صاحب الغبطة يوسف
رسالة الميلاد 2008
من غريغوريوس عبدِ يسوعَ المسيح
برحمة الله تعالى
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق
والإسكندريّة وأورشليم
إلى السّادة المطارنة، أعضاء المجمع المقدَّس الموقّرين
وسائر أبنائنا وبناتنا بالمسيح يسوع، إكليروساً وشعباً
المدعوّين قدّيسين، مع جميع الذين يدعون باسم ربِّنا يسوع المسيح، ربِّهم وربِّنا
نعمةٌ لكم وسلامٌ من الله أبينا، والرَّبِّ يسوع المسيح (اكور: 1_3).
الحياة لي هي المسيح
الحياة لي هي المسيح! لتكن صرخةَ قلوبنا ونفوسنا، وإعلانَ إيماننا في يوبيل الألفيّة الثّانية لميلاد القدّيس بولس، وفي اليوبيل السّنوي الدّائم المتجدِّد، لعيد ميلاد ربِّنا وإلهِنا ومخلِّصنا يسوع المسيح، الطَّريقِ والحقِّ والحياة، الطِّفلِ الجديد، والإلهِ الذي قبل الدُّهور.
بولس العاشق
"الحياة لي هي المسيح" هي من أجمل العبارات التي خطّها يراعُ القدِّيس بولس، لا بل خرجت من قلبه. وهي شهقةُ العاشق الولِه المتيَّم، يُردِّدها دون مللٍ أو كللٍ أو تَردادٍ، أو سأمٍ أو فتورٍ أو تَفاهةٍ أو رَتابة.
وكم تتردّدُ هذه العبارة بين العُشّاق "أنت حياتي"، "أنت عمري"... ولكن شتَّانَ ما بين عشق بولس، وعشق العاشقين، وموضوع عشق بولس، وموضوع معشوق العاشقين!
معشوق بولس هو الأبهى جمالاً بين البشر، الذي أُفيضَ اللُّطفُ على شفتَيه، ومسَحَهُ إلهُهُ بدُهنِ البهجةِ أفضل من رفقائِه. الذي تفوح من ثيابه الأطياب، المُرُّ والطِّيب والنّدّ. هو الذي باركه الله إلى الأبد، وجعله ملكاً في سبيل الحقِّ والدِّعة والبِرّ، وتهديه يمينُهُ دائماً هدياً عجيباً (المزمور 44).
معشوق بولس هو الكلمة الذي كان في البدء. هو النُّور الذي يُنير لكلِّ إنسانٍ آتٍ إلى العالم. إنّه الحقُّ والحياة والفرح والأمل والرَّجاء، الذي منه كانت الحياة، وبه نحيا ونتحرّك ونوجَد. هو السَّعادة التي لم ترها عينٌ ولم تسمع بها أُذُن، ولا خطرتْ على قلبِ بشر، وقد أعدّها الله بيسوع المسيح لجميع محبّيه.
إنَّه الإله المحبّ البشر، الذي يبذلُ نفسَهُ عن خرافه، ويسعى في طلبها ويسهر على وحدتها. والذي أحبَّها وأحبَّ العالم حتّى الموت، موتِ الصَّليب. وجعل نفسه كَفّارةً عن خطايانا... هو الذي لأجلنا ولأجل خلاصنا نزل من السَّماء، وتجسَّد من الرُّوح القدس، ومن مريم العذراء، وصار إنساناً، وتألّم وقُبِر وقام لكي يخلِّص ما قد هلَك، ويجمع ما تفرّق، لكي تكون لهم الحياة، وتكون لهم بوفرة.
هذا هو معشوق بولس، لا بل هذا هو معشوقُ الأجيال، حبيبُ الملايين والمليارات من البشر، والآلاف المؤلَّفة من الشُّهداء، بذلوا أنفسهم ودماءهم بحبٍّ وسخاء وإباء، والآلاف المؤلّفة من النُّسّاك والرُّهبان والرَّاهبات. تركوا العالم وزهِدوا بهِ وكرّسوا حياتهم لأجل مجده، ولأجل خدمة الفقير والمريض والمعوَز، والمعوَّق والمشوَّه والمنبوذ، ولأجل خدمة مجتمعاتهم وتطوّرها وازدهارها، وتقدُّمِها روحيّاً وثقافيّاً وحضاريّاً واقتصاديّاً، وذلك لأجل معشوقهم، معشوق بولس.
