صاحب الغبطة يوسف
رسالة الميلاد 2010
رسالة صاحب الغبطة
البطريرك غريغوريوس الثَّالث
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والإسكندريَّة وأورشليم
للرُّوم المَلَكيِّين الكاثوليك
الخليقةُ الجديدة
رسالةُ عيدِ ميلادِ ربِّنا وإلهِنا ومُخلِّصنا يسوع المسيح بالجسد
25 كانون الأوَّل 2010
من غريغوريوس عبدِ يسوعَ المسيح
برحمة الله تعالى
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق
والإسكندريَّة وأورشليم
إلى السّادة المطارنة، أعضاء المجمع المقدَّس الموقَّرين
وسائر أبنائنا وبناتنا بالمسيح يسوع، إكليروسًا وشعبًا
المدعوِّين قدِّيسين، مع جميع الذين يدعون باسم ربِّنا يسوع المسيح، ربِّهم وربِّنا
نعمةٌ لكم وسلامٌ من الله أبينا، والرَّبِّ يسوع المسيح (اكور: 1_3).
الطِّفل الجديد
والخليقة الجديدة
طفلٌ جديد، وُلِدَ لنا، وهو الإلهُ الذي قبلَ الدُّهور! تجسَّد في ملءِ الزَّمان، ولبِسَ طبيعتنا البشريَّة، لنصيرَ به خليقةً جديدة، وَارِثين مجدَه!
هذه هي بشرى الميلاد الفريدة! كما عبَّر عنها بولس الرَّسول قائلاً: "أنتم في المسيح خليقةٌ جديدة" (2كورنثُس 17:5). الطِّفلُ الجديدُ هو المسيحُ المتجسِّد! والخليقةُ الجديدةُ هي الإنسان المتألِّه! هذا هو السِّرُّ الخفيُّ منذ الدُّهور. لا بل المسيح نفسه هو الخليقةُ الجديدة.
مسيرة التَّجدُّد في الكتاب المقدَّس
كعادتي أُحبُّ أن أستقي رسائلي من وحي الله تعالى، وكلمته في الكتاب المقدَّس في عهدَيه. وهما في جوهرهما عهدٌ واحد. كما أُحبُّ أن أستقي رسائلي من ينبوعٍ آخر، هو صلواتنا الطَّقسيَّة المقدَّسة، التي هي متَّصلة اتِّصالاً وثيقًا بالكتاب المقدَّس، ومواعظ الآباء القدِّيسين. ولذلك سيكون لنا "مشواران" في هذه الرِّسالة، مشوارُ مسيرةٍ في بستان كلمة الله، ومشوارٌ في رِياض الصَّلوات الطَّقسيَّة، لكي نستخرج منها المعاني الرَّائعة عن الخليقة الجديدة، موضوع رسالتنا.
فلنَسِرْ معًا في مشوار فردوس كلمة الله المقدَّسة. حيث تتكرَّر عبارات: جِدّةُ الحياة وجديد وجديدة وجدَّد والتَّجديد والدَّعوة إلى خَلعِ الإنسان العتيق ولبس الجديد وإلى التَّجدُّد والتَّجديد.
أستعرض هذه المواقع التي تشير إلى أنَّ التَّجدُّد هو جوهر كلمة الله، وغاية الوحي الإلهي. حيث نجد الدَّعوة إلى التَّجدُّد في مختلف أسفار العهدَين القديم والجديد.
الله يتكلَّم بفم النَّبي أشعيا قائلاً: "لا تتذكَّروا الأوائلَ وتتأمَّلوا القدائم. هاءنذا آتي بالجديد" (أشعيا 43: 18 – 19).
المدينة المقدَّسة "القدس" هي أيضًا بالرَّغم من قداستها وتاريخها مدعوَّةٌ إلى التَّجدُّد: "يخرج كضياءٍ برُّها وخلاصُها كمصباحٍ متَّقد. فترى الأممُ برَّكِ، وجميعُ الأمَمِ مجدَكِ. وتُدعَينَ باِسمٍ جديدٍ يُعيِّنه فمُ الرَّبّ" (أشعيا 62: 1 – 2).
والله نفسه يدعو إلى التَّجدُّد، كما نقرأ في نبوءة حزقيال: "وأُعطيهم (المؤمنين باِسم الرَّبّ) قلبًا واحدًا، وأجعلُ في أحشائهم روحًا جديدًا. وأنزعُ من لحمهم قلب الحجر، وأعطيهم قلبًا من لحم (أو من بشر)" (حزقيال 11: 19 و 36: 26).
ويقول أيضًا: "أُنبذوا عنكم جميع معاصيكم التي عصَيتُم بها، واصنعوا قلبًا جديدًا وروحًا جديدًا" (حزقيال 18: 31).
في المزامير تتوالى الدَّعوات إلى ترنيمةٍ جديدة، ومدحٍ جديد، وتهليلٍ جديد... (المزامير 3:33 ؛ 23:40 ؛ 1:96 ؛ 1:98 ؛ 9:144؛..).
والله نفسه يَعِدُ النَّاس والبشرَ جميعًا بالجديد: "هاءنذا أخلق سماواتٍ جديدة، وأرضًا جديدة. فلا تُذكَر السَّالفة ولا تَخطُر على البال" (أشعيا 17:65). وتَرِدُ الآية نفسها في رسالة بطرس الرَّسول: "لكنَّنا على مقتضى موعده، ننتظرُ سماواتٍ جديدة". وتَرِدُ الآية نفسها في سفر الرُّؤيا: "ورأيتُ (يوحنَّا يتكلَّم) سماءً جديدة. لأنَّ السَّماء الأولى والأرض الأولى قد زالتا" (رؤيا 1:21). وتَرِدُ العبارة نفسها في أشعيا من جديد (أشعيا 22:66).
أمَّا أسفار العهد الجديد، فكلُّها دعوةٌ إلى الجديد. والعهد نفسه اِسمه جديد. والإنجيل هو تحريف عبارة: الشيىء الجديد والجميل والمحبَّب والخبر الجديد ("إيف، أنجيليون" تعني بشرى جديدة...).
يسوع يسمِّي عهده بالجديد: "هذا هو دمي للعهد الجديد" (متَّى 28:26) ويَعِدُ تلاميذه بعصير الكرمة الجديد (متَّى 29:26). ويحذِّر من إفساد الجديد بالقديم: "ليس أحدٌ يجعل رقعةً من ثوبٍ جديدٍ في ثوبٍ بالٍ، لأنَّها تأخذ مِلأها من الثوب فيصير الخرق أسوأ. ولا تُجعَل خمرةٌ جديدةٌ في زِقاقٍ عتيقة، وإلاّ فتنشقُّ الزِّقاق وتُراقُ الخمر وتُتلف الزِّقاق. لكن تُجعَلُ الخمر الجديدة في زقاقٍ جديدةٍ فتُحفَظ جميعًا (متَّى 9: 16 – 17).
ونجدُ آياتٍ مماثلة في مرقس حول الرُّقعة الجديدة، والثوب البالي، والخمر الجديدة، والزِّقاق العتيقة (مرقس 2: 21 – 22). وتَرِدُ الآية نفسها في (لوقا 5: 36 – 38).
أبناء الملكوت عندهم دائمًا أمورٌ جديدة: "كلُّ كاتبٍ متعلِّم في ملكوت السَّماوات، يُشبه رجلاً ربُّ بيتٍ يُخرِجُ من كنزه جُدُدًا وعِتقًا" (متَّى 52:13). ويسوع يدعو ويصنِّف جيله بالجديد: "أنتم (الرُّسل) الذين تبعتموني في جيل التَّجديد..." (متَّى 28:19).
الرَّسول يوحنَّا يربط العهد الجديد بالوصيَّة الجديدة: "إنِّي أُعطيكم وصيَّةً جديدة: أن يُحبَّ بعضكم بعضًا" (يوحنَّا 43:13). ويربط العهدَين معًا فيقول: "أيُّها الأحبَّاء، لستُ أكتبُ إليكم بوصيَّةٍ جديدة، بل بوصيَّةٍ قديمة كانت لكم من البَدء. والوصيَّة القديمة هي الكلمة التي سمعتموها. وأيضًا ما أكتب إليكم هو وصيَّةً جديدة" (1يوحنَّا2: 7 -8).
ويستفيض القدِّيس بولس الرَّسول في الكلام عن الخليقة الجديدة، وهذا هو عنوان رسالتنا الميلاديَّة: "أنتم في المسيح خليقةٌ جديدة" (2 كورنثُس 17:5). ويدعونا في رسالته إلى الرُّومانيِّين: "لكي نسلُكَ في جِدَّةِ الحياة" (روما 4:6)، "وأن نعبُدَ بجِدَّة الرُّوح لا بعِتقِ الحرف" (روما 6:7). ويطلب منَّا على مثال يسوع الذي يتكلَّم عن الخميرة: "أن ألقوا عنكم الخمير العتيق، لتكونوا عجينًا جديدًا" (1 كورنثُس 7:5) ويؤكِّد قائلاً: "إذن، إن كان أحدٌ في المسيح (أي معتمد) فهو خليقةٌ جديدة. وقد مضى القديم، وها إنَّ كلَّ شيىءٍ قد تجدَّد" (2كورنثُس 17:5).
ويدعونا بولس الرَّسول إلى التحرُّر من القديم. فيكتب إلى أهل غلاطية: "أمَّا الآن، فبعد أن عرفتم الله، بل بالحريِّ عرفكم الله، كيف تَرجعون إلى الأركان الضَّعيفة الفقيرة (القديمة)، التي تبتغون أن تُستعبَدوا لها من جديد؟" (غلاطية 9:4).
المسيح الطِّفل الجديد، والإله الذي قبل الدُّهور قد "أبطل ناموس الوصايا بتعاليمه، ليَخلق من الإثنين في نفسه إنسانًا واحدًا جديدًا بإجرائه السَّلام" (أفسس 15:2). وعلى مثال المسيح الإنسان، آدمَ الجديد، يدعونا بولس: "أن تنبذوا عنكم من جهة تصرُّفكم السَّابق، الإنسانَ العتيق الفاسدَ بشهوات الغرور، وتتجدَّدوا بروح أذهانكم، وتلبَسوا الإنسانَ الجديد، الذي خُلِقَ على مثال الله، في البرِّ والقداسة والحقّ" (أفسس 4: 22 – 24). ويَدعونا أن: "إلبسوا الإنسان الجديد الذي يتجدَّد للمعرفة على صورة خالقه" (كولوسي 10:3). وهذا يُعطينا قوَّةً في الجهاد. لأنَّه "وإن كان إنسانُنا الظَّاهرُ يَنهدم، فإنَّ إنساننا الباطنَ يتجدَّدُ يومًا فيومًا" (2كورنثُس 16:4).
وهذا هو الأهمّ. "لأنَّه في المسيح يسوع، ليس الختان بشيىء. ولا القلف بشيىء، بل الخليقة الجديدة. وكلُّ الذين يسلكون هذه الطريقة (الجديدة)، فعليهم السَّلامُ والرَّحمة" (غلاطية 6: 15 – 16).
وفي الرِّسالة إلى العبرانيِّين، يؤكِّد بولس، أنَّ الرَّب يقطع عهدًا جديدًا مع شعبه (عبرانيُّون 8:8). ويفسِّر هذا العهد الجديد فيقول: "هو أنَّني أجعل شريعتي في ضمائرهم، وأكتبها في قلوبهم، وأكون لهم إلهًا، ويكونون لي أمَّة. ولا يُعلِّم بعدُ كلُّ واحدٍ قريبَه، وكلُّ واحدٍ أخاه قائلاً إعرف الرَّبّ. لأنَّ جميعهم سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم. لأنَّي سأغفر آثامهم، ولن أذكر خطاياهم من بعد. فبقوله جديدًا، جعل الأوَّل عتيقًا. وما عتق وشاخ فهو قريبٌ من الفناء" (عبرانيُّون 8: 1 _ 13).
والمسيح "هو الوسيط للوصيَّة الجديدة" (عبرانيُّون 15:9 و24:13). المسيح وسيط العهد الجديد "خلَّصَنا هو، لا اعتبارًا لأعمالِ برٍّ عملناها، بل لرحمته بغسل الميلاد الثاني، وتجديد الرُّوح القدس" (تيطُس 5:3).
وهناك خطرٌ، أن يقسوَ قلبُ الإنسان، فلا يمكنه أن يتجدَّد "لأنَّ الذين قد أُنيروا مرَّةً، وذاقوا الموهبة الإلهيَّة، وجُعِلوا مشتركين في الرُّوح القدس، وذاقوا كلمة الله الطَّيِّبة، وقوَّاتِ الدَّهر الآتي، ثمَّ سقطوا، فلا يمكنهم أن يتجدَّدوا ثانيةً للتَّوبة" (عبرانيُّون 6: 4 – 6).
وينتهي العهد الجديد، وتنتهي أسفار العهد الجديد بعباراتٍ رائعةٍ عن التَّجديد، نجدها في سفر رؤيا القدِّيس يوحنَّا الحبيب: "مَن غلبَ، فإنِّي أجعله عمودًا في هيكلِ إلهي... وأكتب عليه آسمَ إلهي، واسم مدينة إلهي أورشليمَ الجديدة، النَّازلةِ من السَّماء، من عند إلهي واسمي الجديد" (رؤيا 12:3).
