الرسول لوقا حول عظة يسوع في مجمع اليهود في الناصرة، وهو اليوم كنيستنا الرعويَّة في الناصرة. وقد دُفع إليه السفر ليقرأ، وفي ختام القراءة بدأ عظته قائلا: "اليوم تمَّت هذه الكتابة". وأراد بذلك أن يؤكِّد أنَّ الكتاب المقدَّس هو كتابُه وهو موضوعُه ومحتواه. وهو الذي يُتِّم كلَّ ما كتب فيه، لأنَّه هو الذي أوحاه بروحه القدّوس.

على الأثر كتبتُ هذه الخاطرة: يا أخي المؤمن المسيحي، هل يمكنك عندما تسمع الإنجيل أن تقول هذا إنجيلي؟ هذه رسالتي؟ وتكتشف من خلاله رسالَتَكَ ودعوتَكَ؟ وهل يمكنك أن تقول الإنجيل هويَّتي؟ إنَّه كتابي؟ وهذا يعني أنَّك مُتَّفق مع الإنجيل وموافقٌ عليه، وهو يعِّبر عن فِكرَك وتطلعاتك وآمالك في الحياة. وهو الذي يُصبح لك الدستور والمرجع والمرشد والهادي والحَكَم أمام المشاكل والتحدِّيات والتجارب والتجاذبات والتيارات الفكريَّة المتقلِّبة الهائجة التي تندفع علينا كالأمواج العاتية، من خلال وسائل الإعلام والنشرات والكتب والأفلام. إذ ذاك يُمكنكَ أن تقول، وبفخارٍ وفرحٍ واعتزازٍ وتصميمٍ وقناعةٍ ثابتة، إنَّ إنجيل يسوع هو إنجيلي.

حياة المؤمن فصول من الإنجيل. وتاريخ المسيحيَّة فصول من الإنجيل. لأنَّ المسيحيَّة هي الإنجيل، والمسيحي إنجيل، والعالم كلّه مكان بشارة سارَّة لكلِّ إنسانٍ آتٍ إلى هذا العالم. إنجيل يسوع المسيح هو إنجيلي وإنجيلُكَ وإنجيلُنا وإنجيلُكم وإنجيلُكُنَّ و إنجيلُ الإنسان في مختلف ظروف الزمان والمكان والإنسان. وهذا يعني أنَّك وصلتَ إلى قناعةٍ حياتية هامَّة جدًا، اكتشفتَ هويَّتك وستعمل جاهدًا للتعمُّق فيها، لعيشها، ولأجل حملها أو تقديمها إلى الآخرين. وإذ ذاك تتغيَّرُ حياتُك كلُّها وتُدرِك بعمقٍ معنى حياتك وغايةَ وجودكَ وعلاقةَ حياتك ووجودك في هذا العالم، ورسالتَك فيه، وعلاقتَك بالعالم الآخر الذي ينتظرك. هذه القناعة تعطيك أمانًا كبيرًا وراحةً نفسيَّةً وجرأةً واندفاعًا في العمل ونجاحًا في المجتمع وسعادةً حقيقيَّةً نابعةً من الداخل وليست مستوردة من الخارج.

أنت تحمل الإنجيل الذي في قلبك وفكرك. ولكنَّهُ هو الذي يحملك ويقوِّيك في مسؤوليتك لكي تحمل الإنجيل إلى العالم. وهكذا يصبح المُبشَّر مُبشِّرًا والمُرسَلُ رَسولاً والتلميذُ مُعلِّمًا... ولاتكتفي إذ ذاك بأن ترى الكاهن أو الشمَّاس يحمل الإنجيل في الزياح وأنت تنظر إليه، بل أنت تصبح حامل الإنجيل. لا تكتفي إذ ذاك بأن تُصغي إلى قراءة الإنجيل باهتمام وغيرة وحرارة، بل أنت تقرأ الإنجيل لغيرك، من خلال عَيشِك قِيَم الإنجيل في حياتك. لأنَّ الأعمال الصالحة هي شهادة الحياة للإنجيل. لا بل قداسة الحياة المسيحيَّة هي التي تُظهِر جمال الإنجيل. والقدّيسون هم المبشِّرون الحقيقيون بالإنجيل!

 

الإنجيل ربيع الخلاص

عالمنا يحتاج إلى أخبار سارَّة. أعني يحتاج إلى الإنجيل، حامل الأخبار السارَّة، وإلى الكنيسة  التي هي الإطار الذي فيه نتعلَّم الأخبار السارَّة أي الإنجيل، وفيه تُعاش قيمُ الإنجيل، وهي حقًّا الأخبار السارَّة للعالم اليوم. عالمنا بالنسبة لي ولكنيستي الروميَّة الملَكيَّة الكاثوليكيَّة، هو العالم العربي بنوع خاص، والعالم الذي انتشر فيه أبناء كنيستي، وهم المسؤولون عن هذا العالم العربي ذي الأغلبيَّة المسلمة. وهذا ما دفعني ويدفعني إلى أن أكرِّر قناعتي، أنَّنا نحن كنيسة العرب وكنيسة الإسلام، المسؤولة أن تحمل بُشرى الإنجيل إلى العالم العربي، الذي هو عالمي ومجتمعي وبيتي ووطني وأسرتي. لا بل إنَّه العالم الذي فيه نعيش مسيحيَّتنا وإنجيلَنا وتعاليمَ الكنيسة.