ولم يهابوا الملوك والحُكّام، وكسروا معسكرات الأجانب، وذلك لينالوا قيامةً أفضل، وحياةً أبديّةً خالدة مع معشوقهم، ومعشوق بولس يسوع المسيح. الذي بدوره لم يعتدَّ مساواتَهُ لله اختلاساً، بل أخلى ذاته آخذاً صورةَ عبدٍ، و صائراً بشِبهِ البشر، ووضع نفسَهُ وغسل أرجلَ تلاميذه، وصار طائعاً حتّى الموت، موتِ الصَّليب... لكنَّ الله رفعه ووهب له اسماً يفوقُ كلَّ اسمٍ، لكي تجثوَ باسمِ يسوع المسيح، معشوق بولس ومعشوق القدِّيسين والأبرار والنُّسّاك، كلُّ ركبةٍ في السَّماء والأرض وتحت الأرض، ويعترفَ كلُّ لسانٍ بأنَّ يسوع المسيح، هذا المعشوق العظيم، هو ربٌّ لمجدِ الله!
في هذا العام المكرَّس لليوبيل المئوي الثّاني لميلاد القدِّيس بولس، أرَدنا أن تكون رسالةُ الميلاد مخصّصةً لبولس. سنكتشف بعض ملامح هذا الوجه الذي يعكس وجه المسيح. وهذا واجبٌ ودَينٌ علينا لبولس الذي نعتبره ابناً روحيّاً لمدينة دمشق، مقرُّنا البطريركيّ، إذ رأى النُّور على مشارفها، وتعمّد في نهر بردى، من يدِ أوّل أسقف لدمشق القدِّيس حنانيا الرَّسول سلفنا. وكان أجدادُنا الدِّمشقيّون المسيحيّون الأوائل أشابين وعرابين لبولس.
وهذا ما تقوله أناشيد عيد القدِّيسَين الرَّسولَين بطرس وبولس: "أيُّ سجنٍ لم يحوِكَ يا بولس مقيَّداً؟ وأيّةُ كنيسةٍ لستَ لها خطيباً؟ فدمشقُ تعتزُّ بكَ يا بولس، إذ قد رأتك مجندلاً بالنُّور. وروما أيضاً تتباهى بإحرازها دمك. أمَّا طرسوس وفرحُها أكبر، فتُكرِّمُ بحرارةٍ قُمطك. فيا بطرس صخرة الإيمان، ويا بولس فخر المسكونة، تعالَيا معاً من روما وثبِّتانا" ( نشيد الإصغاء).
بولس معلِّم الحياة في المسيح
لقد اخترنا لتأمُّلِنا في هذه الرِّسالة هذه العبارة "الحياة لي هي المسيح" لأنّها تُعبِّر عن لُبِّ رسالة بولس، وهي المحور الذي تدور حوله تعاليم بولس، لا بل هي الهدف الحقيقيُّ لحياةِ بولس، وحياةِ كلِّ إنسانٍ مؤمنٍ بيسوعَ المسيح.
سنحاولُ أن نستعرضَ رسائل بولس، لكي نرى من خلالها معنى هذه الآية، وكيف فهِمها بولس وعلَّمها وعاشها واختبرها في كلِّ ظروف حياته. إنّ هذه الآية تُكوِّن النَّسيج السِّرِّيّ، واللُّحمة في كلِّ رسائله. وهي تشرح لنا مواقف بولس، تجاه كلِّ القضايا المتشعِّبة، التي عالجها من خلال رسائله.
وسنحاول أن نختبئ وراء بولس، ونسمع صوته القويّ المدوِّي، من خلال صوتنا الخافت. لا بل نعتبرُ أنَّ كلمات بولس هي كلمات اليوم، موجّهةً إلينا نحن مسيحيِّي اليوم. وهذا ما فعلناه في نشرتنا الشّهريّة لهذا العام في دمشق. فقدَّمنا لرسائل بولس بهذا العنوان: "صوتُ بولس وصوتُ الرّاعي". وعَرَضنا أهمَّ المواضيع التي عالجها بولس بهذا العنوان: "رسالة بولس الرَّسول إلى الدِّمشقيّين". أجل إنَّ رسائل بولس لا تزال تُخاطبنا اليوم بكلمات الحياة. إنّها كلماتٌ خالدة تُكلِّمُنا عن المسيح، الذي هوَ هوَ أمسِ واليومَ وإلى الأبد. وكلمات بولس هي أيضاً موجّهةٌ إلينا، نحن أبناء الألفيّة المسيحيّة الثّالثة، كما كانت موجّهةً إلى المسيحيّين الأوَّلين في شرقنا العربيّ، مهدِ المسيحيّة، وفي العالم بأسره. وهي موجّهةٌ بنوعٍ أخصّ من خلال هذه الرِّسالة، إلى أبناء وبنات كنيستنا الرّوميّة الملكيّة الكاثوليكيّة، في الشّرق الأوسط، وفي العالم أجمع.