وأخيرًا يُعلن يوحنَّا الرَّسول الحبيب في رؤياه: "ورأيتُ سماءً جديدةً، وأرضًا جديدة... لأنَّ السَّماء الأولى والأرض الأولى، قد زالتا، والبحرُ لم يكن من بعد. وأنا يوحنَّا رأيتُ المدينة المقدَّسة أورشليم الجديدة، نازلةً من السَّماء، من عندِ الله، مهيَّأةً كالعروس المزيَّنة لرَجُلِها. وسمعتُ صوتًا من العرش قائلاً: "هوذا مسكنُ الله ... وسيَسكنُ معهم ويكونون له شعبًا. واللهُ نفسُهُ يكون معهم إلهًا لهم. ويَمسحُ اللهُ كلَّ دمعةٍ من عيونهم. ولا يكون بعدُ موتٌ ولا صراخٌ ولا وجع. لأنَّ ما كان سابقًا قد مضى. وقال الجالس على العرش: "ها إنِّي أجعلُ كلَّ شيىءٍ جديدًا. وقال لي: أُكتبْ، فإنَّ هذه الكلمات صدقٌ وحقّ. وقال لي: "أنا الألفُ والياء، والبدايةُ والنِّهاية. أنا أُعطي العطشان من ينبوعٍ ماءَ الحياةِ مجّانًا. من غلَبَ يرثُ هذه. وأنا أكونُ له إلهًا. وهو يكون لي ابنًا" (رؤيا 21: 1 – 7).
الخليقةُ الجديدة
والدَّعوةُ إلى التَّجدُّدِ في النُّصوص الطَّقسيَّة
الاعتماد في رسائلي على النَّصوص اللِّيترجيَّة، ليس من باب التَّعصُّب لليترجيَّا، كما يظنُّ البعض. وإنَّما الأمرُ آتٍ من قناعتي بالعلاقة العميقة، بين نصوص الكتاب المقدَّس، والصَّلوات والأناشيد اللِّيترجيَّة. وأُردِّد دائمًا، أنَّ آباءَنا القدِّيسين قرأوا الكتاب المقدَّس بعهدَيه قراءةً متواترةً وشبه يوميَّة، وتأمَّلوا في كلمة الله يوميًّا. ومن خلال تأمُّلهم وضعوا عظاتهم وشروحاتهم، وعلَّموا الشَّعب وثقَّفوه، وفتحوا أمامه كنوز الوحي المقدَّس. وأتى الرُّهبان خاصَّةً وقرأوا هذه المواعظ، واستنادًا إليها، وضعوا الأناشيد المقدَّسة التي وصلت إلينا في كتبنا الطَّقسيَّة.
ولذلك لا يمكن ولا يجوز أن تخلوَ عِظةٌ أو رسالةٌ أو تعليمٌ أو سهرةٌ إنجيليَّة، أو حديثٌ روحيّ أو إرشاد، من آيات الكتاب المقدَّس، ومن الإنجيل ومن الرَّسائل بخاصَّة، ومن أناشيد طقسيَّة، ومن أقوال الآباء القدِّيسين، لأنَّها كلَّها مترابطة.
وهكذا تصبح كلمة الله، الدَّليلَ الأساسي والأهمّ لنا: نقرأُها. نتأمَّلُها. نصوغُها عظةً أو تعليمًا أو إرشادًا. ونترنَّمُ بها، ونُعلنُ إيماننا بفرحٍ وجمالٍ وإيقاعٍ وألحانٍ مُتقنة، من خلال الأناشيد الطَّقسيَّة، تُتقِنُها جوقاتنا، وتصدحُ بها حناجرُ رعايانا، منشدةً إيمانها المقدَّس ومفتخرةً به، ومُعتبرةً إيَّاه الكنز الثَّمين، والنُّورَ الذي يُضيء دروب حياتنا جميعًا.
سيروا معي أيُّها الإخوة والأخوات، في رِياض الأعياد المقدَّسة: السَّيِّد والسَّيِّدة، وبعض القدِّيسين، على مدار السَّنة. وسنكتشف معاني عبارة "الخليقة الجديدة" و"التَّجدُّد الرُّوحي" من خلالها. إذ لا يخلو عيدٌ، إلاَّ ويدعو إلى التَّجدُّد والحياة الجديدة والخلق الجديد!
عيد تجديد هيكل القيامة في القدس: (13 أيلول) وهو عيد التَّجديد
"أيُّها الإخوة تجدَّدوا. وبخلعكم الإنسان العتيق. سيروا سيرةً جديدة. جاعلين لِجامًا لكلِّ الأشياء التي ينشأ عنها الموت. فلنُهذِّب إذن جميع الأعضاء. ماقتين كلَّ مذاقةِ العود الرَّديئة. ولا نتذكَّرنَّ الأشياء العتيقة. إلا لكي نفرَّ منها. فهكذا يتجدَّدُ الإنسان. وهكذا يُكرَّمُ يومُ التَّجديدات".
"إنَّ المسيح أنار بحضوره جميع الأشياء. وجدَّد العالم بروحه الإلهي. وتجدَّدت النُّفوس. لأن قد وُضعَ الآن بيتٌ لمجد الرَّبّ. حيثُ المسيحُ إلهنا يُجدِّدُ قلوب المؤمنين. لخلاص البشر".
"أيُّها المؤمنون. أدركنا اليوم عيد التَّجديدات. وهو يدعو جميعَنا نحن شعب المسيح لأن نتجدَّد. وبوجهٍ مُتهلِّلٍ نُقدِّمُ للسَّيِّد من صميم القلب، التَّسابيحَ بإيمانٍ. بما أنَّه مُنقذنا ومُجدِّدنا".
"اليوم المسيح آدمُ الثاني. أظهر هذا المسكن الجديد فِردوسًا عقليًّا. وآثرَ على عود المعرفة الصَّليبَ الحامل الحياة. الذي هو سلاح المرنِّمين: باركي الرَّبَّ يا جميع أعماله" (التسبحة الثامنة).
"اليومَ البيتُ الإلهيُّ الكاملُ الشَّرف. المتوشِّحُ بالضِّياء. المُكرَّسُ لقيامة المسيح. يتجدَّدُ ببهاء. والقبر الإلهيُّ يوزِّعُ الحياة للعالم. مشتمِلاً على ينبوعٍ غير مائت. يُفيضُ مجاري النِّعمة. ويتدفَّقُ بمياه العجائب. واهبًا الشِّفاء لمكرِّميه بإيمانٍ".
"إنَّ الشُّعاع السَّاطع الضِّياء. بزغ من العلاء منيرًا الجميع. فلنُكرِّمنَّ إذًا جميعُنا بإيمانٍ قيامة المسيح خالقِنا. وعيدَ التَّجديداتِ الشَّريفَ الإلهيّ. الحاملَ الحياة. مُعيِّدين بالتَّسابيح ومترنِّمين بالمزامير. لكي نجدَ الرَّبَّ المخلِّص غفورًا" (صلاة الباكريَّة، الثالثة).
"تجدَّدي تجدَّدي يا أورشليمُ الجديدة. لأنَّ نورَك سطع. ومجدَ الرَّبِّ أشرق عليكِ. هذا البيت ابتناه الآب. هذا البيت ثبَّته الابن. هذا البيت جدَّدهُ الرُّوح القدس. المنيرُ والمشدِّدُ والمقدِّسُ نفوسنا".
"إرجعْ إلى ذاتِكَ أيُّها الإنسان. وتحوَّل من عتيقٍ بالٍ إلى جديد. وعيِّدْ بتجديداتِ النَّفس. وما دامَ لكَ وقتٌ، فجدِّد حياتَكَ ومنهجَ سيرتِكَ كلَّه. إنَّ الأشياء العتيقة قد جازت. وها قد صار كلُّ شيءٍ جديدًا. فلتكُنْ ثمرتُكَ في هذا العيد. أن تتغيَّر تغيُّرًا محمودًا. فإنَّه هكذا يتجدَّدُ الإنسان. وهكذا يُكرَّمُ يومُ التَّجديدات".
جميلٌ أن يكون في طقسنا عيد التَّجديدات (ك1)، وعيد تجديد القيامة (13 أيلول)، والأحد الجديد (أحد توما).
تقدمة عيد الميلاد: (20 كانون الأوَّل)
"ها إنَّ مُجدِّد دعوتنا يَقدَمُ إلينا" (التَّسبحة الثَّامنة).
"أُرتِّلُ تسبيحًا لميلادك، نشيدًا لتقدمة عيدك. يا من وهبني بميلاده الإلهي، ميلادًا مجيدًا وأعادني إلى أصلي القديم الشريف" (سَحَر العيد، التَّسبحة الأولى).
"مرتِّلين تسبحةَ الملائكة الجديدة" (ذوكصا نشيد جلسة المزامير).
"إنَّكَ من التَّيمن تأتي متجسِّدًا. لِتُجدِّد دعوة آدم المنفي" (التَّسبحة الرَّابعة).
"أيُّها الجابل. قد جدَّدتَ التُّرابيِّين إذ صرتَ ترابيًّا" (التَّسبحة الخامسة).
"أن يظهر طفلاً جديدًا. وهو الإله الذي قبل الدُّهور" (القنداق والبيت).
"مُعيدًا لهم الجمال القديم" (في الباكريَّة).
"لذلك آدمُ يتجدَّدُ مع حوَّاء" (السَّاعة الأولى الكبرى).
"الذي يرعى شعبه إسرائيل الجديد" (القطع المستقلَّة النَّغم).
"إذا خلعنا الإنسان العتيق نلبسُ الجديد" (السَّاعة التَّاسعة).
عيد الميلاد: (25 كانون الأوَّل)
"لأنَّه من أجلنا وُلِدَ طفلٌ جديد. وهو الإله الذي قبل الدُّهور" (القنداق).
"فإنَّ الكلمة خرج من جبل البتول طفلاً جديدًا. لإعادة تكوين الأمم" (التَّسبحة الرَّابعة).
"وباتِّحادِكَ واشتراكِكَ في الطَّبيعة التُّرابيَّة. صيَّرتها متألِّهة" (التَّسبحة الخامسة).
"وُلِدَ من طبيعة آدم صبيٌّ جديد" (التَّسبحة السَّادسة).
"أين الصَّبيُّ الملك المولودُ جديدًا" (التَّسبحة التَّاسعة).
"إذ إنَّ مملكتكَ الأبديَّة تجدَّدت أزليَّتُها" (ذوكصا الباكريَّة).
تقدمة عيد الغطاس: (5 كانون الثَّاني)
إعادة الجبلة (تتردَّد دائمًا...) وتعني التَّجديد، وتنقية الصُّورة.
"أَنظُمُ لكَ نشيدًا سنيًّا لتقدمة عيد ظهورك الإلهي. الذي به جدَّدت ميلادي سرِّيًّا. وأعدتني إلى الاستنارة الإلهيَّة" (التَّسبحة الأولى).
"مانحًا ميلادًا جديدًا للبشر" (التَّسبحة الثَّالثة).
"أيُّها الخالق. لمَّا صرتَ آدمًا جديدًا. جدَّدتَ جنس الأرضيِّين. متمِّمًا لهم ميلادًا ثانيًا مُستغرَبًا بالماء والرُّوح والنار. ومُعيدًا جَبلتَهم بنوعٍ عجيب. بغير تهشُّمٍ واستحالة. مُجدِّدًا إيَّاهم بالمعموديَّة الإلهيَّة" (التَّسبحة الخامسة).
"إنَّك بالرُّوح تُجدِّد النُّفوس. وبالماء تُجدِّد الجسد. مُعيدًا إبداعَ الإنسان المركَّب من نفسٍ وجسد. فأنتَ بعنايتك الحكيمة، تُقدِّمُ لكِلا الجوهرَين ما يُناسبه من الأدوية المُفيدة. بما أنَّكَ طبيبُ النٌُّفوس والأجساد" (التَّسبحة الخامسة).
أيضًا عبارة: "إستعادة الكرامة الأولى" القداسة هي استعادة كرامة الإنسان، وصورته المخلوقة على صورة الله.
يسوع يُخاطب يوحنَّا: "دَعِ الآنَ الأمور القديمة، واَفقَهِ الحاضرة" (في الباكريَّة).
عيد الغطاس _ الظُّهور الإلهي: (6 كانون الثَّاني)
"تصنعُ لنا طريق إعادة الولادة بالماء والرُّوح. وتُعيدُنا إلى الحرِّيَّة الأولى" (رتبة تقديس الماء).
"فإنَّك أنت يا إلهنا. الذي بالماء والرُّوح جدَّد طبيعتنا التي عَتُقَتْ بالخطيئة" (رتبة تقديس الماء).
"أيُّها الكلمة الأزليّ. إنَّ آدم الذي فسُدَ بالضَّلالة. جدَّدته بدفنه معك في مجاري الأردنّ" (التَّسبحة الأولى).
"إنَّنا نحن معشر الذين اغتسلوا بالرُّوح... شرَعنا نسيرُ في طريقٍ جديدةٍ غيرِ مُضلَّة، تؤدِّي إلى سرورٍ خالد، لا يناله إلاَّ الذين صالحهم الله" (التَّسبحة الخامسة. آخر).
"إنَّ المسيح... بنعمته يُجدِّدُ بالماء والرُّوح. المُعترفين بلاهوته" (التَّسبحة السَّادسة).
"وجدَّده لسقوطِهِ في الفساد" (التَّسبحة التَّاسعة).
"مُجدِّدًا المُبادرين إليه بإيمان" (التَّسبحة التَّاسعة).
وسنورد آياتٍ أخرى في ملحق هذه الرِّسالة.
خواطر حول "الخليقة الجديدة"
"أنتم في المسيح خليقةٌ جديدة". هذا ما يقوله لنا بولس الرَّسول في رسالته الثانية إلى أهل كورنثُس (17:5).