ولا يمكننا أن نعيش الإنجيل وتعاليم الكنيسة بدون الانتماء إلى هذا العالم، ومحبَّتِه وخدمتِه والشعورِ والقناعةِ بأنَّه عالمنا. وأحبُّ أن أشير هنا إلى أمرين أعتبر أنَّهما مرتبطان ارتباطًا وثيقًا مصيريًّا، وهما ما يسمَّى بالربيع العربي، والإرشاد الرسولي "الكنيسة في الشرق الأوسط شركة وشهادة". لا بل أنا مقتنع بأنَّ العناية الإلهية دبَّرت بأن يعقد قبيل بدء ما يسمَّى بالربيع العربي، مجمع خاص بالشرق الأوسط في تشرين الأول 2010، شارك فيه كلّ بطاركة وأساقفة الكنيسة الكاثوليكية في المشرق العربي، بالإضافة إلى مراقبين لباقي الكنائس، وضيوف من المسلمين واليهود.

يحتوي الإرشاد الرسولي الذي سلمَّنا إيَّاه قداسة البابا بندكتوس السادس عشر في لبنان في أيلول 2012 على برنامج واسعٍ جدًا، يطال كلّ نواحي ومرافق حياة المسيحيين في الشرق الأوسط. أكتفي باقتباسٍ من خطاب قداسة البابا في قصر الرئاسة اللبنانيَّة في بعبدا:

"يمكن أن ينمو التفاهم الجيِّد بين الثقافات والأديان، والتقدير بدون استعلاء طرفٍ ما على بقية الأطراف، واحترام حقوق كلٍّ منها... خصوصيَّة الشرق الأوسط تكمن في التمازج العريق لمكوِّناتٍ مختلفة. إنَّ المجتمع المتطوِّر لا يوجد إلا عبرَ الاحترام المتبادل والرغبة في معرفة الآخر والحوار المتواصل. إنَّ الحوار غير ممكنٍ إلا في الوعي أنَّ هناك قيمًا مشتركة بين جميع الثقافات الكبرى، لأنَّها متأصِّلة داخل طبيعة الشخص البشري. ففي تأكيد وجودها، تُقدِّم مختلف الديانات مساهماتٍ قاطعة. ليس علينا أن ننسى أنَّ الحريَّة الدينية هي الحقّ الأساسي الذي ترتكز عليه حقوقٌ عدةٌ أخرى. المجاهرة بالديانة وعيشُها بحريَّة بدون أن يُعرِّض الشخصُ حياتَه وحريَّته للخطر، يجب أن يكون ممكنًا للجميع. فقدان أو إضعاف هذه الحرية يحرم الشخص من الحقّ المقدَّس في عيش حياةٍ كاملة على المستوى الروحي. إنَّ ما يسمَّى بالتسامح لا يَستأصلُ التعصُّب. إنَّه أحيانًا يزيده... للحريَّة الدينيَّة بُعدٌ اجتماعيٌ وسياسيٌ لا غنى عنه للسلام! إنَّها تُروِّج لتعايش وحياة متناغمتين، من خلال الالتزام المشترك في خدمة القضايا النبيلة، وعبر البحث عن الحقيقة التي لا تفرض نفسها من خلال العنف، إنَّما عبر قوّة الحقيقة نفسها".

إنَّ كلمات قداسته هي حقًّا صدىً لتعاليم الإنجيل الذي هو حقًّا ربيع الخلاص. هذا وقد عَبَّرتُ في رسائل سابقة عن هذه الأمور، التي أعتبرها شرعة حقوق الإنسان العربي ومختصر مطالبه الحقيقيَّة وليس المستوردة، في ما دُعِيَ "الربيع العربي".

 

لا تخف أيها القطيع الصغير!

لا تخف! عبارة وردت في الإنجيل والكتاب المقدس 365 مرة! أعني على عدد أيام السنة. بحيث يعطينا يسوع كلَّ يوم جرعةً إنجيليةً، هي خبزنا الجوهري اليومي لكي لا نخاف. عبارة القطيع الصغير كانت محور مداخلتي في سينودس الأساقفة في روما، ألقيتها يوم الحادي عشر من تشرين الأول بعد الظهر. وفيها أشدِّد على أنَّ القطيع الصغير أراد له يسوع في الإنجيل دوراً كبيراً تجاه القطيع الكبير! بحيث يكون معنى وجود القطيع الصغير ودورُه ورسالتُه في المشرق العربي، حيث وُلِدَ يسوع وولِدَ الإنجيل وولِدَت المسيحيَّة، أن يكون مع ولأجل القطيع الكبير، يحمل له أجمل بشارة سمعتها الأرض وترنَّم بها الملائكة ليلة عيد الميلاد : " أُبشِّركم بفرح عظيم! لقد ولد لكم مخلص" (لوقا 2: 10-11). وُلِدَ لكم يسوع ! وُلِدَ لكم الإنجيل .

لا تخف أيها القطيع الصغير ! وكن حاملاً بشجاعةٍ وثباتٍ وفرحٍ وحماسةٍ وتفاؤلٍ ورؤيةٍ في ظلمة هذه الأيام، حاملاً نداء يسوع – الإنجيل الذي يقول لك: كُن نوراً! كُن مِلحاً ! كُن خميرة!

 

لا تَقُل إنّي صغير!