لقد دبّجتُ جزءً من هذه الرِّسالة في روما، أثناء انعقاد سينودس الأساقفة الثّاني عشر، برئاسة قداسة البابا بندكتوس السَّادس عشر، ومشاركة حوالي250 مطراناً (من بطاركة وكرادلة ومطارنة) من مختلف بلدان العالم (112 بلداً): 36 من إفريقيا، و24 من أميركا الشّماليّة والجنوبيّة، و17 من آسيا و31 من أوروبا، و4 من أوقيانيا. يُضاف إليهم اللاهوتيّون والخبراء والرؤساء العامّون، والرئيسات العامّات، والمترجمون والمساعدون في أمانة السِّر...
كان العمل شاقّاً في السِّينودس، إذ كان مجموع الاجتماعات العامّة، أو ما نسمّيه ساعات العمل، يصل إلى ستّ ساعات، ناهيك عن أوقات الصّلاة، والأوقات المخصّصة لدراسة الوثائق والأوراق والنّشرات، التي كان أعضاء السينودس يتسلّمونها، في صندوق البريد الخاصّ بهم000 وكلُّها تتطلّب استعداداً وإجابةً، كتابةً أو شفهيّاً...
فكنتُ أسترِقُ الأوقات الحُرّة، وبخاصّة ساعات الصّباح لأُعدَّ هذه الرِّسالة. وقد خصّصتُ ساعاتٍ طويلة، لمطالعة رسائل القدِّيس بولس والتأمُّلِ فيها. أُسجِّلُ الآيات والمواقف التي تساعدني في فهم الآية، التي اخترتُها عنواناً لرسالة الميلاد، لهذا العام المكرَّس للاحتفال بيوبيل ألفَيّ سنة، على ميلاد القدّيس بولس. وقرأتُ سفر أعمال الرُّسل، متوخيّاً الهدف نفسه.
شاول - بولس في أعمال الرُّسل
أوَّلُ ذكرٍ لبولس، نجده في الفصل السَّابع من أعمال الرُّسل. إنَّه الفتى شاول الذي كانَ أحد اليهود، الذين سمعوا عظة أوَّل الشمامسة استفانوس، هذا المسيحيّ الممتلئ من الرُّوح القدس، الذي يجترح العجائب، ويتكلَّمُ بفصاحةٍ وقناعةٍ وشجاعة، عن يسوع النّاصريّ. مُبتدِئاً بمسيرة ابراهيم من العراق (ما بين النَّهرَين) إلى حوران ومنها إلى فلسطين. ويشرحُ لليهود تاريخَهم، رابطاً كلَّ أحداث العهد القديم بيسوع النّاصريّ، الذي يراه استفانوس قائماً عن يمينِ الله (أعمال 7: 55-56). وبسبب إيمان استفانوس بيسوع، يجرُّهُ اليهود خارج المدينة المقدّسة (القدس)، ويرجمونَهُ حتّى الموت (عام 53). ووضعَ الشُّهود على هذه المأساة الدمويّة، ثيابهم عند قدمَي الفتى شاول، الذي لم يكن فقط حاضراً هذا المشهد الأثيم، بل موافِقاً على قتل استفانوس، وسامِعاً إيّاهُ يطلب المغفرة لأجل راجميه، ومخاطِباً يسوع المسيح قائلاً: "أيُّها الرَّبُّ يسوع تقبَّل روحي! ربِّ لا تُقِمْ عليهم هذه الخطيئة" (أعمال 7: 58-60).