عندما أقرأ هذه العبارة الرَّائعة، تتزاحم في قلبي وتغزو مشاعري خواطر أسوقها تأمُّلاً روحيًّا في هذه الرِّسالة.
وأبدأ بكلمةٍ من شفيعي القدِّيس غريغوريوس النزينزي في عظة الفصح: "لقد حدثتْ ولادةٌ جديدةٌ أخرى! إنَّها طريقةٌ جديدةٌ للحياة! إنَّه تحوُّلُ الطبيعة! إنَّها بدايةُ خليقةٍ جديدة. في هذا النَّهار (يوم القيامة) خلق الله سماءً جديدةً، وأرضًا جديدة، كما يقول الأنبياء".
السَّيِّد المسيح هو الخليقة الجديدة كما نُنشد: وُلِدَ لنا طفلٌ جديدٌ، وهو الإله الذي قبل الدُّهور. فيسوع هو خليقةٌ جديدة، لأنَّه تأنَّس ولكنَّه إله! وهذا هو الجديد: أن يتَّحد الله بالإنسان من خلال الخليقة الجديدة، السَّيِّد المسيح، ويكون هو نموذج الخليقة الجديدة، حيث الإنسان لا يكون وحده في هذا الكون، بل الله عمانوئيل هو معه، وهو مدعو ليكون كما خلقه الله "على صورة الله ومثاله". يعني أن يصبح الإنسان إلهًا، لأنَّ الإله أصبح إنسانًا وبقيَ إلهًا، ليضُمَّ إليه الإنسان، ويجمع في ذاته كلَّ شيىء في السَّماء وعلى الأرض... وتتوحَّد السَّماء والأرض والخليقة بأسرها، والبشر يتوحَّدون بشخص المسيح.
هذه هي الخليقة الجديدة! ولذلك نرى في مطلع سفر التكوين العبارة: "في البَدء خلق الله السَّماوات والأرض" (تكوين1:1). وفي مطلع الإنجيل المقدَّس حسب يوحنَّا: "في البدء كان الكلمة، وصار جسدًا، وسكن فينا" (يوحنَّا 1: 1 و14).
وهكذا يربط يوحنَّا الرَّسول بين الخليقتَين الأولى والثانية في مطلع البشريَّة، وفي مطلع المسيحيَّة. فالمسيح هو الخليقة الجديدة، والمسيحيَّة هي دعوة الإنسان ليكون خليقةً جديدة. المسيحيَّة كما أُحبُّ أن أُحدِّدها بالنِّسبة لباقي الأديان، بدون استعمال عبارة: "أفضل وأحسن وأجمل! فأقول: المسيحيَّة خليقةٌ جديدة! إنَّها شيىءٌ آخر something else . كما أوردتُها في كثيرٍ من محاضراتي ومواعظي ورسائلي. والمسيح خليقةٌ جديدة، وهو إنسانٌ آخر غير النَّاس، هو somebody else . والمسيحيَّة هي العهد الجديد بدم المسيح: "إشربوا من هذا كلُّكم! هذه هي الكأس العهد الجديد بدمي! أو هذا هو دمي للعهد الجديد".
اسم المسيحيَّة الحقيقي: "العهد الجديد"! عهدُ الله مع الإنسان! وعهدُ الإنسان مع الله! وعهدُ الإنسان مع أخيه الإنسان، ومع الطبيعة، ومع الكون! ولا جديد بدون قديم! والجديد غايته إعادة تأهيل القديم. ومن هنا تَلازُمُ العهدَين القديم والجديد في عهدٍ واحد! ومن هنا تَلازُمُ معتقدات البشر المختلفة: إنَّها متفاعلة متلازمة...
الإنجيل المقدَّس ليس كتابًا يمكن أن يَعتُق! إنَّه كتابُ أخبارٍ سارّة! وآخِرُ الأنباء! وأكثرها حداثةً وجِدَّة! إنَّها أخبارٌ دائمًا جديدة وسارَّة، لأنَّها تخاطب الإنسان بواسطة الرُّوح القدس، الذي كما يقول السَّيِّد المسيح: "يُخبرُكُم بكلِّ شيىء... وهو معكم" (يوحنَّا 14: 16-17 و24).
المسيحيَّة خليقةٌ جديدة! طريقةٌ جديدة، كما نقرأ عنها عند بولس، وفي أعمال الرُّسل، Le Chemin neuf أو الطريق الجديد! أو الطريقة الجديدة! والرُّؤية الجديدة! New shape! New look .
يسوع يطلب من نيقوديموس أن يولد ثانيةً من جديد، من فوق، من الماء والرُّوح... ويقول له: "لا تتعجَّب من قولي لك إنَّه ينبغي لكم أن تولدوا ثانيةً! وإن لم يولد أحدٌ ثانيةً، فلا يقدر أن يدخل ملكوت الله" (يوحنَّا 3: 3 – 9).
المسيح خليقةٌ جديدة! المعتمِد خليقةٌ جديدة! المؤمن خليقةٌ جديدة! والكنيسة، جماعة المؤمنين، خليقةٌ جديدة! ولذا فالكنيسة عبرَ التاريخ لم تأنف، ولم تجدْ شيئًا مُهينًا، أن تكون كنيسةً دائمًا متجدِّدة، وتطلب التَّجدُّد وتسعى إلى الإصلاح بكلِّ مظاهره، ولا تخاف أن تعترف بخطأ أبنائها، عندما يبتعدون عن تعليم معلِّمهم السَّيِّد المسيح، ولا يسيرون بإلهامِ ووحي وإرشادِ الرُّوح القدس.
ولهذا أطلق البابا يوحنَّا الثالث والعشرون، المجمع الفاتيكاني الثاني (62 – 65) تحت شعار: التَّجدُّد! والتَّحديث Aggiornamento وأطلق يوحنَّا بولس الثاني فكرة حمل البشارة الجديدة! وفي 28 حزيران 2010 أسَّس قداسة البابا بندكتوس السَّادس عشر، المجلس الحبري للبشارة الجديدة Conseil pontifical pour la nouvelle évangélisation . وفي اللِّيترجيَّا والطُّقوس ونصوص الصَّلوات والأناشيد الطَّقسيَّة، دعوةٌ دائمةٌ إلى التَّجدُّد. ناهيك عن أعياد التَّجدُّد! وهذا ما شرحناه في "مشوارنا" في رِياض الصَّلوات الطَّقسيَّة. هذه الدَّعوة إلى التَّجدُّد، هي دعوةٌ دائمةٌ إلى الإنسان، في علاقته مع الله، الذي يدعوه إلى الكمال، وهو فوق طاقته وطاقة طبيعته المخلوقة الضعيفة المحدودة. وهذا ما قاله السَّيِّد المسيح لتلاميذه، واضعًا أمامهم هدفًا عاليًا جدًّا، وشبه مستحيل، ومختتِمًا وصاياه وتعاليمه الرَّائعة الفريدة السَّامية الإنسانيَّة والإلهيَّة في آنٍ واحد: "كونوا كاملين، كما أنَّ أباكم السَّماوي هو كامل" (متى 5: 48).
إنَّ طلبَ يسوع من تلاميذه الرُّسل، وأتباعه البشر، ومن المعتمدين باِسمه، يعني من جميع المسيحيِّين، مرتكزٌ على عقيدةٍ لاهوتيَّة، قلَّما نهتمُّ بإبرازها وكأنَّها مقولةٌ بديهيَّة. ولكنَّها في الواقع، في صُلب معنى الحياة، وعلاقة الله بالإنسان، وعلاقة الإنسان بالله، وتُختصَر هذه العلاقة (واليوم ينكر الإنسان هذه العلاقة وهذه الحقيقة) وهي: الله هو الخالق! هو خالقي وأصلي وغاية حياتي! وهو فوق كلِّ تصوُّرٍ وكلِّ منطقٍ وفكرٍ وفهمٍ وإدراك! كما نقول في صلواتنا في ليترجيَّا القدَّاس الإلهي: "الإله الذي لا يَحُدُّهُ عقلٌ و لا يُرى ولا يُدرَك. الدَّائمُ الوجود. والكائِنُ هوَ هوَ! أنتَ وآبنُكَ الوحيد وروحك القدُّوس" (ليترجيَّا قدَّاس القدِّيس يوحنَّا فمِ الذَّهب – الأنافور).
وهذا ما يقوله الكتاب: "إنَّك لإلهٌ مستترٌ يا إله إسرائيل أو يعقوب" (أشعيا 15:45).
وهذا ما قاله بولس الرَّسول في أثينا عند رؤيته كثرةَ الآلهة عند اليونان في محفل آريوس باغوس: "إنِّي في مروري ومعاينتي، صادفتُ مذبحًا مكتوبًا عليه: للإله المجهول. فهذا الذي تَعبدونه وأنتم تجهلونه، به أُبشِّرُكُم! إنَّه غير بعيدٍ من كلِّ واحدٍ منَّا. فإنَّا به نحيا ونتحرَّك ونوجد، كما قال بعض شعرائكم... وأيضًا: إنَّا نحن ذرِّيَّته" (أعمال الرُّسل 17: 23 و27).
الإله المجهول يبقى دائمًا مجهولاً... لأنَّنا نبقى نجهله... ولهذا نصبو إليه لا بل ننكره! فنكران الله، برهانٌ على وجوده وسموِّه وعدم إدراكه... ونريد أن نرتقي إليه، وإلى المزيد من معرفته ومن كماله... إنَّك لإلهٌ مستترٌ يا إله إسرائيل...
فالله الخالق يبقى فوق فهمنا. والتَّواصل به يبقى دائمًا جديدًا، وممتنعُ الإدراك. وإذا ما أصبح الله في متناول يدنا وفكرنا وفهمنا، أصبح صنمًا كأحد أصنام اليونانيِّين في آثينا! يصبح صنمًا عندما لا نكتشف فيه أمرًا جديدًا، أمرًا يفوق عقلنا... يصبح صنمًا حينما لا نتعرَّف عليه أنَّه طفلٌ جديدٌ قريبٌ إلينا، ولكنَّه الإله الذي قبل الدُّهور، يرفعنا إليه، يؤلِّهنا ويكمِّلنا ويجعلنا خليقةً جديدةً، ودائمًا متجدِّدة.
هذا ما حدث للرُّسل الثلاثة على جبل ثابور، جبل التَّجلِّي. كان الرُّسل يعيشون مع يسوع ويعرفونه بشرًا. وعلى جبل التَّجلِّي أظهر لهم مجده بنوعٍ فاق كلَّ إدراكهم، ولم يفهموا معنى هذه الرُّؤية ووجود موسى وإيليَّا على الجبل حول يسوع ومع المسيح وقبل صعوده عنهم إلى السَّماوات، بقوا لا يفهمون عمق رسالة يسوع. وكأنَّهم بعدُ لا يزالون في العهد القديم، قائلين بعقليَّةٍ قديمةٍ أرضيَّة: "متى تردُّ المُلكَ لإسرائيل؟" (أعمال الرُّسل 6:1).
بولس الرَّسول يتكلَّم عن هذا الموضوع إلى أهل أفسس مصلِّيًّا لأجلهم: "لكي تستطيعوا أن تُدركوا مع جميع القدِّيسين، ما العرضُ والطولُ والعلوُّ والعُمق. وأن تعرفوا محبَّة المسيح التي تفوق المعرفة، لكي تمتلئوا إلى كلِّ ملءِ الله" (أفسس 3: 18 – 19).
ويدعو المؤمنين قائلاً: "تجدَّدوا في ذهنكم..." (رومانيُّون 2:12)، ويقول بولس أيضًا: "أمَّا نحن فعندنا فكرُ المسيح" (1كور 16:2). فإذا فكرُنا المسيحي ليس فكر أرسطو ولا فكر كانط! هو فكرٌ آخر! فكرٌ دائمًا جديد! هو فكر المسيح.
تحليل معاني التَّجدُّد في نصوص الكتاب المقدَّس
ماذا تقول لنا النُّصوص الكتابيَّة وصلواتنا التي استعرضناها؟
إنَّ فكرة التَّجدُّد ومفهوم الجديد والتعبير عن الجديد، كلُّ هذا مرتبط بمفاهيم إنجيليَّة كتابيَّة طقسيَّة، تتردَّد في الكتب المقدَّسة وفي الصَّلوات. منها العودة إلى الصُّورة الأولى، إلى الحالة الأولى، استعادة الصُّورة، التَّوبة، إعادة الجبلة، العودة إلى الله، والجمال القديم، العودة إلى الفردوس. وأهمُّ هذه العبارات، هي التَّوبة، أو تغيير الفكر (Metanoia ) والرُّؤيةِ والنَّظرِ والتَّوجُّه.
التَّجدُّد يتحقَّق من خلال حياة الإيمان والرَّجاء والمحبَّة؛ وممارسة الأعمال الصَّالحة، وقبولِ الأسرار المقدَّسة، وقراءةِ الكتب المقدَّسة، واتباعِ تعليم يسوع وعظة الجبل، وقِيَمِ الإنجيل وعيشِها.
وبالتَّجدُّد يصبح الإنسان خليقةً جديدة، وكأنَّه تألَّه! والتَّجدُّد هو الخلاص والتألُّه والتجلِّي الرُّوحي... وكأنَّ الله يخلق الإنسان من جديد، على مثاله وصورته، ويصوغه من جديد، ويجبله من جديد، يصهرُه، ويكتب صورته من جديد.