أمام نداء السيِّد المسيح القائم من بين الأموات "إذهبوا! إكرزوا بالإنجيل"، وأمام الأحوال المأساويَّة التي تعيشها بلادنا ومجتمعاتنا، وبخاصَّة في سوريا: قتل، تهجير، خطف، مضايقات، مخاوف، مستقبل غامض، هواجس... نتساءَل: مَن أنا لِكَي أُبشِّر بالإنجيل؟ وما هو الجوُّ الملائم لأُبشِّر بالإنجيل؟ ومن سيقبل هذه البشارة؟

  أمام دعوة يسوع وهذه التحدِّيات والتساؤلات نجد جوابًا في المقطع الأخير من مقدِّمة كتاب "YOUCAT"، الذي قدَّمه قداسة البابا بندكتوس السادس عشر لشباب الشرق الأوسط، في أيلول 2012. حيث نقرأ:

 "حين كان شعب إسرائيل في أسفل درجات تاريخه، لم يَدعُ الله كبار هذا العالم ووجهاءه إلى نجدته، بل شابًّا اسمه إرميا. شَعَرَ إرميا أنَّه دون المَهمَّة، فصرخ: "ربي وإلهي، لا أعرف أن أتكلَّم لأنّي صغيرٌ" (إر 6:1). لكنَّ الله لم يتراجع، فقال له: "لا تقل إنّي صغيرٌ. فلكلِّ ما أرسلُك له تذهب، وكلُّ ما آمُرك به تُعلنه" (إر 7:1).

لا تقل إنّي صغير! زاد عليها السيِّد المسيح هذه العبارة: "لا تخف أيُّها القطيع الصغير!". وبهذه العبارة الجميلة المشجِّعة المزدوجة أتوجَّه إلى جميع من سيقرأ هذه الرسالة: لا تقل إنّي صغير! لا تخف أيُّها القطيع الصغير في العالم العربي الكبير، فدورك الصغير هو كبير لأنَّه في خدمة ولأجل القطيع الكبير! ولا تنسى أنَّ من قال إذهبوا! هو يذهب معنا ويسير معنا. وقد قال لتلاميذه بعد القيامة ويقول لنا اليوم: أنا عمانوئيل! الله معنا! أنا معكم إلى إنقضاء الدهر...

وقد عبَّرت عن ذلك إحدى أناشيد عيد الفصح والقيامة الجميلة:

"يا ما ألذَّ! يا ما أحبَّ! يا ما أعذبَ صوتك الإلهي أيُّها المسيح! لأنَّك وعدتنا وعدًا صادقًا
بأن تكون معنا إلى أبد الدهر. فبهذا الوعد نعتصم نحنُ المؤمنين كمرسى رجاء ونبتهج مسرورين".

 

نداء إلى الشباب

إلى شباب كنيستنا الروميَّة الملكيَّة، أوجِّه كلمة خاصَّة بهم، تُظهر لهم أهميَّة مسؤوليتهم في حمل بُشرى الإنجيل، وذلك من خلال كلمات قداسة البابا. منها ما قاله في لقاء الشباب في لبنان في بكركي يوم السبت 15 أيلول 2012. حيث توجَّه إليهم قائلاً: "كونوا شبابًا في الكنيسة! كونوا شبابًا للكنيسة".

وقال: "أيُّها الأصدقاء الأعزّاء، تعيشون اليوم في هذا المكان من العالم، الذي كان شاهدًا على ميلاد يسوع ونموّ المسيحيَّة. إنَّه شرفٌ عظيم! إنَّه دعوةٌ للأمانة، ولمحبَّة منطقتكم، وقبل كلِّ شيء لأن تكونوا شهودًا ومبشِّرين بفرح المسيح... لكم مكان مميَّز في قلبي وفي الكنيسة جمعاء، لأنَّ الكنيسة دائمًا فتيَّةٌ! الكنيسة تثق فيكم. إنَّها تعتمدُ عليكم. كونوا شبابًا في الكنيسة! كونوا شبابًا مع الكنيسة! الكنيسة تحتاج لحماسكم ولإبداعكم!"

إنّي أجد صدى لدعوة قداسته في الشعار الذي أُحبُّ أن أردِّده للشباب: "كنيسة بلا شباب! كنيسة بلا مستقبل! وشباب بلا كنيسة! شباب بلا مستقبل!"

وهناك نداءٌ آخر للشباب، أعتبره وصيَّة قداسته للشباب قبل استقالته. ووَرَدَ هذا النداء في رسالة قداسته إلى الشباب الذين سيشاركون في أيام الشبيبة العالميَّة الثامنة والعشرين في البرازيل عام 2013. ويقول لهم:

"إنَّ أثمن هديَّة تقدمونها للآخرين، هو أن تُعرِّفوهم على المسيح" (مقدمة الرسالة). "فإنَّكم أنتم من تأخذون الشعلة من يد من سبقكم" (فقرة1) "بحيث تصرخون مثل بولس: "الويل لي إن لم أُبشِّر". "ولا يمكن أن تكون مؤمنًا حقيقيًا إن لم تبشِّر بالإنجيل!"(فقرة 2) "وعليكم كما قلت لكم في التعليم المسيحي "YOUCAT" أن تعرفوا إيمانكم بنفس الدقَّة التي بها يعرف مختَّص بوسائل التواصل الاجتماعي، ويعرف التعامل مع الحاسوب (فقرة 2). ويقول: "التبشير يعني حمل بشرى الخلاص السارَّة وهي شخص: هو المسيح" (فقرة 3). "إذهبوا! المسيح بحاجة إليكم" (فقرة 4). وأخيرًا: "إنَّ واجب تبشير عالم الأتمتةDigital  Continent  يقع عليكم. لأنَّ لكم خبرة واسعة مع وسائل التواصل الاجتماعي الجديدة"(فقرة 4).