هذه أولى الكلمات والأخبار والشُّروحات، التي سمعها شاول عن يسوع. إنَّهُ يعرف التّوراة والكتب المقدّسة، ويعرف أحداثها عن ظهر قلبه. ولكنّهُ يسمعها بإطارٍ آخر، وفي علاقةٍ مع إنسانٍ يجهل كلَّ شيء عنه. لكن هذا المشهد لم يزِدْ شاول إلاّ حقداً، "فكان يعيث في الكنيسة فساداً، ويقتحم البيوت، ويجرُّ الرِّجال والنِّساء، ويدفعهم إلى السُّجون" (أعمال 3:8).
"وهكذا كان لا ينفكُّ ينفثُ التّهديد، ويُمعِنُ التّقتيل بتلاميذ الرَّبّ. وأقبل على رئيس الكهنة، وطلب رسائل إلى مجامع (اليهود) بدمشق، حتّى إذا وجد هناك أناساً على هذه الطريقة، رجالاّ ونساءً، ساقَهم موثَقين إلى أورشليم" (9: 1-2).
إنّ ذكر دمشق في هذا الموقع من أعمال الرُّسُل بالذّات، يدلُّ على أهميّة الجماعة المسيحيّة الأولى في دمشق، وقد وصل إليها الإيمان بالمسيح حالاً بعد العنصرة (عام 35 ميلاديّة)، بواسطة اليهود وسواهم، ممن حضروا حادثة حلول الرُّوح القدس، على الرُّسل يوم العنصرة. وهكذا كانوا النّواة الأولى للمسيحيّة خارج فلسطين، بعد انتشار الإيمان بالمسيح، في السَّامرة واليهوديّة واللِّّدّ، ويافا وقيصريّة.
وهكذا سبقت دمشق أنطاكية، حيث دُعيَ التَّلاميذ أوّلاً مسيحيّين (أعمال11: 25-26) وحيث وصل الإيمانُ لاحقاً، على يد شاول الدّاخل حديثاً في المسيحيّة.
وهذا يعني أنّ أخبار إيمان الدِّمشقيّين المسيحيّين الأوائل، كانت قد بلغت إلى القدس. لا بل هذا يدلُّ على إيمان الدِّمشقيّين القوي، الذي أثار حقد شاول، المحامي القوي الشكيمة عن تقاليد اليهود، وعن شريعة موسى. وهكذا كان إيمان الدِّمشقيّين، هو الذي حرّك غِيرة شاول، الذي أراد أن يدمّر هذه الجماعة المسيحيّة الدِّمشقيّة. فكانت قوّةُ الإيمان، هي الدّافع إلى الاضّطهاد من قِبَل بولس. فنرى من جهةٍ، حرارة إيمان الدِّمشقيّين. ومن جهةٍ أخرى، شدّة حقد شاول. والسَّيّد المسيح حوّل الحقد من جهة، وحرارة الإيمان من جهةٍ أخرى، إلى قوّةٍ إلهيّةٍ جديدة، غزَتِ العالم انطلاقاً من دمشق على يد شاول _ بولس، الذي أراد أن يُدمِّر حرارة الإيمان بالحقد والبُغض والحسد.
يسوع وشاول على أبواب دمشق
وهكذا كان الميعاد الذي لم يكن ميعاداً!
إنَّها الصَّاعقة على أبواب دمشق: نورٌ من السَّماء يغمر شاول بضيائه. ويَسقُطُ الجبَّار على الأرض، ويَبدأ أوّلُ حِوارٍ بين "العاشِقَين". ويسمع شاول صوتاً مجهولاً يقول له: "شاول! شاول! لماذا تضَّطهِدُني؟" ويقول شاول: "من أنتَ يا سيّدي؟" ويُجيبُ الصّوت، يسمع ولا يرى المتكلّم: "أنا يسوع الذي أنت تضَّطهدُهُ". إنَّه أوّل أنا، وأوّل أنتَ بين يسوع وشاول000 وكم سيتردّد هذا الحوار بين يسوع وشاول _ بولس!
نعرف كلّنا تفاصيل القصّة الرّائعة: بولس يقودُه مرافقوه إلى دمشق000 ويتمّ اللِّقاء مع حنانيا في بيتٍ، في إحدى الحارات المتفرِّعة من الطَّريق المستقيم في دمشق. ومن ثمّ يُعمِّد القدِّيس حنانيا الرَّسول، أوّلُ مطرانٍ على دمشق، يعمّد شاول في نهر بردى000 ويتحوّل شاول من مضَّطهدٍ حاقد، إلى إناءٍ مختارٍ مصطفى، يحمل اسم يسوع، أمام الأمم والملوك وبني إسرائيل. ويمتلئ من الرُّوح القدس000 (أعمال 9: 3-19).