ونحن كمسيحيِّين مؤمنين، مدعوُّون إلى هذا التَّجدُّد والتألُّه. مدعوُّون لأن نصبح كلَّ يومٍ خليقةً جديدة. هذه هي قوَّة الإيمان المسيحي. لأجل تحقيق هذا التَّجدُّد، تساعدنا ممارسة الأسرار المقدَّسة، والإفخارستيَّة، وبنوعٍ خاصّ التَّوبة... إلى هذا كلِّه يصبو الكمال المسيحي، والقداسة المسيحيَّة.
التَّجدُّد ينطلق من سياسة روحيَّة جديدة. لقد تعلَّمنا من المسيح سياسةً جديدة وحديثة، كما نُصلِّي في عيد نصف الخمسين.
وهذا يعني طريقةً جديدةً لمعالجة الأمور والمشاكل والصُّعوبات والمصائب والأمراض والتجارب والتحديَّات والظروف الطَّارئة... وهذه هي زبدة تعاليم يسوع، وإنجيله المقدَّس.
لا بل هناك مشاهدة جديدة (كما ورد في صلوات خدمة أحد الأعمى) تختلف عن رؤية الجسد والعين المادِّيَّة الطبيعيَّة. وتقول الصَّلوات: أصبح الضَّرير مصباحًا يُشعُّ نورًا جديدًا. العيون جديدة! الآذان جديدة! الأعضاء تتجدَّد!
ويطالُ التَّجديد لغةَ الإنسان، تعابيرَه، مفرداتِ خطابه الإنساني والمهني والرُّوحي والاجتماعي (خدمة عيد العنصرة تُشير إلى تجدُّد الألسنة والنَّغمة واللُّغة والرُّؤية والألفاظ...).
من خلال التَّجديد الرُّوحي، تتجدَّد فينا معرفة الأسرار والعقائد والتَّعاليم... وتنجلي أمام أعيننا غوامض الكتاب المقدَّس ورموزه، ونستنير بنورِ معرفةٍ جديدة...
ويدخل التَّجديد، ويطال التَّجديد مختلف مرافق حياتنا. ويُعبِّر المزمور عن ذلك مع النَّبي حزقيال بعبارة: "الرُّوح المستقيم المتجدِّد في الأحشاء". وهنا يعني أنَّ التَّجديد الآتي من الرُّوح القدس، يطال أعمقَ أعماقِ الإنسان ومشاعرِهِ وجوارحِهِ وأشواقِهِ وآمالِه: "ليتجدّدْ في أحشائنا مؤبَّدًا الرُّوح القدس الذي نهواه" (أحد العنصرة – التَّسبحة السَّادسة).
وتعبِّر صلوات عيد العنصرة، عن مفاعيل التَّجدُّد بالرُّوح القدس بهذه الكلمات: يتكلَّم الرُّسل، وكلُّ رسول، وكلُّ مؤمن، بألفاظٍ غريبة، واعتقاداتٍ غريبة، وسمعةٍ غريبة، ورؤيةٍ غريبة! لا بل هو يتغيّر تغيُّرًا فائق البهاء، وكأنَّه يصبح في غربةٍ عن العالم، وطريقة تفكير العالم، وعقليَّة العالم...
ولهذا السبب يشعر المؤمن الحقيقي، والذي يريد أن يعيش إيمانه في مجتمعه، يشعر بأنَّه في غربة، أنَّه غريب، والباقون يعتبرونه غريبًا عنهم، عن منطقهم. لا بل تصبح كلماتُ ومفرداتُ وجملُ وآياتُ الصَّلوات في القدَّاس الإلهي، أو في الصَّلوات الأخرى، تصبح غريبة على الكثيرين، ولا يفهمون معناها...
وهذا يشكِِّل تحدِّيًا كبيرًا للمؤمن من جهة، ولباقي أترابه غير المؤمنين أو البعيدين عن الإيمان أو عن الدِّين أو عن الكنيسة من جهةٍ أخرى... والتحدِّي الكبير اليوم أمام الكنيسة وأمام الكاهن المعلِّمِ والمرشدِ والموزِّعِ الأسرار المقدَّسة والواعظِ والمرشد... التَّحدِّي الكبير هو: كيف يمكن إزالة هذه الغربة، وهذا التغرُّب، مع المحافظة على تعليم الإنجيل والكنيسة؟... التَّحدِّي هو: كيف تخاطب الكنيسة المؤمنين، وغير المسيحيِّين والمجتمع، بكلمات الحياة تحت ضوء الإنجيل. ولكن بلغة الإنسان المعاصر والمتطوِّر والمتغيِّر بسرعةٍ هائلة... كيف نحمل للناس البشرى جديدة، جذّابة، مشوّقة، حيّة، منعشة، محبَّبة... هذا هو الهدف كما قلنا أعلاه، من إعلان البابا بندكتوس السَّادس عشر في حزيران 2010، تأسيس مجلس حبري للبشرى الجديدة، أو بالحريِّ لتجديد طرق حمل البشرى الإنجيليَّة. إنَّها بذاتها دائمًا جديدة، ويقع على كاهلنا مسؤوليَّةُ إبرازها بحلَّةٍ جديدة، وجذبُ الناس إلى قبولها، والعيشُ بوحيِها وبنورها الإلهي الوضَّاء، فتصبح لهم كلمة حياة، كما قال بطرس الرَّسول ليسوع بآسم التلاميذ كلِّهم: "إلى أين نذهب يا رب؟ فإنَّ كلماتِ الحياة الأبديَّة هي عندك" (يوحنَّا 6: 68).
ومع ذلك فإنَّنا واثقون أنَّ العالم يتجدَّد بتجدُّد أبناء الإيمان. وكما قال البابا بندكتوس السَّادس عشر: "المؤمن ليس أبدًا وحده". الإنسان المتجدِّد حقًّا يُجدِّد العالم. وقال الكاتب الفرنسي لاكوردير (1802-1861) كما كنَّا نتعلَّم ذلك ونحن على مقاعد الدراسة في إكليريكيَّة دير المخلِّص الصُّغرى: "إنَّ نفسًا ترتفع، ترفعُ العالم كلَّه معها".
والجميل أنَّ عيد التَّجديد في كنيستنا، مرتبط بذكرى قيامة السَّيِّد المسيح، وبعاصمة وأمِّ كنائس الدُّنيا والمسيحيَّة قاطبة، كنيسة القيامة (13 أيلول).
لا بل التَّجدُّد مرتبط بالتألُّه Theosis .هذه الكلمة هي المفتاح في اللاهوت المسيحي بخاصّة الشَّرقي. بمعنى أنَّ التَّجدُّد مرتبط بالاتحاد بالله، لا بل هو نتيجة هذا الاتحاد. والإنسان المتَّحد بالله، يجد ويكتشف دائمًا الجديد في حياته، لأجل تمجيد الله وعبادته، وخدمة الأخ والمجتمع. المؤمن بالله خلاَّق، مبتكر، مبدع، مخترع، مبادر، مقدام، شجاع، واثق، متفائل... يجد دائمًا مخرجًا في حياته. وهي نعمة الله والرُّوح القدس التي تسند ضعفنا...
والتَّجدُّد الدَّائم الذي توحي به وتشير إليه نصوص الكتاب المقدَّس والصَّلوات الطَّقسيَّة، يتناسب مع دعوة الإنسان السَّامية وكرامته الكبيرة، كما يقول القدِّيس إيريناوس: "إنَّ مجدَ الله، هو الإنسان الحي". الإنسان يسعى في الواقع دائمًا إلى الأعالي، إلى تحقيق ذاته، إلى الجديد والأكمل. والكرامة الحقيقيَّة هو أن يبقى الإنسان محافظًا على أساس ولبّ هذه الكرامة، أي المحافظة على صورة الله فيه، وجمالها وتألُّقها: "فيكَ أيُّها القدِّيس (فلان) حُفِظَتْ صورةُ اللهِ بتدقيقٍ" (من أناشيد القدِّيسين).
والتَّجدُّد الدَّائم هو هدفٌ سامٍ، ويعني تجديد الخليقة التي رأسها الإنسان... تجدُّد المجتمع. التَّجدُّد هو في المعموديَّة الميلادُ الثاني، ميلادُ الإنسانِ المعتمد، وميلادٌ متجدِّدٌ لمجتمعه وعالمه والخليقة كلِّها.
والتَّجدُّد مصدرُ فرحٍ عظيم. التَّجدُّد اِرتقاءٌ دائم. وهو أمرٌ صعبٌ ويتطلَّب سهرًا كبيرًا، وجهدًا دائمًا. لأنَّه وَضعُ لجامٍ لكلِّ ما يُنشىء الموت في الإنسان: القلب والنَّفس والرُّوح والجسد. ويقتضي تهذيبَ الأعضاء وتنقيةَ الفكر والذاكرة من الأمور القديمة البالية، ونسيانَ القديم والخطيئة المسيطرة على الإنسان، تستعبده، تُذلُّه، تحطُّ من كرامته، تُقزِّمه، تُدنِّسه...
كلُّ هذا يعني تجديدًا جذريًّا . إنَّه تأهيل، إعادة كاملة لكلِّ شيىء. كما ورد في إحدى الصَّلوات: "أيُّها الرُّسل! إنَّ الرُّوح القدس بحلوله الرَّهيب عليكم، سبكَ بألسنتكم النَّاس المسحوقين بالخطيئة كما في بودقة. وصاغهم صياغةً جديدةً للحياة" (اللَّحن السَّادس من المعزِّي، سحر الخميس، الأودية الثالثة، القطعة الثانية من القانون).
هذا يعني تجديد الوصيَّة نفسها المعرَّضة لأن تصبح عتيقة بالية. ولذا يسوع يعطينا "وصيَّةً جديدة" ولو أنَّها موجودة بطريقةٍ أخرى في العهد القديم. والقدِّيس يوحنَّا الحبيب الرَّسول، يتكلَّم عن الوصيَّة الجديدة والتي كانت منذ البَدء!...
إذًا، حتَّى الوصيَّة يجب أن تتجدَّد. النِّظام يجب أن يتجدَّد! ويسوع هو رئيس العهدَين، بحيث يجمع بينهما في ذاته، ويعطي دومًا التَّجدُّد لِمَا يمكن أن يتعرَّض ليصبح عتيقًا باليًا. ونحن دائمًا في خطرٍ كبيرٍ ودائمٍ وحاضرٍ وحقيقيّ: وهو أن نعود إلى الأركان القديمة، إلى العهد القديم، إلى الرُّؤية القديمة، إلى العقليَّة القديمة...
ينتظر الناس الأعاجيب تمامًا كما على وقت السَّيِّد المسيح. وينتظرونها في الخارج، في المكان البعيد، في المظاهر الخارجيَّة، وفي الظُّهورات... وننسى كلُّنا أنَّ جمال آبنة الملك كلُّه في الدَّاخل. وأنَّ الأعجوبة الكبرى هي في داخل الإنسان، في أعماق نفسه، هو فاعل الأعجوبة. والله في عون الإنسان، ويصنع به عجائب التَّجديد والتغيِّير والتحوير. كما قالت مريم "لأنَّ القدير صنع بي عظائم" (لوقا 49:1). الأعجوبة هي تجديد الطبيعة وإعادة تأهيلها، كما جرى مع العُمي والصُّمّ والبُكْم والعُرج...
ويبقى التَّجديد نتيجة الاتحاد بالله الذي منه كلَّ عطيةٍ صالحة (يعقوب الرَّسول 17:1).
غاية الأعياد التي نحتفل بها على مدار السَّنة، أعياد السَّيِّد والسَّيِّدة والقدِّيسين، هي تجديد الإنسان ودعوة للاتحاد بالله. الأعياد هي مراحل التَّدبير الخلاصي، وهي مراحلُ تجديدٍ ودعواتٌ متكرِّرة إلى التَّجديد والكمال والقداسة.
ويرتبط الجديد والتَّجدُّد بمسيرة الملكوت. كما قال يسوع لتلاميذه: "أنَّه سيشرب من عصير الكرمة الجديد في ملكوت أبيه" (متَّى 29:26). إنَّنا في مسيرة تجدُّدٍ دائم. "ويتجدَّدُ مثل النَّسر شبابكِ" (المزمور 5:102).
بدون الله وبدون الارتباط بالحياة الأبديَّة وبالملكوت يعتق الإنسان، تبلى قواه. لا بل حياة الإنسان تصبح بلا معنى: الحياة الزَّوجيَّة، الحياة المهنيَّة، الدَّعوة الكهنوتيَّة والرَّهبانيَّة والتكرُّس، كلُّ هذه تعتق! عندما لا نعرف أن نكتشف الجديد في نفوسنا وحولنا، في الطَّبيعة، في العلاقات مع الكون ومع الآخر، نَعتُق، نَبرُد... نُصبحُ تافهين... تبرد المحبَّة... يضعف الإيمان... يخفُت ضوء الرَّجاء... ويقع الإنسان في خطر الانقسام وانفصام الشخصيَّة والازدواجيَّة... والرِّئاءِ والكذبِ والمكاذبةِ والمراءات. وربَّما وصل إلى فقدان كلّ معنى للحياة وإلى الانتحار...
ولهذا فالله المحبّ البشر والعارف طبيعة الإنسان وضعفه وقوَّته وطاقاته، الله نفسه يدعو الإنسان إلى الكمال: "كونوا كاملين كما أنَّ أباكم السَّماوي كامل" (متَّى 48:5). والدَّعوة إلى الكمال والقداسة دعوة إلى التَّجدُّد. وهو الله الذي يجدِّدنا.