 

فرح البشارة

"علينا أن نواجه التبشير الجديد بحماس. وأن نتعلَّم فرح البشارة العذب والمشجِّع. حتّى عندما يبدو أنَّها لا تبذر سوى الدموع (راجع مز 126/6). فليكن ذلك لنا – كما كان ليوحنا المعمدان، وللرسولين بطرس وبولس، وللمبشِّرين في تاريخ الكنيسة – قوَّةً واندفاعًا لا يمكن لأحد أو لشيء أن يُطفئه. ليكن هذا التبشير فرحًا في حياتنا التي نبذلها، حتى يستطيع العالم الذي يبحث أحيانًا في الحزن وأحيانًا في الرجاء، أن يتلقَّى البشارة الحسنة، لا من مبشِّرين حزانى ويائسين وقليلي صبر وقلقين، بل من خدَّامٍ للإنجيل تفيض حياتهم همَّة ونشاطًا لأنَّهم سبق لهم وتلقَّوا فرح المسيح فيهم. وهم يقبلون المغامرة بحياتهم؛ كيّ يبشَّر بالملكوت، وتُغرس الكنيسة في قلب العالم". (ختام وثيقة الخطوط العريضة للسينودس حول بشرى الإنجيل المتجدّدة 2011)

 

السلامُ لكم

هذه هي تحيَّة السيد المسيح القائم من بين الأموات، حين دخل على التلاميذ الخائفين المتشكِّكين المشرَّدين المختبئين في العليَّة والأبواب مغلقة. وهذا هو حال المواطنين، ولا سيَّما المسيحيين في هذه الأيام العصيبة في سوريا، وأيضًا في لبنان والأردن ومصر وفلسطين والعراق. معاناتهم صعبة ومُرَّة على مدى هاتين السنتين! إنَّهم خائفون على حياتهم وأسرتهم ووسائل رزقهم وأولادهم وطلَّابهم، ومتحيِّرون بشأن مستقبلهم!

  المسيح القائم الحيّ يشدِّد عزائمنا كما شدَّد عزائم الرسل، لا بل يعطينا رسالة ويرسم لنا دورنا التاريخي قائلاً: "إذهبوا... بشِّروا بالإنجيل!

  السلام لكم! هذه التحيَّة كانت شعار زيارة قداسة البابا بندكتوس السادس عشر التاريخيَّة إلى لبنان، لا بل والأخيرة في حبريته القصيرة. وبعد هذه الزيارة لم يترك مناسبة إلا وتحدَّث فيها عن شرقنا العربي، وبخاصَّة عن سورية وعن السلام في المنطقة، وعن دور المسيحيين التاريخي المميَّز الفريد، بأن يكونوا حاضرين وشاهدين لِقِيَم الإنجيل المقدَّس، ونورًا ومِلحًا وخميرةً.

  لقد كتبتُ هذا الجزء الأخير من رسالة الفصح بعد الحادي عشر من شباط، يوم أعلنَ قداسته عن عزمهِ على الاستقالة يوم الثامن والعشرين من شباط 2013، من منصبه كأُسقف لروما، وبابا الكنيسة الكاثوليكيَّة.

  نريد أن نشكر قداسته على وصيَّته التي سلَّمنا إياها من خلال عقد السينودس الخاص بالشرق الأوسط عام 2010، وزيارته إلى لبنان في أيلول 2012. ومن خلال زيارته إلى لبنان زار أوطاننا مهد المسيحيَّة وكنائسنا. وسلَّمنا الإرشاد الرسولي لأجل الشركة والشهادة. وسلَّم الشباب مختصر التعليم المسيحي الكاثوليكي "YOUCAT".

كما نشكر قداسته من صميم القلب على اهتمامه بالشَّرق المسيحي، وعلى تضامنه مع أوضاع بلادنا العربيَّة، وبخاصَّة سورية. وكعرفان جميل نضع في ملحق هذه الرسالة أهمّ ما جاء في خطابات قداسته حول الأزمة في سوريا. ونكتفي هنا بأهم ما جاء في المقابلة مع الصحفيين على متن الطائرة المتوجِّهة إلى لبنان:

"عليَّ أن أقول بأنَّ ليس فقط المسيحيّون هم الذين يغادرون، ولكن المسلمون أيضًا. هناك خطر كبير أن يترك المسيحيّون هذه الأراضي، ويضيع وجودهم، وعلينا أن نبذل ما بوسعنا لكي نساعدهم على البقاء. إنَّ المساعدة الأساسيَّة ستكون إنهاء الحرب والعنف، السببين الرئيسين لهذه الهجرة. لذلك يجب علينا أن نقوم بكل ما بوسعنا لوضع حدّ للعنف، وتشجيع إمكانيَّة العيش معًا في المستقبل. ماذا يمكننا أن نفعل حيال الحرب؟ بالطبع، يمكننا أن ننشر رسالة سلام، ونشدِّد على واقع أنَّ العنف لا يحل أبدًا المشاكل، ونعزز جهود السلام."