من الماسيّا إلى المسيح
ينتقل بولس من عِشق "الماسيّا" التّوراتي اليهودي، إلى عِشق يسوع النّاصريّ! ويتكلّم عن هذا الحدث في حياته، أكثر من مرّةٍ في رسائله.
ولنسمع بولس يُدافع عن نفسه، أمام محفل اليهود في القُدس، ويشرح انتقاله من الشّريعة اليهوديّة المحبوبة، إلى النِّعمة المسيحيّة الفائضة في حياته. وهذا ما نقرأه في الفصل الثّاني والعشرين، من أعمال الرُّسل.
وأُحبُّ أن أنقل هذه الحادثة، ولو كانت طويلةً بعض الشيء، إلاّ أنّها تشرح الانتقال العجيب في حياة بولس. ويرويها بولس وهو مقيَّد بسلسلتَين في القلعة، في القُدس.
"فقال بولس: أنا رجلٌ يهوديٌّ من طرسوسَ بكيليكية، من مدينةٍ غيرِ مجهولة. فأرجو أن تأذنَ لي في كلمةٍ إلى هذا الشعب. فأذِنَ له، فلمّا أذِنَ له، وقف بولس على الدَّرج، وأشار بيده إلى الشَّعب. فصار سكوتٌ عظيم. فنادى باللُّغة العبرانيّة قائلاً: "أيُّها الرِّجال، إخوةً وآباء، اسمعوا دفاعي الآن لديكم" (أعمال الرُّسل 21: 39 - 40). فلمّا سمعوه يُخاطبهم باللُّغة العبريّة، زادوا هدوءً. فقال: "إنّي رجلٌ يهوديٌّ، وُلدتُ في طرسوسَ من كيليكية (عام 8 أو 9 ميلاديّة)، غير أنّي نشأتُ في هذه المدينة، وتأدّبتُ عند قدمَي جملئيلَ بدقّةٍ على شريعة آبائنا. وكنت غيوراً لله، على نحو ما أنتم عليه اليوم جميعكم. وقد اضطهدتُ تلك الطّريقة حتّى الموت. فاعتقلتُ الرِّجال والنِّساء، وطرحتهم في السُّجون، كما يشهد لي بذلك رئيس الكهنة، ومجلس الشُّيوخ بأجمعه. بل أخذتُ منهم رسائلَ إلى الإخوة في دمشق، فقصدتُ إليها لأسوق مَن هم هناك إلى أورشليم، موثقين بالسَّلاسل فيلقَوا جزاءهم.
"وفيما كنت في الطريق، وقد اقتربتُ من دمشقَ، حدثَ نحو الظُّهر، أنِ التمع حولي بغتةً نورٌ من السَّماء عظيم. فسقطتُ على الأرض وسمعتُ صوتاً يقول لي: شاول! شاول! لمَِ تضّطهدُني؟ فأجبتُ: من أنت يا سيّدي؟ فقال لي: أنا يسوع النَّاصريّ، الذي أنت تضّطهدَهُ. وقد رأى الذين كانوا معي النُّور، ولكنّهم لم يتبيّنوا صوت الذي يُكلِّمني. فقلتُ: ماذا عليَّ أن أفعل يا سيّدي؟ فقال لي السَّيّد: إنهضْ وأْتِ دمشق، فهناك يُقالُ لك ما رُسِم لك أن تفعل. وإذ بِتُّ لا أُبصِر لِشدّة ذلك النُّور الباهر، جئتُ دمشق، يقودني بيدي أولئك الذين كانوا معي. وكان هناك رجلٌ اسمه حننيا، وهو رجلٌ تقيٌّ محافظٌ على الشَّريعة، يشهدُ له جميع اليهود المستوطنين بدمشق، جاءني ودنا مني وقال لي: يا شاول، أخي، أَبْصِر! فأبصرتُ في تلك اللَّحظة بالذَّات، ونظرتُ إليه. فقال: إنّ إله آبائنا، قد سبق فاختارك لتعرف مشيئته، وترى البارّ، وتسمع كلام فمه، لأنّك ستكون شاهداً له، لدى جميع النّاس، بما رأيت وبما سمعتَ. فلماذا تتريّثْ؟ قمْ فاعتمدْ، وانضح خطاياك بدعوتك اسمَهُ. و لمّا رجعتُ إلى أورشليم، وكنتُ ذات يومٍ أصلّي في الهيكل، وقع لي انجذابٌ، فرأيتُ الرَّبّ يقول لي: أسرِع، أُخرج عاجلاً من أورشليم، لأنّهم لن يقبلوا شهادتك لي. فقلتُ: أيُّها الرَّبّ، إنّهم يعلمون أنّي كنتُ أَعتقل في السُّجون، وأضربُ بالعصيّ في المجامع، أولئك الذين آمنوا بك. وحين سُفِكَ دم شهيدك استفانوس، كنتُ حاضراً أنا أيضاً، وكنت مؤيِّداً لقاتليه، وحافظاً ثيابَهم. حينئذٍ قال لي: إذهب، فإنّي إلى البعيد، إلى الأمم، أنا مُرسِلُكَ". (أعمال الرُّسل 22 : 1 - 22).