المسيحي المؤمن يبدأ مسيرة التَّجدُّد بالمعموديَّة المقدَّسة. إذ ينشد المنشدون بعد تغطيس الطِّفل في الماء ثلاثًا: "أنتم الذين بالمسيح اعتمدتم، المسيح قد لبِستُم". إنَّه يلبس ثيابًا بيضاء، علامة الطَّهارة والقيامة والخليقة الجديدة. إنَّه خليقة جديدة في المسيح.
المعموديَّة هي المدخل إلى الحياة في المسيح، إلى الحياة الجديدة. وهي بدء السَّير في الطريق الجديدة، وإشراقة الرُّؤية الجديدة، وملامح العقليَّة الجديدة، والسُّلوك الجديد! إنَّه طريق دمشق، طريق بولس الجديد.
المسيحي المعتمد هو إذًا، إنسان مدعو إلى التَّجدُّد الدَّائم. إنَّه إنسانٌ دائمًا جديد، وتوكل إليه رسالة جديدة: أن يجدِّد المجتمع والجماعة والأسرة والعمل... وهكذا، فالمعموديَّة أساس المسؤوليَّة في المجتمع. ولهذا السَّبب فلا يمكن أن تكون مسيحيًّا حقيقيًّا وتتنصَّل من مسؤوليَّتك تجاه مجتمعك ووطنك وقومك وأهلك...
وكما بدأ يسوع رسالته بعد العماد من يد يوحنَّا المعمدان، هكذا تبدأ رسالة المسيحي المؤمن بالمعموديَّة. وهكذا يُدعى المعتمد المؤمن بالمسيح، إلى أن يعمل أعمال معلِّمه السَّيِّد المسيح، ويُحقِّق في ذاته ما قاله يسوع: "إنَّما أتيتُ لكي تكون للنَّاس الحياة، وتكون لهم أفضل" (يوحنَّا 10:10).
لأجل تحقيق هذا الهدف، أسَّس كما قلنا سابقًا البابا بندكتوس السَّادس عشر "المجلس الحبري لتجديد حمل البشرى". ولقد سُعِدتُ إذ تحقَّقتُ أنَّني في خطِّ قداسة البابا. فقد بدأتُ تهيئة رسالة الميلاد كالعادة قبل أشهر منذ آذار 2010! وكم فرحتُ عندما قرأتُ خبر تأسيس هذا المجلس. وقد جاء في خطاب قداسته في إعلان تأسيس هذا المجلس ما يلي: "إنَّ نعمة الرُّوح القدس، تمثِّل قوةَ شريعةِ الإنجيل الجديدة وتجدِّد الكنيسة. إنَّها جديدةٌ لأنَّها تسعى إلى إيجاد السُّبل، لكي تبقى أمينةً للرُّوح القدس، ولكنَّها مطابقة للعصر والظروف "الجديدة". إنَّها جديدة لأنَّها ضروريَّة سواء بسواء، أيضًا في البلدان التي سبق أن وصلتها بشرى الإنجيل".
ويتابع لاحقًا: "من هذا المنطلق، قرّرتُ أن أُنشىء كيانًا جديدًا هو "مجلس حبري" مهمَّته الخاصَّة أن يعمل على نشر البشرى المتجدِّدة في البلدان التي وصلتها بشرى الإيمان الأولى، وحيث توجد كنائس مؤسَّسة قديمة، ولكنَّها تعيش في جوٍّ من العلمنة المتنامية، والتي تغزو المجتمع، وحيث ينكسف ويكاد يختفي "الشُّعور بالله". هذه الكنائس تشكِّل تحدِّياً لكي نجد الوسائل الملائمة، لأجل إعادة تقديم حقيقة إنجيل المسيح الخالدة".
توجُّهات عمليَّة
في الجزء الأخير من رسالتنا، نريد أن نلقي الضَّوء على أهميَّة رؤية الخليقة الجديدة، في حياة كنيستنا الرُّوميَّة الملكيَّة الكاثوليكيَّة.
إنَّ المجمع الفاتيكاني الثاني يمثِّل أكبر "ورشة" تجدُّد في تاريخ الكنيسة الكاثوليكيَّة شرقًا وغربًا. وقد دعا إليه الطُّوباوي البابا يوحنَّا الثالث والعشرون. وقد كنتُ حاضرًا شخصيًّا عند إعلان البابا عن عقده، بعد قدَّاس عيد هِداية القدِّيس بولس، الذي احتفل به قداسته في بازيليك القدِّيس بولس خارج الأسوار (في 25 كانون الثاني 1959). وبعد القدَّاس زار قداسته دير الآباء البندكتيِّين الذين يُشرفون على الخدمات اللِّيترجيَّة في البازيليك وملاحقها. ولم يُسمح لاستقبال البابا داخل حصن الدَّير، إلاّ للرُّهبان المقيمين في الدَّير. وكنت أنا مع ثمانية آخرين من رهبان دير المخلِّص مقيمين في الدَّير إبَّان دراستنا في روما. وقد كان المثلَّث الرَّحمة الكاردينال أكاكيوس كوسا قد دبّر أن يدرس في روما العدد الأكبر من رهبان الرَّهبانيَّات الشَّرقيَّة الرُّوم الكاثوليك والموارنة. وبصفتنا من سكان الدَّير، فقد سُمح لنا أن نستقبل البابا في قاعة الاستقبال داخل الدَّير. وأمامنا أعلن قداسته نيَّته عقد مجمع عام غايته العمل على وحدة المسيحيِّين وتجديد الكنيسة. وأطلق عبارته الشهيرة : تجديد Aggiornamento .
وفي الواقع فإنَّ وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني قد عالجت تجديد الفكر الكنسي والحياة الكنسيَّة ونظام الكنيسة في كلِّ أبعادها. ويكفي استعراض عناوين هذه الوثائق لكي نتحقَّق من آفاق المجمع الواسعة جدًّا. لا بل إنَّ المجمع الفاتيكاني هو برنامج تجدُّد الكنيسة وتفاعلها مع عالم اليوم إلى سنين طويلة. وسيبقى تأثيره فاعلاً إلى زمنٍ بعيد.
نريد أن نستعرض أهم وجوه التَّجدُّد في كنيستنا انطلاقًا من برنامج وثائق هذا المجمع. وقد تناولت وثائق المجمع حياة الكنيسة في كلِّ جوانبها: الحياة الطَّقسيَّة واللِّيترجيَّة والأسراريَّة – تهيئة خدَّام الكلمة من طلاب الكهنوت والمكرَّسين والمكرَّسات والرُّهبان والرَّاهبات والشمامسة والكهنة والأساقفة والبطاركة – السُّلطة الخدميَّة في الكنيسة جسد المسيح السِّرِّي، العقيدة المسيحيَّة والإيمان المسيحي في علاقته مع باقي الكنائس والجماعات المسيحيَّة والمعتقدات الدِّينيَّة المتشعِّبة في العالم، وعلاقة الكنيسة بالمجتمع السياسي والاقتصادي والعلمي ودور العلمانيِّين في الكنيسة وعمل الكنيسة الرِّسالي التَّبشيري.
وتختصر هذه الوثائق وموضوعاتها بمطلع الوثيقة "الكنيسة في عالم اليوم" Gaudium et Spes حيث نقرأ: "إنَّ كلَّ ما يهمّ العالم يهمُّ أبناء الله... أفراح وأحزان وتطلُّعات النَّاس وآمالهم وآلامهم ومشاكلهم...".
وهذا كلُّه يتطلَّب من الكنيسة قوَّةَ التَّجديد والتَّأقلُم والانثقاف والتَّفاعل والتَّضامن وقوَّة التأثير في المجتمع، والرَّغبة في تطويره وتقدُّمه... وهذا كلُّه إنَّما يصير بفعل الرُّوح القدس الذي يُجدِّد نظام الكنيسة كما ذكرنا في صلوات عيد العنصرة. ولا يصير تجدُّد حقيقي إلاَّ بفعل الرُّوح القدس وحلوله. وهذا ما يُدعى في اللاهوت المسيحي الشرقي "صلاة استدعاء الرُّوح القدس" .Epiclèse الكنيسة بحاجة لكي تتجدَّد إلى إبكليز يومي ودائم. ولهذ فإن الاحتفال باللِّيترجيَّة الإلهيَّة يوميًّا هو مهمٌّ جدًّا في حياة الكاهن خاصَّةً، لأنَّه يستدعي الرُّوح القدس يوميًّا على القرابين، على جسد المسيح السِّرِّي، على الكنيسة، على رعيَّته، على نشاطه وخدمته الرَّعويَّة.... وهكذا يمكنه أن يبقى في مسيرة تجدُّدٍ دائم ويقود الرَّعيَّة في "الطريق الجديد" Chemin neuf ، في الجيل الجديد الحقيقيLe New Age . وكما نُصلِّي: "روحُكَ الصَّالح يهديني في أرضٍ مستقيمة" (المزمور 142) وروحًا مستقيمًا جدِّد في أحشائي! (المزمور 50).
التَّجدُّد في الحياة الطَّقسيَّة اللِّيترجيَّة
لقد أراد المخلِّص الإلهي من خلال السِّينودس المقدَّس والمثلَّث الرَّحمة سَلَفي البطريرك مكسيموس الخامس أن أرأس اللَّجنة اللِّيترجيَّة السِّينودسيَّة والبطريركيَّة منذ العام 1986. وقد أعدْنا طباعة مجمل كتبنا الطَّقسيَّة بحُلَّةٍ قشيبةٍ جديدة وبطريقةٍ جديدةٍ فريدة. ووضعنا الأسس والقواعد للإنعاش اللِّيترجي، والتَّجدُّد الشامل في طقوسنا الكنسيَّة.
حصلنا على نتائج نسبيَّة في مسيرة التَّجدُّد والإنعاش. ولكنَّنا نصبو إلى المزيد. وإنَّنا لَنهيبُ بإخوتنا الأساقفة وأبنائنا الكهنة والرُّهبان والرَّاهبات، لكي نعي معًا وعيًا أعمق أهمِّيَّة هذا التَّجدُّد في الصَّلوات والأناشيد والأسرار وطريقة الاحتفال بها. إذ إنَّها الموقع العادي وشبه اليومي للتواصل مع رعيَّتنا لنحمل إليهم التَّقديس وبشرى الحياة الجديدة. لا بل إنَّ تجديد الصَّلاة والحياة اللِّيترجيَّة هو تجديد الإيمان، لأنَّ قانون الصَّلاة هو قانون الإيمان!
التَّجدُّد في العمل الرَّعوي
إلى جانب الحياة الطَّقسيَّة (الصَّلوات والأسرار) الأمر الأهمّ في حياة الكاهن هو العمل الرَّعوي. وهذا مجالٌ كبيرٌ للتَّجدُّد الدَّائم والإبداع والابتكار.
العمل الرَّعوي يتناول طريقة الاحتفال باللِّيترجيَّا الإلهيَّة، وبالأسرار المقدَّسة، وقد أشرنا إليها سابقًا. ويتناول الوعظ والإرشاد، والسَّهرات الإنجيليَّة، والزِّيارات الرَّعويَّة وزيارة المرضى والمحزونين، وإرشاد الأخويَّات والجمعيَّات، ومنظَّمات الشبيبة.
وهذه الأمور تتطلَّبُ مجهودًا كبيرًا، لكي تبقى حاملةَ خلاصٍ وفداءٍ وسعادةٍ وإيمانٍ ورجاءٍ ونشاطٍ روحيّ واجتماعيّ وتضامنٍ وتعاونٍ وأملٍ وقوَّةٍ وعطاء... كيلا تصبح صنمًا أو روتينًا أو آسمًا بلا مسمَّى، لا جاذبية لها ولا طعم ولا ولون.
وهذا يعني أن يصمِّمَ الكاهن لعمله الرَّعوي باهتمامٍ كبير، وعلمٍ متطوِّر، وثقافةٍ واسعة، وخبرةٍ روحيَّة ورعويَّةٍ كبيرة، وتواصلٍ مع الشعب، وبخاصَّة الشباب، والبعيدين عن الإيمان، وعن الكنيسة والمتشكِّكين...
إنَّ فنَّ العمل الرَّعوي هو أن يجمع الكاهن والراعي بين صفاء العقيدة ونقائها ووضوحها، مع التوجُّهات المختلفة في الرَّعيَّة، لكي يقودها إلى الإيمان المقدَّس.
وهذه هي عمليَّة التَّجدُّد التي تهدف أن تجعل من الرَّعيَّة خليقةً جديدة، خليَّةً دائمة التطوُّر في عالم دائم التطوُّر... علينا أن نقدِّم العقيدة ووديعة الإيمان بقالبٍ جذَّاب ومقنع وممتع وجميل... إنَّ التجاذبات في المجتمع كثيرةٌ جدًّا، فلا بدَّ من مواجهتها بكلمة الرَّبّ المخلِّص الحيَّة الجذَّابة التي يشعر بها من خلالها ابن رعيَّتنا، أنَّها كلمات الحياة هنا والحياة الأبديَّة هناك.