"كما أعتقد أيضًا بأنَّ على نقل الأسلحة أن يتوقف: فمن دون السلاح لا يمكن للحرب أن تستمر. عوضًا عن استيراد الأسلحة، والذي هو خطيئة لا تغتفر، علينا استيراد أفكار، وسلام، وإبداع. علينا أن نقبل الآخرين باختلافاتهم. وأن نظهر الاحترام المتبادل للديانات، واحترام الإنسان كصورة الله، ومحبَّة القريب كعنصر أساسي لكلِّ ديانة. نحن بحاجة إلى تعزيز جميع الإجراءات الممكنة، بما في ذلك الماديَّة، لدعم انتهاء الحرب والعنف لكيما يمكن لكلِّ ذلك المساهمة في إعادة إعمار البلاد."

"على الشرق الأوسط بأكمله، عند النظر إليكم، أن يدرك انَّه بإمكان المسلمين والمسيحيّين، الإسلام والمسيحيَّة، العيش معًا بلا كراهيَّة ضمن احترام معتقدات كلّ شخصٍ لنبني معًا، مجتمعًا حرًّا إنسانيًّا."

وفي خطابه في بكركي يوم 15 أيلول 2012، توجَّه إلى الشباب السوري قائلاً:
"علمتُ أيضًا أنَّه يتواجد فيما بيننا شبيبة قادمون من سورية. أريد ان أقول لكم كم أُقدِّر شجاعتكم. قولوا في بيوتكم، لعائلاتكم ولأصدقائكم، أنَّ البابا لا ينساكم. قولوا من حولكم أنَّ البابا حزينٌ بسبب آلامكم وأتراحكم. لا ينسى سورية في صلواته وهمومه. لا ينسى الشرق أوسطييّن الذين يتغذَّبون. آن الأوان لكيّ يتَّحد المسلمون والمسيحيّون من أجل إيقاف العنف والحروب".


معايدة

من خلال هذه الرسالة الطويلة حول الإنجيل، أتوجَّه بالمعايدة القلبيَّة إلى إخوتي السادة الأساقفة في البلاد العربيَّة وفي بلاد الانتشار، وإلى الرؤساء العامين والرئيسات العامَّات، والكهنة والرهبان والراهبات وجميع المؤمنين، بعيد القيامة المجيدة.

نصلِّي إلى المخلِّص القائم من بين الأموات، ونضرع إليه أنَّه كما أنتهى درب صليب آلامه ومراحله المؤلمة المأساويَّة، الدمويَّة، المفجعة بالقيامة، كذلك ينتهي درب صليب عالمنا العربي بالقيامة، ولا سيَّما سوريا، والبلدان التي تتأثر بأزمتها ومأساتها، ولبنان والأردن وفلسطين والعراق، وفي باقي بلداننا العربيَّة لا سيما مصر التي هي أيضًا تتألَّم وربما تتسبَّب في آلام الدول الأخرى.

ونقدّم التهاني لقداسة البابا الجديد فرنسيس ونعلن شركتنا وشركة كنيستنا مع قداسته. ونضع في قلبه المحب للشرق هموم كنيسة الشرق الذي يحبٍّه، ونناشده بحرارة ودول العالم وجميع المسؤولين أن يعملوا لأجل إيقاف نزيف الدم السوري. كفى آلامًا! كفى فواجع! كفى مآسي! كفى أوجاعًا! وكفى عنفًا وإرهابًا وسلاحًا وأصوليَّة، ومتاجرة بحياة الإنسان وكرامته ولقمة عيشه وأمنه وأمانه واستقراره!

العالم المتألِّم يحتاج إلى القيامة! إلى الحياة! إلى الكرامة! إلى القِيَم!

العالم بحاجة إلى بُشرى الإنجيل، إنجيل القيامة والحياة.

ومن عمق آلامنا نصرخ ونرنِّم بأُنشودة القيامة:

المسيحُ قامَ من بينِ الأموات. ووطئَ الموتَ بالموت. ووهبَ الحياة للذينَ بالقبور.

 مع محبَّتي وبَرَكَتي

 

 + غريغوريوس الثَّالث 

بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والإسكندريَّة وأورشليم
للرُّوم المَلَكيين الكاثوليك
 

 

 
ملحق
دعوة الأب الأقدس البابا بندكتوس السادس عشر
إلى السلام والحوار في سوريا
(نصوص مختارة)

 

في السلام الملائكي في ساحة القديس بطرس يوم الأحد في 15 أيار 2011

أميل بفكري أيضاً نحو سوريا، حيث من المُلِحّ إعادة لحمة العيش المشترك على قاعدة الوئام والوحدة. أسأل الله ألاّ يستمر نزف الدماء في موطن الأديان الكبرى والحضارات هذا، وأدعو السلطات والمواطنين جميعاً إلى عدم توفير أي جهد في طلب الخير العام، وفي تقبّل الطموح المشروع إلى مستقبل يتسم بالسلام والاستقرار.

 

بعد السلام الملائكي في كاستل غاندولفو يوم الأحد 7 آب 2011

أيها الإخوة والأخوات،

إني أتابع بعميق القلق حلقات العنف المأساوية والمتصاعدة في سوريا، مع ما خلّفته من ضحايا عديدة وآلامٍ خطيرة. وأدعو المؤمنين الكاثوليك إلى الصلاة من أجل أن تسود المصالحة بدل الانقسام والأحقاد. كما أجدّد بإلحاح دعوة السلطات السورية والشعب، إلى استعادة العيش المشترك السلامي بأسرع ما يمكن، والاستجابة استجابةً مناسبة لطموحات المواطنين المشروعة إلى احترام كرامتهم، ولما هو في صالح الاستقرارفي المنطقة.