ويُعدِّد بولس ويروي بشغفٍ وشُكر، حادثة دمشق، في دفاعه عن ذاته، أمام الملك أغريباس، في الفصل السّادس والعشرين من أعمال الرُّسل (26: 1 - 23) وهنا أوَدُّ أن أسرُدَ النَّصَّ كاملاً:
"فقال أغريبا لبولس: "لكَ أن تُدافع عن نفسِكَ". حينئذٍ بسط بولس يده ولَفَظ َبدفاعه، قال: "إنّي أحسب نفسي سعيداً أيّها الملك أغريبا، لأنّي أدافع اليوم عن نفسي بين يديك، وأردُّ على كلِّ ما يشكوني به اليهود. ولاسيّما، وإنّك خير من يعلم، ما لليهود من سُنَن ومشاحنات. فلذلك أرجو أن تُصغي إليّ بسِعَةِ صدرٍ.
"إنّ سيرتي، منذ حداثتي الأولى، يعرفها جميع اليهود، إذ قد عشتها في وسط أمّتي في أورشليم. فهم يعرفون، من عهدٍ بعيد، ويمكنهم أن يشهدوا لي – أللَّهمَّ إذا أرادوا – أنّي قد عشتُ فرِيسيّاً طبقاً لأضيق مذهبٍ في ديننا. وإذا كنتُ اليوم أُقاضَى، فإنّما في أنّي أرجو الوعد، الذي صار من الله لآبائنا، والذي يرجو أسباطُنا الاثنا عشر تحقيقَه، بالمثابرة على التعبُّدِ ليل نهار. فبهذا الرَّجاء شكاني اليهود، أيُّها الملك. ماذا، أتَعُدّونَ أمراً لا يُصدَّق، أنّ الله يُقيم الأموات؟
"وأمّا أنا، قكنتُ قد اعتقدتُ من الواجب عليَّ، أن أقاوم بكلِّ وسيلةٍ اسم يسوع النّاصري. ذلك ما فعلته في أورشليم: فإنّي بقوّة التفويض الذي تلقّيته من رؤساء الكهنة، قد اعتقلتُ، أنا بنفسي، في السُّجون، كثيراً من القدِّيسين، وكنتُ من الموافقين على قتلهم. وكثيراً ما سمتهم ألوان العذاب، في كلّ المجامع، لإكراهِهِم على الكُفر. ولشدّة حنقي عليهم، كنتُ أتعقَّبُهم حتّى في المدن الغريبة".
"ففي هذا الغرض انطلقتُ إلى دمشق، ولي من رؤساء الكهنة سلطانٌ وتفويض. وفيما أنا في الطَّريق، أيُّها الملك، أبصرتُ في منتصف النّهار، نوراً من السَّماء، يفوق الشَّمس بلمعانه، قد سطع حولي وحول السَّائرين معي. فسقطنا جميعُنا على الأرض، وسمعتُ صوتاً يقول لي باللُّغة العبريّة: شاول، شاول،لِمَ تضَّطهدُني؟ إنّه لصعْبٌ عليك أن ترفُسَ المناخسَ! فقلتُ: من أنتَ، يا سيّدي؟ فقال يسوع: أنا الذي أنتَ تضَّطهدُهُ. ولكن انهضْ، وقُمْ، وقِفْ على قدمَيك. فإنّي لهذا تراءيتُ لَكَ: لأُقيمَكَ خادِماً وشاهداً لهذا الذي رأيت، ولمِا سأتراءى لكَ فيه. وإنّي لمَنقِذُكَ من الشَّعب، ومن الأمم الذين أنا مُرسِلُكَ إليهم، لتفتح عيونهم، فيرتدّوا من الظُّلمة إلى النُّور، ومن سلطان الشَّيطان إلى الله، وينالوا بالإيمان بي مغفرة الخطايا، وميراثاً مع القدِّيسين.