التَّجدُّد من خلال الحركات الرَّسوليَّة والشبابيَّة
إنَّ المجال الأوسع لهذا العمل الرَّعوي المتجدِّد، هو الحركات الرَّسوليَّة والشبابيَّة. ولا نُغالي إذا قلنا إنَّ العمل مع الشباب هو الحافز الأكبر لتجديد الرَّعيَّة. لأنَّ الشباب مُتطلِّبون كثيرًا، آفاقهم واسعة، وأفكارهم تجدُ مصدرًا لها بالأسف ليس فقط في الإنجيل المقدَّس وتعليم الكنيسة. ولذا وجب على الكاهن أن يواكب الشباب وأفكارهم. ويتعرَّف على مجتمعهم ومحيطهم الفكري والاجتماعي، والتأثيرات الكثيرة التي تغزو فكرهم وقلبهم وعقليَّتهم. ويقدِّمَ لهم الإنجيل وتعليم الكنيسة والخلُقيَّة المسيحيَّة والقِيَم الرُّوحيَّة والإيمانيَّة، بحيث تصبح جزءًا من حياتهم ومن خبرتهم الرُّوحيَّة الإيمانيَّة الشَّخصيَّة. فيمكنهم أن يعيشوها في مجتمهعم المتعدِّد النُّظم والمعتقدات والتَّيارات... بدون خوفٍ أو خجلٍ أو حياء... وبدون كبرياءٍ أو تعالٍ أو تكابر. وهنا نُردِّد مقولتنا التي يعرفها شبابنا في كلِّ مكان: "كنيسةٌ بلا شباب، كنيسةٌ بلا مستقبل. وشبابٌ بلا كنيسة، شبابٌ بلا مستقبل".
وعلى الكهنة والرُّعاة أن يُقنِعوا الشباب بدورهم ورسالتهم، وأنَّ لهم مستقبلاً وكنيسةً ووطنًا ومجتمعًا... لهم فيها مسؤوليَّة كبيرة يوميَّة هامَّة. وهذا الأمر هو من أهمِّ العوامل لأجل تخفيف وطأة هجرة الشباب، ولأجل إقناعهم بدورهم ورسالتهم الإيمانيَّة قي شرقنا العزيز، إلى جانب مواطنيهم من غير دينهم، يحملون إليهم بشرى الإيمان المقدَّس في هذه الأرض، حيث كلَّم الله البشر في شخص يسوع المسيح.
الحركات الرَّسوليَّة، والتَّعليم المسيحي، والنَّشاطات الرَّعويَّة على أنواعها، هي المكان الأكثر مناسبةً لتجديد إيمان الشباب، وتثبيت قناعاتهم، ولإيقاظ الدَّعوة للتكريس الكهنوتي أو الرَّهباني، ولأجل أن يجدوا مكانهم ودورهم في الرَّعيَّة والكنيسة والمجتمع والوطن.
التَّجدُّد في الأبرشيَّات والرَّهبانيَّات والجماعات المكرَّسة
المكان الآخر لأجل تجديد الكنيسة والمجتمع من خلال الكنيسة، هو الأبرشيَّة والرَّهبانيَّة، وبيوت تنشئة الكهنة والرُّهبان والرَّاهبات، والمكرَّسون والمكرَّسات. فندعو إخوتنا المطارنة والرُّؤساء العامِّين والرَّئيسات العامَّات، والمسؤولين والمسؤولات في بيوت التنشئة، ومراكز التَّعليم المسيحي، ومراكز تنشئة العلمانيِّين المتنوِّعة، أن تكون هذه البيوت وهذه المراكز، الخلايا الأساسيَّة لمستقبل متجدِّد للكنيسة، من خلال رعاة المستقبل، وبُناة الأوطان والمجتمعات المتطوِّرة.
كما أنَّه من الأهميَّة على جانبٍ كبير، تجديد نُظُم الحياة المكرَّسة في رهبانيَّاتنا، وجمعيَّاتنا الرَّهبانيَّة الرِّجاليَّة والنِّسائيَّة. وذلك داخل الأديار أو في المراكز التي يعمل فيها الرُّهبان. والتَّجديد يرتكز على القديم، على أصالة الحياة الرَّهبانيَّة حسب تعاليم الآباء القدِّيسين، وروح المؤسِّسين. ولا بُدَّ من إنعاش الحياة الطَّقسيَّة، والعيش في الجماعة، والتَّقيُّد بالنُّذور الرَّهبانيَّة. فلا يمكن أن يعيش الرُّهبان بدون التواصل فيما بينهم، أو في جماعاتٍ، أو مراكز رهبانيَّة توفِّر ظروف حياة رهبانيَّة. بحيث تصبح أديارنا ومراكزنا الرَّهبانيَّة مناراتٍ روحيَّة، تجذب إليها العائلات والشباب والشابَّات والأخويَّات والجمعيَّات، لكي يعيشوا حياةً كنسيَّةً روحيَّةً إيمانيَّةً وليترجيَّة، من خلال زياراتهم لهذه الأديار والمراكز والصَّلاة فيها، وإقامة الرِّياضات الرُّوحيَّة فيها.
وهكذا تصبح أديارنا ومراكز الرُّهبان والمكرَّسين والمكرَّسات، مصدرَ تجديدٍ روحيٍّ وكنسيٍّ وإيمانيٍّ في رعايانا. لا بُدَّ وأن تلعب الأديار هذا الدور التَّجديديّ، وتصبح ذات جاذبيَّة روحيَّة، يؤمُّها كلّ طالب تجدُّد روحي وإيماني.
ونأمل أن يسمع نداءَنا هذا، الرُّؤساء العامُّون، والرَّئيسات العامَّات، ورؤساء الأقاليم الرَّهبانيَّة، وجميع إخوتنا العاملين في نطاق أبرشيَّاتنا المباركة. شاكرين لهم بهذه المناسبة، ما يقومون به من خدمات شتَّى، في هذه الأبرشيَّات في بلادنا العربيَّة، وفي بلاد الانتشار.
التجدُّد الكنسي والحداثة والعولمة والتقنيَّة المتقدمة
الخليقةُ الجديدة هي خليقةٌ مدعوَّةٌ لتعيش في المجتمع الحديث المتطوِّر. المؤمن المسيحي المعتمِد هو الخليقةُ الجديدة. يعيش إيمانه والإنجيل وتعاليم الكنيسة والقِيَم الإيمانيَّة، في مجتمعٍ حديث، يتطوَّر بسرعةٍ مذهلة في جوٍّ من العولمة والحداثة، ومن خلال تقنيَّةٍ تفتح أمامه إمكانيَّاتٍ فائقة.
الكنيسة مدعوَّة أن تواكب الحداثة والعولمة، وتلجأ إلى التقنيَّة المتطوِّرة، بحيث تتطوَّر أنظمة الأبرشيَّات والرَّعايا وفق متطلِّبات العصر. وقد أصدر خادم الله قداسة البابا يوحنَّا بولس الثَّاني، توجيهاتٍ للمسؤولين عن وسائل الاتصالات الاجتماعيَّة، بعنوان: "التَّقدُّم السَّريع" (24 ك2 2005) جاء فيها: "ونظرًا لأهمِّيَّة وسائل الاتصال، وذلك منذ خمسة عشر سنة، أعتبرتُ أنَّه غير مناسب تركُ هذه الوسائل لمبادرة أفرادٍ أو جماعاتٍ صغيرة، ونصحتُ بوضعها صراحةً في برمجةٍ رعويَّة. والتكنولوجيَّات الحديثة بنوعٍ خاصّ، تخلق مناسباتٍ إضافيَّة للاتصال كخدمة للإدارة الرَّعويَّة، ولتنظيم عدَّة مهمَّات خاصَّة بالجماعة المسيحيَّة. لنفكِّر مثلاً بالطَّريقة التي يُعطي فيها الإنترنت، ليس فقط موارد لاستعلامات أوسع، بل أيضًا يُعوِّدُ النَّاس على تواصل تفاعلي. مسيحيُّون عديدون يستعملون اليوم بطريقةٍ خلاَّقة هذه الوسائل الجديدة باستخدام إمكاناته للتَّبشير والتَّربية والاتصالات الدَّاخليَّة والإدارة والحكم. لكن مع الإنترنت يجب استعمال وسائل اتصال أخرى جديدة، والتحقُّق من استعمالاتها الممكنة للوسائل التقليديَّة. فالصُّحف اليوميَّة والجرائد وسائر المنشورات والتلفزيون والرَّاديو الكاثوليكيَّة، تبقى شديدة الفائدة في بانوراما متكاملة لوسائل الاتصال الكنسيَّة". وجاء في ختام الرِّسالة: "ينقل الرَّسول بولس رسالة واضحة للعاملين في حقل الاتصالات الاجتماعيَّة _ سياسيِّين وخبراء اتصال ومشاهدين قائلاً: "ولذلك كفُّوا عن الكذب، وليَصْدُق كلٌّ منكم قريبه، فإنَّنا أعضاء بعضنا لبعض... لا تخرجنَّ من أفواهكم أيَّة كلمة سوء بل كلُّ كلمةٍ صالحة تُفيد البنيان عند الحاجة وتكون سبيل نعمة للسَّامعين" (أف 4/25-29).
"للعاملين في حقل الاتصالات، وبخاصَّةٍ للمؤمنين العاملين في هذا الحقل الاجتماعي الهامّ، أُردِّد بدوري الدَّعوة التي منذ بدء خدمتي كراعٍ للكنيسة الجامعة، أردتُ أن أُطلقها في العالم أجمع: "لا تخافوا!". لا تخافوا من التكنولوجيَّات الحديثة، فهي جزءٌ من العظائم التي وضعها الله في تصرُّفنا، لكي نكشف الحقيقة ونستعملها وننشرها، وبخاصَّة حقيقة كرامتنا ومصيرنا كأبناء لله وورثة ملكوته الأبدي. لا تخافوا من معارضة العالم لكم! فالمسيح قد طمأننا: "قد غلبتُ العالم!" (يو 31/16)". وأصدر خادم الله البابا يوحنَّا بولس الثاني (24 ك2 2002) بمناسبة اليوم السَّادس والثلاثين لليوم العالمي لوسائل الإعلام، وامتدح الأنترنت بصفتها "منبرًا جديدًا لحمل بشرى الإنجيل. ومؤخَّرًا وصف قداسة البابا بندكتوس السَّادس عشر الأنترنت: "أنَّها أداةٌ لإعلان المسيح". وهذا التَّطوُّر يشمل كلَّ قطاعات حياة الكنيسة: الصَّلوات الطَّقسيَّة، والاحتفال بليترجيَّا القدَّاس الإلهي، وإحياء ممارسة الأسرار، وتنظيم العمل الرَّعوي، وملفات الأبرشيَّة المركزيَّة، وطريقة إلقاء دروس التَّعليم المسيحي، والتنشئة المسيحيَّة لمختلف فئات الرَّعيَّة، والعمل مع الشباب، وحمل البشرى إلى فئاتٍ كثيرةٍ تتألَّفُ منها الرَّعيَّة، ولكنَّها مرارًا بعيدةٌ عن الكنيسة، ولا يطالها نشاط الكاهن لأسبابٍ كثيرة. لا بُدَّ من اكتشافها بحيث يطال عمل الكاهن كلَّ أبناء الرَّعيَّة... فتصبح الرَّعيَّة هي الخليقةُ الجديدة، هي الكنيسةُ الجديدة...
ويا حبَّذا لو يكون لكنيستنا البطريركيَّة، في جميع أبرشيَّاتنا في البلاد العربيَّة، وبلاد الانتشار، نظامٌ كنسيٌّ شامل، يُتيح المجال للتواصل وتبادل المعلومات، والدِّقة في التعامل معها، والإفادة منها، ومضاعفة فعاليَّة الكنيسة، وتواصلها مع المجتمع وحضورها وشهادتها. ولذا نُهيب بالمتخصِّصين في مجال المعلوماتيَّة أن يساعدونا في هذا التوجُّه. والدَّائرة البطريركيَّة مستعدَّة لتقبُّل الاقتراحات التي يمكن أن تحقِّق هذه الفكرة الرَّائدة والضروريَّة، لكي تواكب كنيستُنا الحداثةَ والعولمةَ والتقنيَّةَ المتقدِّمة.
التَّجدُّد في مجتمعنا الكنسي العربي
إنَّ التطوُّر المعاصر الذي نتوخَّاه كما شرحناه في المقطع السَّابق يُسهم كثيرًا، لا بل لا بُدَّ منه، لكي نتجدَّد ونكون عاملي تجدُّد في مجتمعنا الكنسيّ العربي. هذا المجتمع المتعدِّد المعتقدات والكنائس والطَّوائف يتأثَّر سلبًا وإيجابًا وفي كلِّ الاتجاهات بالواقع الوطني المحلِّي، وبالواقع الإقليمي وبالواقع العالمي. إذ لا أحد منَّا يعيش في جزيرة! والكنيسة بالذَّات لا يمكنها أن تعيش في جزيرة، في العزلة والقوقعة، في صومعةٍ رهبانيَّة أو في قفرٍ بعيد... بل على الكنيسة أن تنطلق من جدرانها ومن أناطيشها وأديارها وصوامعها ومقرِّ أبرشيَّاتها، أن تنطلق بقوَّةٍ متجدِّدة مرتكزة على الصَّلاة والإفخارستيَّا والتَّأمُّل والمطالعة والبحث والدَّرس والاطِّلاع، تنطلق بقوَّةٍ متجدِّدة إلى كلِّ إنسان، لأنَّ الله "قدَّرنا أن نكون خدَّامًا لعهده الجديد، لا عهد الحرف بل عهد الرُّوح" (2كورنثُس 3: 5-6)، ولكي كما يقول بولس الرَّسول: "نَسبي كلَّ بصيرةٍ إلى معرفة يسوع المسيح" (2كورنثُس 5:10). فتصبح الكنيسة القويَّة المتجدِّدة المتطوِّرة الواسعة الآفاق، تصبح "كلاًّ للكلّ لكي تربح الكلّ" (1كورنثُس 22:9). لكي يطَّلع النَّاس كلُّهم على السِّرّ المكتوم منذ الدُّهور والأجيال (1كولوسي 26:1). سرِّ الخلاص والفداء من خلال كلمة الله، التي هي كلمة الله لكلِّ النَّاس، "لكي يُقبِلوا إلى النُّور، وتكون لهم الحياة وتكون لهم بوفرة" (يوحنَّا 10:10). إذ إنَّ المسيح أتى لكي يُنير ما قد أظلم، ويُخلِّص ما قد هلك، ولكي يجمع أبناء الله المتفرِّقين إلى واحد، ويجعل منهم جسدًا واحدًا متضافرًا متضامنًا متفاعلاً، يشعر فيه الأعضاء كلُّهم بالأمن والاستقرار والكرامة والسَّعادة والأمل والرَّجاء...