في خطاب البابا إلى الهيئات الدبلوماسية المعتمدة لدى الكرسي الرسولي في 9/1/2012

إني أشعر بقلقٍ كبير على سكان البلدان التي تستمر فيها التوترات وأعمال العنف، وبخاصّة في سوريا، التي أتمنى لها نهاية سريعة لنزف الدماء، وانطلاقاً لحوار مثمر بين اللاعبين السياسيين، يعزّزه وجود مراقبين مستقلين.

 

في السلام الملائكي في ساحة القديس بطرس يوم الأحد في 12 شباط 2012

إني أتابع بكثير من التوجّس حلقات العنف المأساوية والمتنامية في سوريا. فقد تسبّبت بالعديد من الضحايا في الأيام المنصرمة. أذكر في صلاتي تلك الضحايا، التي سقط في عدادها أيضًا الأطفال، وكذلك الجرحى وكلّ من يعاني الآلام من تبعات هذا النزاع الذي يثير قلقًا متناميًا. ثم إنّي أجدد دعوتي الملحّة إلى وضع حدّ للعنف وإلى حقن الدماء. وإني أدعو أخيرًا الجميع – وفي طليعتهم السلطات السياسية في سوريا – إلى تفضيل درب الحوار والمصالحة والالتزام بإحلال السلام. إنَّه من المُلِح الاستجابة إلى الطموحات المشروعة لمختلف مكونات البلاد، وتمنيات المجتمع الدولي، القلق على الخير العام للمجتمع وللمنطقة بأسرها.

 

في رسالة البابا بندكتوس السادس عشر إلى روما والعالم: فصح 2012

لنسأل المسيح القائم من بين الأموات أن يمنح الرجاء للشرق الأوسط، كي تتعاون في هذه المنطقة جميع المكونات العرقية والثقافية والدينية لما فيه الخير العام واحترام حقوق الإنسان. وفي سوريا بخاصّة، من أجل أن تحقن الدماء، ويتم بلا تلكؤ سلوك درب الاحترام والحوار والمصالحة، كما يتمناه المجتمع الدولي. ألا فليجد اللاجئون القادمون بوفرة من هذا البلد، والمحتاجون إلى الإغاثة الإنسانية، من الاستقبال والتضامن ما يخفف عذاباتهم المضنية.

 

بعد السلام الملائكي في كاستل غاندولفو يوم الأحد 29 تموز 2012

ما زلت أتابع بتخوف حلقات العنف المأساوية والمتنامية في سوريا، وما تخلفه من مواكب الموتى والجرحى، حتى في صفوف المدنيين، وكذلك من أعداد كبيرة من النازحين داخل البلاد، ومن اللاجئين إلى البلدان المجاورة. أطالب بأن تؤمن لهم المساعدات الإنسانية اللازمة والدعم المتضامن. وفيما أعرب مجدّدًا للسكان المتألّمين عن تعاطفي معهم، وعن ذكرهم الأكيد في صلاتي، أجدّد دعوتي الملحّة إلى وضع حد لكلّ صنوف العنف، وإلى حقن الدماء. أسأل الله أن يمنح حكمة القلب، وبخاصّة للذين يتنكبون مسؤوليات جسامًا، بمن فيهم المنتمين للمجتمع الدولي، كي لا يوفّروا أي جهد في السعي إلى إحلال السلام، عبر الحوار والمصالحة، طلبًا لحلّ سياسي مناسب للنزاع.

 

من المقابلة على متن الطائرة المتجهة إلى لبنان (14 أيلول 2012):

وعلى سؤال حول ما تنوي الكنيسة الكاثوليكية قوله أو فعله، لمنع انتفاء وجود المسيحيين في سوريا وبلدان أخرى في الشرق الأوسط، في حين أن كثيرين من المسيحيين في سوريا، كما في العراق قبل بضع سنوات، يشعرون بأنهم مضطرين لمغادرة البلاد مكرهين، أجاب الأب الأقدس:

عليّ أولاً أن أقول إنَّ المسيحيّين ليسوا وحدهم من يغادر هربًا، بل وإنَّ المسلمين يغادرون أيضًا. ولكن لا شك أنَّ خطر ابتعاد المسيحيين وانتفاء وجودهم عن هذه المنطقة كبير، وعلينا أن نبذل قصارى جهدنا لمساعدتهم على البقاء. والمساعدة الجوهرية قد تكون في وقف أسباب الفرار، من حرب وعنف. وبالتالي فأوّل ما ينبغي فعله هو بذل كل ما في وسعنا لإيقاف العنف، وإيجاد إمكانية حقيقية للبقاء معًا، حتى في المقبل من الأيام. ما الذي يمكننا فعله حيال الحرب؟ نقول طبعًا أنه بوسعنا تبيان أن العنف لا يأتي أبدًا لأي مشكلة بالحلّ المنشود، كما يمكننا دعم قوى السلام. وهنا تقع أهمية عمل الإعلاميين، الذين بوسعهم أن يساعدوا كثيرًا على إظهار كيف أن العنف يدمر ولا يبني، ولا فائدة ترجى منه لأحد. وإلى ذلك، بوسعي القول أنه يمكن للشعب المسيحي القيام بمبادرات، بأيام صلاة لأجل الشرق الأوسط، للمسيحيين والمسلمين فيه، وتبيان إمكانية الحوار وإيجاد الحلول. وربما أقول أيضًا أنه ينبغي لاستيراد السلاح أن يتوقف أخيرًا، لأنه بدون استيراد السلاح لا يمكن للحرب أن تستمر. عوضاً عن الخطيئة الجسيمة المتمثّلة في استيراد الأسلحة، علينا أن نستورد أفكار سلام، ومبادرات خلاّقة، وعلينا أن نجد من الحلول ما يجعلنا نتقبل كلّ امرئ على ما هو مختلف فيه؛ علينا إذاً أن نجعل احترام الديانات بعضها لبعض، واحترام الإنسان من حيث أنه خليقة الله، منظورًا في العالم، وإظهار محبّة القريب على أنها في أصل كلّ الأديان. بهذا المعنى ينبغي اتخاذ كلّ المبادرات الممكنة، بما فيها المساعدات المادية، للمساعدة على وقف الحرب والعنف، فيتسنى للجميع إعادة بناء البلاد.   
                                   