"ومنذئذٍ، أيُّها الملك أغريبا، لم أُعانِد الرُّؤيا السَّماويّة، بل وعظتُ الذين في دمشق أوّلاً، ثمّ الذين في أورشليم، وفي جميع رُقعة اليهوديّة، ثمَّ الأمم، بأنّ عليهم أن يتوبوا إلى الله، وأن يعملوا أعمالاً خليقةً بهذه التّوبة. من أجل ذلك، قبض اليهود عليّ في الهيكل، وحاولوا أن يُمزِّقوني. غير أنّ الله كان بعوني، فما برحتُ إلى اليوم أشهد على وجه الصِّغار والكبار، لا أقول إلاّ ما قال بوقوعه الأنبياءُ وموسى، أي أنّ المسيح سيتألَّم، وأنّه أوّل من يقوم من الأموات، ويُبشِّرُ بالنُّور الشَّعب والأمم000" (أعمال الرُّسل 26 : 1- 23).
خبرة دمشق في رسائل بولس
ويروي بولس تفاصيل رؤياه على طريق دمشق، في رسائله، وقد غيّر اسمه من شاول العبريّ، إلى بولس الاسم اليوناني (أعمال الرُّسل 13: 9).
في الرِّسالة الأولى إلى أهل كورنثس، يذكر بداية بشارته بالإنجيل، وهي مرتكزة على علاقته بالمسيح القائم من بين الأموات، وعلى ظهورات المسيح للرُّسل. وله أيضاً: "وأنّه تراءى لكيفا ثمَّ للإثنَي عشر، ثمّ تراءى لأكثر من خمسمائة أخٍ معاً - أكثرهم باقٍ حتّى الآن. وبعضهم رقدوا. ثمَّ تراءى ليعقوب، ثمَّ لجميع الرُّسل. وآخر الكلّ، تراءى لي أنا أيضاً، على طريق دمشق، كأنّما للسِّقط".
" أجل إنّي لأَصغر الرُّسل، بل لستُ أهلاً لأن أُدعى رسولاً، بما أنّني اضَّطهدتُ كنيسة الله. إنّما بنعمةِ الله قد صِرتُ ما أنا عليه، ونعمتَهُ التي أُوتيتُها لم تكن باطلة؛ لا، بل أنا تعبتُ أكثر منهم جميعاً؛ ولكن، لا أنا، بل نعمة الله التي معي" (1كور 15 : 5 -10).
والجدير بالذِّكر أنَّ المكان الوحيد الذي ظهر فيه المسيح بعد قيامته من الأموات، بعد العنصرة، وخارج الأرض المقدَّسة، هو سوريا، وعلى أبواب دمشق. وهكذا إِذْ نُكرِّمُ مقام بولس الرَّسول، فنكرِّمُ المسيح الذي ظهر له كما نكرِّمُهُ هو.
في الرِّسالة الثّانية إلى أهل كورنثوس: "يعلم ربّنا يسوع المسيح المبارك إلى الدُّهور أنَّني لا أكذب. إنَّ الوالي الملك الحارث بدمشق، كان يحرس مدينة الدِّمشقيّين بقصد القبض عليّ. فدُلِّيتُ في زنبيلٍ من نافذةِ النُّور، ونجوتُ من يدَيه" (2كور 11: 30 – 33).