هذه هي رسالة الكنيسة الخليقة الجديدة الدَّائمة التجدُّد. إنَّها في تجدُّدها الدَّائم، تحمل رسالة التَّجدُّد والتطوُّر والحداثة والتقدُّم والازدهار في المجتمع، خاصَّةً في المجتمع العربي ذي الأغلبيَّة المسلِمة. هذا التَّجدُّد يجب أن يطال كلَّ القطاعات التي يحتاج إليها مجتمعنا العربي، وبخاصّة الأجيال الطَّالعة والشباب. وهناك قطاعاتٌ كثيرةٌ تحتاج إلى تجدُّد وتطوُّر متكافىء، وأكثرها قطاعات مشتركة بيننا كلِّنا، مسيحيِّين من كلِّ الطَّوائف، ومواطنين من مختلف المعتقدات الدِّينيَّة، التي لها كلِّها حقَّ الوجود الكريم والتطوُّر، حقَّ المواطنيَّة الكاملة...
من هذه القطاعات، قطاعات القِيَم الرُّوحيَّة والإيمانيَّة والدِّينيَّة والحرِّيَّة الدِّينيَّة، حرِّيَّة ممارسة الدِّين، وحرِّيَّة المعتقد، ومكافحة التميِّيز العنصري والبشري والإثني والدِّيني والقومي... وحقوق الطِّفل والمرأة والإنسان المعوَّق والفقير والمهمَّش... وقيمة الأسرة ووحدتها وثباتها... والحياة الكريمة لكلِّ مواطن... والتربية الخُلُقيَّة على المحبَّة والاحترام المتبادل، والتعايش والحوار والعيش المشترك، وقبول الآخر، وكرامة الإنسان المطلقة لكونه مخلوقًا على صورة الله ومثاله، وإقصاء مشاعر الكراهيَّة والعداء والعنف والإرهاب والابتزاز والاستغلال والاضِّطهاد والتسلُّط والتَّعالي...
إنَّ عمل الكنيسة لأجل هذه الأمور، هو من صميم رسالتها، وهو مجال التَّجدُّد الدَّائم لعملها ونشاطها الإنساني والرُّوحي والثقافي والإيماني والاجتماعي. وهذا هو التوجُّه الذي على الرُّعاة، مطارنة وكهنة ورهبان وراهبات ومربِّين ومربِّيات، أن يربُّوا الأجيال المسيحيَّة المؤمنة عليه، في الوعظ والإرشاد ومن خلال الأخويَّات والجمعيَّات الخيريَّة ودور التنشئة... فإنَّ المسيحي المنفتح، الواعي رسالته ومعنى وجوده في مجتمعه، والمقتنع من ثوابت إيمانه وأخلاقه، هو المسيحي النَّاجح في مجتمعه، السَّعيد، القوي، الذي يمكنه أن يصمد أمام التحدِّيات والصُّعوبات والضغوطات والأزمات، وأمام تجاذبات الهجرة والخوف واليأس والقوقعة والانعزاليَّة والتشرذُم... هذا هو المسيحي القادر أن يعيش في مجتمعه المسيحي وغير المسيحي. وأن يكون فاعلاً رسولاً وعامل خيرٍ وتطوُّرٍ في مجتمه المسيحي، في كنيسته ورعيَّته، وفي مجتمعه غير المسيحي، وفي وطنه الصَّغير والكبير في الأوطان العربيَّة...
هذا المسيحي المؤمن المنفتح المتجدِّد، القادر على التفاعل والتواصل والعمل المشترك... هذا هو المسيحي الذي يجب على الرُّعاة والمسؤولين في الكنيسة، أن يربُّوه ويسهروا على ترقيته ونموِّه. هذا المسيحي هو مستقبل الكنيسة، ومستقبل الوطن.
نحن بحاجة في كنيستنا الرُّوميَّة المَلَكيَّة الكاثوليكيَّة إلى هؤلاء المسيحيِّين، إلى هؤلاء المؤمنين، إلى هؤلاء المواطنين. ولا يمكن لكنيستنا أن تتجدَّد وتبقى أمينةً لرسالتها المسيحيَّة تجاه أبنائها المسيحيِّين وتجاه العالم العربي، التي هي جزءٌ لا يتجزّأ منه، وهي منه ومعه ولأجله... لا يمكن لكنيستنا أن تبقى أمينةً بنجاح لهذه الرِّسالة المنفتحة، إلاّ من خلال هؤلاء المسيحيِّين، الذين يجب أن يكونوا كوادر المستقبل، وهم دعامة الكنيسة والوطن.
ولأجل تحقيق هذا التجدُّد الكنسي في المجتمع العربي، لا بُدَّ لنا، رعاة، مطارنة وكهنة ورهبان وراهبات ومؤمنين ورجال أعمال وسياسيِّين وأساتذة جامعيِّين وسواهم، لا بُدَّ أن نكون حقًّا كنيسةً واحدة "قويَّة متماسكة" لأجل العمل الكنسي الدَّاخلي، والتَّجدُّد الذي من الرُّوح القدس. كما لا بُدَّ أن نكون أقوياء، قادرين على التواصل مع شرائح مجتمعنا، ونجعل الكنيسة في تواصلٍ دائم فعّال مع المجتمع، بحيث يكون لمؤسَّساتنا وجمعيَّاتنا، التأثير الواسع الفعَّال في مجتمعنا، إيمانيًّا وثقافيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا. هكذا فقط: "يُحسَب لنا حساب" . وهكذا فقط نُحقِّق رسالتنا المسيحيَّة ودعوتنا الفريدة، ونبقى أمناء لإيماننا المسيحي في المجتمع العربي، لنكون فيه القطيع الصَّغير الشُّجاع الذي لا يخاف، ويبقى حاضرًا أمينًا، شاهدًا وشهيدًا إذا لزِمَ الأمر، لهذه القِيَم الإنجيليَّة الإيمانيَّة المقدَّسة. وهكذا نُحقِّق أيضًا المهمَّات التي يُلقيها علينا يسوع منذ اليوم الأوَّل من دخولنا الإيمان المسيحي بالمعموديَّة المقدَّسة، ويجعلنا شركاء في رسالته الإلهيَّة الموجَّهة لجميع النَّاس، وبدرجةٍ أولى لمواطنينا جميعًا. إنَّها رسالةٌ صعبة، تدعو إلى الغفران والمصالحة والمسالمة والصفح، وإعطاء الخد المصفوع بدل الآخر، ومحبَّة الأعداء، والعطاء بدون حساب، والعفويَّة وعدم المطالبة بالمِثل... ومن خلال هذه الخلقيَّة السَّامية نحقِّق ما دعانا إليه يسوع قائلاً: "أنتم نور العالم، وأنتم ملح الأرض... فكونوا كاملين، كما أنَّ أباكم السَّماوي هو كامل" (متَّى 5: 13-14 و48). وفي مثَلِ الخميرة في العجين (متَّى 33:13) يسوع يُمثِّل الكنيسة بالخميرة التي تُخمِّر المجتمع.
هذه هي قِيَم التَّجدُّد الحقيقيَّة. وهذه هي مميِّزات الخليقة الجديدة. وهذه هي الأسس للخليقة الجديدة، التي تجعل من المسيحي المؤمن المعتمد حقًّا خليقةً جديدةً في المسيح يسوع.
التَّجدُّد في السِّينودس لأجل الشَّرق الأوسط
إنَّ السِّينودس الخاصّ بالشرق الأوسط (روما 10-24 تشرين الأوَّل 2010)، عالج موضوع التَّجدُّد في النِّداء الختامي وفي التوصيات الصَّادرة عنه، داعيًا إلى الاطِّلاع برسالتنا في الشرق الأوسط، ومُشدِّدًا على القوَّة الخلاَّقة الكامنة في الشباب.
وقد رفع آباء السِّينودس في ختامه 44 توصية، لأجل صياغة الإرشاد الرَّسولي لاحقًا.
ورد في التَّوصية 30: "توصي كنائسنا في الشرق الأوسط، وسعيًا منها في تلبية الحاجة إلى تنشئة البالغين على الإيمان الحيّ، بإنشاء مراكز للتعليم المسيحيّ، حيث يقتضي الأمر ذلك. ولا بُدَّ من التشديد على التنشئة المستمرة، وعلى التعاون بين الكنائس المتنوّعة فيما يتعلّق بالعلمانيّين والإكليريكيّات والجامعات. كما يجب على تلك المراكز أن تُبقي أبوابها مشرَّعةً على جميع الكنائس. وعلى الأخصّ، يجب إعداد معلّمي التعليم المسيحيّ إعدادًا جيّدًا في سبيل تنشئة ملائمة، تأخذ بعين الاعتبار المشكلات والتحدِّيات الرَّاهنة.
"يجب على كلّ مسيحي، أن يقدِّم الحجّة عن إيمانه بيسوع المسيح، وأن يحمل همّ إعلان الإنجيل من دون خجل ولا استفزاز. وتطال التنشئة الاحتفال بالأسرار والمعرفة والحياة والممارسة. ولا بدَّ من إعداد العظة إعدادًا مبنيًّا على كلمة الله ومرتبطًا بالحياة. وإنّه لمن المهمّ جدًّا أن تتضمّن التنشئة، التدرُّب على التقنيّات الحديثة وعلم وسائل الاتصال. على العلمانيِّين أن يشهدوا بحزم للمسيح في المجتمع. إنّ الأسس التي تهيّء هكذا شهود، موجودة في المدارس الكاثوليكيّة، المعروفة منذ القِدم بكونها الأداة القيّمة لتوفير التربية الدِّينيَّة للكاثوليك، والتنشئة الاجتماعيّة، التي تؤول إلى فهم متبادل بين أعضاء المجتمع الواحد. وعلى المستوى الجامعيّ، نشجّع على إنشاء رابطة تضمّ معاهد التعليم العالي، مع إيلاء أهمّيَّة خاصّة لتعليم الكنيسة الاجتماعي".
وفي التَّوصية 31 كلامٌ حول المنعشين في العمل الرَّعوي: "من أجل تنشئة العاملين في الحقل الرَّاعويّ في مجالاته المتنوّعة، نقترح تأسيس وتطوير مراكز تنشئة مشتركة بين كنائس البلد الواحد. ونوصي كذلك أن تستخدم هذه المراكز وسائل الاتصال السَّمع-بصريَّة الحديثة، وأن تَنشر المواد التي تُنتجها على شبكة الأنترنت، وبواسطة الأقراص المُدمجة، لتكون أوسع انتشارًا وأقلّ كلفة".
وفي التَّوصية 33 ورد كلامٌ عن وسائل الإعلام حول حمل البشرى المتجدِّدة: "أشار الآباء إلى أهمِّيَّة وسائل الإعلام الحديثة في التنشئة المسيحيّة في الشرق الأوسط، كما في إعلان الإيمان. فهي تشكِّل شبكة اتصال مميَّزة لنشر تعاليم الكنيسة. ويوصون كذلك، من الناحية العمليَّة، بمساعدة البُنى المتوفِّرة في هذا المجال، مثل تيلي- لوميار، نورسات، وإذاعة صوت المحبَّة وغيرها، ودعمها بشتَّى الوسائل، لتحقِّق الأهداف التي أُنشئت من أجلها بروحٍ كنسيَّة. وقد تمنَّى بعضهم دعم إنشاء مدينة إعلاميَّة لنورسات الإقليميَّة والعالميَّة".
وفي التَّوصية 37 كلامٌ عن البشرى المتجدِّدة: "يدعو الآباء الكنائس الموكولة إليهم، إلى الدخول في آفاق البشارة الجديدة بالإنجيل، آخذةً بعين الاعتبار قرائن الواقع الثقافي والاجتماعي، الذي يعيش ويعمل ويُجاهد فيه الإنسان المعاصر. ومثل هذا الأمر يستلزم توبةً عميقة، وتجدُّدً على ضوء كلمة الله، والأسرار، ولا سيَّما سرَّيّ المصالحة والإفخارستيَّا".
خلاصة
أيُّها الأحبَّاء!
عبارة "الخليقةُ الجديدة" تختصرُ إيمانَنا المسيحيّ، وخُلُقيَّتُنا المسيحيَّة، وشرف دعوتنا البشريَّة والإلهيَّة، ورسالتنا الكبرى الفريدة، التي تُعطي معنى لوجودنا وحياتنا ومسيرتنا على هذه الأرض في طريقنا نحو الملكوت.
ميلاد السَّيِّد المسيح، هو الدَّعوة الدَّائمة إلى الإنسان أن يرتفع، أن يتجدَّد، أن يتسامى، أن يرتقي، أن يتقدَّم، أن يصعد، أن يتخطَّى حدوده ومحدوديَّته وضعفه وحتَّى خطيئته. ويعرف أنَّ الله قادرٌ أن يصنع به عجائب وعظائم. وهو الذي خلقه من العدم إلى الوجود. قادرٌ أن يخلقَ فيه روحًا مستقيمًا جديدًا، ويجعل منه خليقةً جديدة، ويسمو به إلى علوِّ التَّألُّه، ومشاركة الله في حياته الإلهيَّة، فيعود ليكون كما خلقه الله في البرِّ والقداسة، على صورة الله ومثاله!