الأب لومباردي:أيها الأب الأقدس، إنّكم تحملون الإرشاد الرسولي الموجّه لكلّ مسيحيي الشرق الأوسط. وهم اليوم شعوب متألّمة. فهل تجدون أن بوسع الكنائس والكاثوليكيين في الغرب، وبخاصّة في أوروبا وأمريكا، أن يقوموا، إضافة إلى الصلاة ومشاعر التعاطف، بخطوات عملية لمساندة إخوتهم في الشرق الأوسط؟

الأب الأقدس: أقول أنه ينبغي أن نؤثّر على الرأي العام السياسي، وعلى رجال السياسة، كي يصار بكل الجوراح، وكل الإمكانات، وبمبادرات خلاقة حقيقية، إلى الالتزام بإحلال السلام بدل العنف. لا ينبغي لأحد أن يتوقع منفعة من العنف، بل على الجميع الإدلاء بدلوهم لمنعه. بهذا المعنى من الضروري جدًّا بالنسبة لنا أن نعمل على التنبيه والتنشئة والتطهير. وإلى ذلك، ينبغي لجمعياتنا الخيرية أن تساعد مادياً أيضاُ، باذلة قصارى جهدها. لدينا منظمات كفرسان القبر المقدس المختصة بالأراضي المقدسة، ولكن يمكن لمنظمات مشابهة أن تساعد هي أيضًا على الصعيد المادي والسياسي والإنساني في هذه البلدان. وأكرّر مرة أخرى أنه يمكن لمبادرات تضامن مرئية، وأيام صلاة علنية، وما شابه، أن تلفت انتباه الرأي العام، وتعتمل فيه بحق. إنا لعلى قناعة بأن للصلاة تأثيراً؛ إذا ما تليت بكثير من الثقة والإيمان، سيكون لها تأثيرها.

 

الرحلة الرسولية إلى لبنان (14-16 أيلول 2012): السلام الملائكي في مركز الواجهة البحرية يوم الأحد 16 أيلول 2012:

أيُّها الإخوة والأخوات، لنلتفت الآن نحو سيدة لبنان، العذراء مريم، التي يلتف حولها المسيحيون والمسلمون. لنسألها أن تتوسط لدى ابنها الإلهي من أجلكم، وبالأخصّ من أجل سكان سوريا والدول المجاورة، طالبة عطية السلام. تعرفون تماماً مأساة النزاعات والعنف وما ينجم عنها من آلام. وللأسف ما زالت قرقعة السلاح تسمع، وكذلك عويل الأرامل واليتامى! إن العنف والحقد يحصدان حياة الكثيرين، جاعلين من النساء والأطفال أولى ضحاياهما. لماذا كل تلك الأمور الرهيبة؟ لماذا أعداد الموتى تلك؟ إني أسائل المجتمع الدولي! أتوجه إلى البلدان العربية كي تقترح بدافع الأخوة حلولاً قابلة للتطبيق، وتحترم كرامة كل امرئٍ وحقوقه ودينه! على من يرغب في بناء السلام أن يكف عن أن يرى في الآخر شراً لا بد من استئصاله. ليس من السهولة بمكان النظر إلى الآخر على أنّه شخص ينبغي احترامه ومحبته، ولكن إذا ما رغبنا في بناء السلام، وفي استتباب الأخوة، فما من ذلك بد (يو 2: 10-11؛ 1 ف 3: 8-12). لنسأل الله أن يمنّ على بلدكم، وعلى سوريا والشرق الأوسط، بعطية سلام القلوب، وصمت السلاح، وتوقف كل عنف! نسأل أن يفقه الناس أنهم جميعهم إخوة! إن مريم، بوصفها أمنا، تفهم قلقنا وحاجاتنا. مع البطاركة والأساقفة المتواجدين ههنا، أضع الشرق الأوسط تحت كنف حمايتها كأم (المقترح 44). علنا بعون الله نرتد فنعمل بغيرة على إعادة السلام الضروري لحياة وئام بين إخوة، أياً كانت أصولهم وقناعاتهم الدينية! والآن فلنصلي: بشر ملاك الرب مريم...

 

في خطاب البابا للشباب في بكركي يوم 15/9/2012

لقد علمت أيضًا أن بيننا شبابًا قادمين من سوريا. أودّ أن أقول لكم كم أنا معجب بشجاعتكم. قولوا لعائلاتكم وأصدقائكم، أن البابا لا ينساكم. انشروا من حولكم أن البابا حزين بسبب آلامكم وأحزانكم، وأنَّه لا ينسى سوريا في صلواته وأنها مما يشغل باله. قولوا أنّه لا ينسى أبناء الشرق الأوسط الذين يعانون الآلام. لقد حان للمسلمين والمسيحيين أن يتحدوا ليضعوا حدًا للعنف والحروب.