وإلى هذا يُشير نشيد الميلاد الرَّائع:
المسيحُ وُلِدَ فمجِّدوه!
المسيحُ أتى من السَّماوات فاستقبلوه!
المسيحُ على الأرض فارتفعوا وارفعوه!
إلى هذا كلِّه يدعونا عيد الميلاد المجيد. وإلى هذا أدعوكم أيُّها الأحبَّاء: إخوتي الأساقفة الأحبَّاء، وإخوتي وأبنائي وبناتي الكهنة والرُّهبان والرَّاهبات والمؤمنين والمؤمنات، من أبناء وبنات أبرشيَّاتنا ورعايانا في البلاد العربيَّة، وبلاد الانتشار والمهاجر، وفي كلِّ مكان!
واقبلوا هذه التَّأمُّلات حول "الخليقة الجديدة"، وهي المسيح نفسه الطِّفل الجديد والإله الذي قبل الدُّهور، وهو كلُّ واحدٍ منَّا... إقبلوا هذه التَّأمُّلات هديَّةً ميلاديَّة، وباقةً من الدُّعاء والأماني والتَّهاني القلبيَّة لكم جميعًا.
وَلْتَبقَ كنيستنا قويّةً متماسكةً واحدةً خلاَّقةً رائدة، لا تخاف، لا تتردَّد، لا تشيخ، لا تيأس. دائمًا منفتحة، في علاقةٍ مع الآخرين. دائمًا حاضرة، دائمًا مستعدَّة للتعاون والتضحية. كنيسة الحوار، والتَّضامن، والإيمان والرَّجاء. كنيسة متجدِّدة دائمًا بالرُّوح القدس. وهكذا تُشبه الرَّجل الذي امتدحه يسوع في الإنجيل المقدَّس، الذي يخرج من كنوزه جُدُدًا وعِتقًا. والذي يُمكنه أن يزرع الأمل، لكي تُعطي نِعَمُ الله ثمارًا غزيرةً لكلِّ أبناء الكنيسة، ثلاثين وستِّين ومائـة.
المسيحُ وُلِدَ فمجِّدوه!
ميلاد سعيد، وسنة هناء وسلام!
لكم صداقتي ومحبَّتي ومودَّتي وبَرَكَتي
مع محبَّتي وبرَكَتي
+ غريغوريوس الثّالث
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والاسكندريّة وأورشليم
للرُّوم الملَكيِّين الكاثوليك
الملحق
ونبدأ بشهر أيلول وهو افتتاح السَّنة الطَّقسيَّة اللِّيترجيَّة في الكنيسة الشَّرقيَّة:
"أيُّها السَّيِّد، أهِّلنا أن نشرَعَ مع بَدء السَّنة الجديدة، بسِيرةٍ مرضيَّةٍ، وأعمالٍ صالحة" (التَّسبحة السَّادسة).
في عيد ميلاد السَّيِّدة: (8 أيلول)
"تُولَدُ الآن والعالمُ معها يتجدَّد" (آخر الغروب).
"اليومَ وُلِدَتْ جسرُ الحياة، التي بها فاز الأنام بالمسيح الواهب الحياة، الذي هو تجديد نهوضهم من سقطة الجحيم" (التَّسبحة الأولى).
"يا مريم. أنتِ وحدكِ وَلدتِ الإله، وجدَّدتِ بميلادكِ الطَّبيعة. مُعتِقةً حوَّاء من اللَّعنة" (التَّسبحة السَّابعة).
عيد الصَّليب: (14 أيلول)
"لأنَّ كتاب النَّاموس الظِّلِّيّ القديم. جدَّده بصليبه. الإلهُ الذي عُلِّقَ عليه بالجسد. وأزال مرض الضَّلالة. المُفسِدةَ للنُّفوس" (التَّسبحة السَّادسة).
"إذ قد آستعدنا دعوتنا بعود الصَّليب" (التَّسبحة السَّابعة).
"أيَّتها القوَّات السَّماويَّة سبِّحي العود المرفوع المخضَّب بدماء كلمة الله المتجسِّد. وعيِّدي لإعادة دعوة البشر" (التَّسبحة الثَّامنة).
دخول السَّيِّدة إلى الهيكل: (21 تشرين الثَّاني)
"مريمُ تجديدُ جنسِ الأرضيِّين بأسره" ( غروب العيد).
"وألَّهَ (المسيح) الطَّبيعة البشريَّة السَّاقطة" (غروب العيد).
تذكار التَّجديدات: (9 كانون الأوَّل)
"جدِّدِ القلوبَ تجديدًا روحيًّا" (قنداق التَّجديدات).
"الذي به يُجدِّدُ الجميعُ نفوسَهم للعلوِّ السَّماوي" (غروب العيد).
"أيُّها الصَّالح... إنَّك بالولادة تُعيدُ جَبلة الطَّبيعة كلِّها. فجدِّدْ أيُّها المخلِّص هذه الطَّبيعة المائتة. بما أنَّك إله" (نشيد جلسة المزامير).
أحد النِّسبة: (الأحد الذي قبل الميلاد)
"سيقوم في اليوم الثالث، مجدِّدًا البَرِيَّة ببهاء. وحاطِمًا الجحيم. ومُنهِضًا معه الأموات" (التَّسبحة التَّاسعة).
عيد الختان: (1 كانون الثَّاني)
"أرسلَ (المسيح) ضياء النِّعمة الجديدة" (التَّسبحة الأولى).
عيد دخول السَّيِّد إلى الهيكل: (2 شباط)
"يسوع رئيس العهدَين القديم والجديد" (غروب العيد).
"إنَّ سمعان... صار مُسارًا للنِّعمة الإلهيَّة الجديدة" (التَّسبحة التَّاسعة).
المسيح: "متمِّمُ الشَّريعة الظِّلِّيَّة. ومُظهرُ بَدء النِّعمة الجديدة" (في الباكريَّة).
تقدمة عيد البشارة: (24 آذار)
"بكِ يُجدِّدُ البالين" (التَّسبحة السَّابعة).
"لكي يُنقذ جنس البشر من سماجة الآلام. ويمنحهم الجمال الأوَّل" (التَّسبحة التَّاسعة).
عيد البشارة: (25 آذار)
عبارة: إعادة دعوة آدم (تتردَّد كثيرًا).
"آدمُ يتجدَّد" (ذوكصا آيات آخر الغروب).
عيد التَّجلِّي: (6 آب): عيد التَّجدُّد والتَّألُّق والجمال
"المسيح حوَّلَ الصُّورة، مُظهرًا بهاء الجمال القديم" (في الطُّواف).
"الجوهر البشريّ، قد اِستردَّ جمال الصُّورة الأوَّل" (آيات آخر الغروب).
"فجعلتَ بتجلِّيكَ طبيعة آدم القاتمة لامعة. مُعيدًا عُنصُرَها إلى مجدِ ولمعانِ لاهوتكَ" (آيات آخر الغروب).
"حتَّى الرُّسل اِستحالوا" (آيات آخر الغروب).
"وأبَنتَ اِستحالة البشر" (صلاة السَّحر _ نشيد جلسة المزامير الأولى).
"أيُّها المسيح. لمَّا لبِستَ آدمَ بجملته. جعلتَ الطَّبيعة المسودَّة قديمًا لامعة. مؤلِّهًا إيَّاها بتغيِّير صورتكَ" (صلاة السَّحَر _ التَّسبحة الثَّالثة).
عيد الانتقال: (15 آب)
"أن يحفظَ شعبَكِ الجديد" (صلاة الغروب).
آحاد القيامة والتَّجديد (المعزِّي): (المجلَّد الرَّابع)
اللَّحن الثَّالث:
"وجدَّد في ذاته، طبيعة جنسنا البالية" (نشيد جلسة المزامير الأولى).
"فجدَّدتَ المجبولِين من الأرض" (التَّسبحة السَّابعة).
اللَّحن الرَّابع:
"نُمجِّدُ قيامتكَ في اليوم الثَّالث. فبها أيُّها القدير. جدَّدتَ طبيعة البشر الفاسدة" (صلاة الغروب).
"ووضعَكَ بشرٌ مائتون في ضريحٍ جديد" (صلاة السَّحَر _ نشيد جلسة المزامير الأولى).
"أيُّها الرُّسل المُمجَّدون. إنَّ الرُّوح القدس بحلوله الرَّهيب عليكم، سَبَكَ بألسنتكم، النَّاس المسحوقين بالخطيئة كما في بودقة. وصاغَهُم بِكُم صياغةً جديدةً للحياة" (سحر الخميس _ اللَّحن السَّادس _ الثالثة من القانون _ القطعة الثانية).
نصوص من خدمة الزَّمن الخمسيني
قانون نصف اللَّيل، ليلة الفصح _ التَّسبحة الرَّابعة _ القطعة الثانية: "إسترجعت الأشياء كلَِّها، وجدَّدتَها".
"يا مخلِّص، لمَّا لبِستَ حلَّتنا، جدّدت التُّرابيِّين. والكفنُ والقبرُ كشفا سرَّكَ أيُّها الكلمة. ويوسف الوجيه المشير، أتمَّ قصدَ أبيك الذي جدَّدَنا، كما يليقُ بعظمته" (الخامسة _ الثانية).
قانون الفصح
الثالثة _ إرموس: "هلمَّ نشرب شرابًا جديدًا".
السَّابعة _ الثالثة: "نُعيِّد لبَدءِ حياةٍ أخرى أبديَّة".
الثامنة _ الثانية: "هلُمَّ نشترك في عصير الكرمة الجديد".
التاسعة _ إرموس: يا أورشليم الجديدة - "المسيح فصح جديد".
الفصحيَّات _ الأولى: "اتّضح لنا فصحًا جديدًا".
الأحد الجديد ( أحد توما)
نشيد العيد: "جدَّدتَ لنا بهم (الرُّسل) روحًا مستقيمًا".
القانون – الثالثة – الثانية: "أيُّها المسيح، لقد جدَّدَتنا بصليبك بعد أن عَتُقنا، وجعلتنا غير فاسدين بعد أن فَسُدنا. إذا أمرتَنا أن نسير في ما هو أهلٌ لتجديدِ الحياة".
نشيد الإرسال: "اليومَ الرَّبيع ينشرُ طيبًا... والخليقةُ الجديدةُ تفرح".
أسبوع حاملات الطيب
النَّشيد: يوسف يضعُ يسوعَ في قبرٍ جديد
نصف الخمسين
التَّاسعة من القانون _ القطعة الثانية: "لقد تعلَّمنا من المسيح، سياسةً جديدةً وحديثة".
أسبوع الأعمى:
أحد الأعمى مساءً: الغروب، القطعة الثالثة: "غوامض الكتاب التي فيها أشرق المسيح الشمسَ البهيَّة. فجدَّدَ السَّبت، وأنار ظلام الكتاب، ورفع حجابه".
سحر الإثنين من أسبوع الأعمى _ آخِر السَّحر _ الثالثة: "ففرح الأعمى بالمشاهدةِ الجديدةِ البهيَّة".
سحر الثلاثاء _ الباكريَّة _ آخِر السَّحر _ الثانية: "فأمسى الضريرُ مصباحًا يَشِعُّ نورًا جديدًا... لتوطيد الذين على الأرض...".
والقطعة الثالثة: "المسيحُ المنيرُ الأقطار بقيامته، التي منها أشرقَ ضياءُ تجديدِ جبلةِ البشر".
العنصرة:
"الآنَ جدَّدَ الله آتِّفاقَ الأصواتِ لخلاص نفوسنا".
جلسة المزامير الثالثة: "وجدَّدتَ لهم روحًا مستقيمًا. فأذاعوا أوامركَ وتدبيركَ للجميع، مثل قيثارة موسيقيَّةٍ، تُحرِّكُها ريشةٌ إلهيَّةٌ سرِّيَّة".
القانون، التَّسبحة الخامسة _ الأولى من القانون الأول: (الرُّوح) "جُدِّدَ في المؤمنين مستقيمًا".
السَّادسة _ الثاني _ الثانية: "أيُّها الضَّابطُ الكُلّ. ليتجدَّدْ في أحشائنا مؤبَّدًا. الرُّوح القدس المستقيم الذي نهواه".
التَّاسعة _ الثاني _ الثالثة: "ومتغيِّرين تغيُّرًا غريبًا فائق البهاء".
وفي الباكريَّة: "يتكلَّمونَ بألفاظٍ غريبة، واعتقاداتٍ غريبة، وسُمعةٍ غريبة، ورؤيةٍ غريبة".
غروب الإثنين (الأحد مساءً في السَّجدة) آخر الغروب _ الثالثة: "إنَّ رسل المسيح... لأنَّ المعزِّي جدَّّدَهم، مجدِّدًا فيهم معرفة الأسرار الإلهيَّة، التي بشّروا بها، بنغماتٍ غريبةٍ رفيعة".
الإثنين مساءً – الغروب – الأولى: "إنَّ الألسن تتجدَّدُ الآن".
في قانون المدائح:
"السَّلامُ عليكِ يا من بها تَتَجدَّدُ الخليقة" (صلاة المدائح _ البيت الأوَّل).
البيت 13 (مطلعه)
إنَّ الخالق بظهوره، أرانا خليقةً جديدة. نحن الذين...