في رسالة البابا بندكتوس السادس عشر إلى روما والعالم: 25 كانون الأول 2012

لقد أينعت الحقيقة، فحملت محبة وعدلاً وسلامًا.

أجل، فلتنبت براعم السلام للشعب السوري، الذي جرح عميقًا وأصيب بالانقسام جراء نزاع لا يوفر حتى الذين لا حول لهم، ويحصد ضحايا بريئة. مرة أخرى أدعو إلى وقف نزيف الدم، وتسهيل وصول المساعدات للنازحين عن بيوتهم، وللاجئين، والسعي عبر الحوار إلى إيجاد حل سياسي للنزاع.

 

في خطاب البابا للسفير السوري الجديد لدى الكرسي الرسولي يوم 9/6/2012

من تقاليد سوريا أنها كانت مثالاً للتسامح والتعايش والعلاقات المتناغمة بين المسيحيين والمسلمين، والعلاقات المسكونية والعلاقات بين الأديان هي اليوم أيضًا جيدة. أتمنى بكلّ جوراحي أن يستمر هذا العيش المشترك بين جميع مكونات الأمّة الثقافية والدينية، وأن يتطوّر لما فيه كلّ الخير للجميع، مرسّخًا بذلك وحدة قائمة على العدل والتضامن.

إنَّ الأحداث التي جرت في الأشهر الأخيرة في بعض بلدان حوض المتوسط، ومنها سوريا، تظهر الرغبة في مستقبل أفضل في ميادين الاقتصاد والعدل والحرية والمشاركة في الحياة العامة. وتظهر هذه الأحداث أيضًا الضرورة الملحّة لإجراء إصلاحات حقيقية في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. على أنه من المرغوب فيه جدًا ألاّ تتحقّق هذه التطورات بعدم التسامح، أو التمييز، أو النزاع، ولا بالعنف بخاصّة، بل عبر الاحترام المطلق للحقيقة، والعيش المشترك، والحقوق المشروعة للأفراد والجماعات، وكذلك عبر المصالحة. ينبغي للسلطات أن تتخذ مثل هذه المبادئ نبراسًا لها، آخذة بعين الاعتبار طموحات المجتمع المدني، وكذلك ما يصرّ عليه المجتمع الدولي.

يسرّني سعادة السفير أن أذكر هنا الدور الإيجابي الذي يلعبه المسيحيون في بلادكم، من حيث أنهم مواطنون منخرطون في بناء مجتمع ينبغي للجميع أن يجدوا لهم مكانًا فيه. ولا يفوتني الإتيان على ذكر الخدمة التي تؤدّيها الكنيسة الكاثوليكية في الميدان الاجتماعي والتعليمي، والتي تحظى بتقدير الجميع. إسمح لي بأن أحيّي بخاصّة مؤمني الجماعات الكاثوليكية، مع أساقفتهم، وأن أشجعهم على تنمية روابط الأخوة مع الجميع. إن العلاقات التي يعيشونها يوميًا مع سائر أبناء وطنهم المسلمين إنما تلقي الضوء على أهمية الحوار بين الأديان، وعلى إمكانية العمل معًا، وبأشكال عدة، لما فيه الخير العام. علّ الدفع الذي وفرته اجتماعات الهيئة الخاصة بالشرق الأوسط من سينودس الأساقفة، يحمل ثمرًا وفيرًا في بلادكم، لمصلحة كل السكان، ولما فيه المصالحة الحقيقية بين الشعوب!

 

كلمة مندوب الكرسي الرسولي إلى الجامعة العربية في مؤتمر أصدقاء سوريا
(اسطنبول 1/4/2012)


بعد اجتماع تونس، انبثق شعاع أمل تمثل بالمهمة التي كلفت بها الأمم المتحدة والجامعة العربية السيد كوفي عنان، الأمين العام السابق لمنظمة الأمم المتحدة. يمكن لهذه المهمة أن تبني على تاريخ سوريا العريق في مجال العيش المشترك بين مختلف الجماعات الدينية والعرقية. إن السوريين يكنون قيمًا مشتركة، قيم الكرامة والعدل للجميع، بغض النظر عن إيمانهم أو عرقهم. فمن الأهمية بمكان إذًا ألا يفوّت الشعب السوري هذا الإرث، في سعيه إلى تحقيق ما لمختلف أعضاء الأمّة من طموحات مشروعة. وفي هذا الإطار يكتسي احترام أماكن العبادة، كل أماكن العبادة، مكانة بعيدة المغزى.

 

في خطاب البابا إلى الهيئات الدبلوماسية المعتمدة لدى الكرسي الرسولي:
الإثنين 7/1/2013


يذهب فكري أولاً إلى سوريا، التي تمزّقها مذابح متوالية، والتي باتت مسرحًا لآلام رهيبة في أوساط السكان المدنيين. إني أكرّر دعوتي لوضع السلاح جانبًا في أسرع وقت ممكن وتغليب حوار بناء من شأنه وضع حد لنزاع لن يكون فيه منتصر، إذا ما استمر، بل مجرّد مهزومين، ولن يخلف وراءه سوى حقول الدمار. اسمحوا لي أيتها السيدات والسادة السفراء، أن أطلب إليكم الاستمرار في إزكاء مشاعر سلطاتكم، كي يصار على عجل إلى تأمين المساعدات التي لا بد منها لمواجهة الوضع الإنساني الخطير.