وفي مطلع رسالته إلى أهل غلاطية (عام 53-57) يذكر بولس من جديد، خبرة دمشق في معرض دفاعه عن أصالة رسالته المرتكزة، على لقائه الشخصيّ الفريد مع المسيح: "إنّي أُعلِنُ لكم أيُّها الإخوة، أنّ الإنجيل الذي بُشِّر به على يديّ، ليس هو إنجيل بشر، لأنّي لم أتسلًّّمه وتعلّمته من إنسان، بل بوحي يسوع المسيح. لا جَرَمَ أنّكم سمعتم بسيرتي قديماً في مِلّةِ اليهود. كيف كنت أضَّطهدُ بإفراطٍ كنيسة المسيح وأُدمِّرُها، وكيف كنت أفوق في الملّة اليهوديّة، كثيرين من أترابي في أُمَّتي. إِذْ كنتُ أنحاز بإفراطٍ على سُنَنِ آبائي. فلما ارتضى الله الذي فرزني من جوف أُمّي، ودعاني بنعمته، أن يُعلن ابنه فيّ، لأُبشِّرَ به بين الأُمم، للوقت لم أُصغِ إلى اللَّحمِ والدَّم. ولا صعدتُ إلى أورشليم إلى الذين هم رسلٌ قبلي. بل سرْتُ إلى ديار العرب. ثم رجِعتُ إلى دمشق. وبعد ثلاث سنواتٍ، صعدتُ إلى أورشليم لأزور كيفا، وأقمتُ عنده خمسة عشر يوماً، ولم أرَ غيره من الرُّسل سوى يعقوب أخي الرَّبّ. وما أكتب به إليكم، فها أناذا أشهد أمام الله، أنّي لا أكذب فيه. ثم جئتُ إلى أقاليم سوريا وكيليكية، وكنت مجهولاً بالوجه لدى كنائس اليهوديّة التي في المسيح. بَيدَ أنَّهم كانوا يسمعون: "أنَّ من كان يضَّطهدُنا قبلاً، يبشّر الآن بالإيمان الذي سعى قبلاً لتدميره... فكانوا يمجّدون الله فيَّ". (غلاطية 1 : 11 – 24).
وفي الرِّسالة إلى أهل أفسس (عام 61-62) يُشير إلى الطَّريقة الفريدة، التي من خلالها أصبح رسولاً، بالرُّغمِ من أنّه لم يكن تلميذاً من تلاميذ المسيح، ولم يعِشْ معه في حياته الأرضيّة في فلسطين، فيقول: "إنّكم قد سمعتم ولا شكّ، كيف قسم لي الله النِّعمة التي أُعطيتُها لأجلكم. فإنّي بوحيٍ أُوتيتُ معرفة سرِّه على حدّ ما كتبتُ قبلاً بإيجاز. فيمكنكم إذا ما قرأتموني، أن تُدرِكوا ما هو فهمي لسرّ المسيح000 أجل لي أنا أصغر أصاغر القدِّيسين جميعاً، قد أُعطيت هذه النِّعمة: أن أبشّر في الأمم بغنى المسيح الذي لا يستقصى، وأُوضح ما تدبير هذا السر المكتوم منذ الدهور في الله الخالق كلّ شيء" (أفسس 3 : 2 – 9).
وفي الرِّسالة إلى أهل فيليبّي يذكر أيضاً انتقاله من الشَّريعة، ومن الختان اليهوديّ، إلى الحياة في المسيح: "لقد خُتِنتُ في اليوم الثّامن وأنا من ذُريّة إسرائيل. من سِبْطِ بنيامين، عبرانيٌّ من العبرانيّين ومن جهّة الناموس فرّيسيّ. ومن جهة الغيرة مضَّطهدُ الكنيسة، ومن جهة برّ الناموس بغير لوم. بيد أنّ هذه الأشياء التي كانت لي ربحاً، فقد عددتها خسراناً من أجل المسيح. بل أعدُّ كلّ شيء خسراناً إزاء هذا الرِّبح الفائق: معرفة المسيح يسوع ربّي، الذي لأجله خسرتُ كلَّ شيء، وفي كلِّ شيء لا أرى سوى أقذارٍ، حتى أربح المسيح000 ولا أعني أنّي أصبتُ الهدف أو بلغتُ إلى الكمال، إنّما أواصل السَّعي لعلّي أُدرِكُ المسيح يسوع، لأنّه هو قد أدركني ( على طريق دمشق!!!) 000إنّما أجتهدُ في أمرٍ واحد: أن أنسى ما ورائي وأمتدّ إلى ما أمامي". ( فيليبي 3 : 5 – 13 ).
وفي الرِّسالة إلى أهل كولوسي (عام 61-62) يُشير بنوعٍ عامّ إلى خبرة دمشق، بعباراتٍ مشابهة لما ورد في الرِّسالة إلى أفسس وإلى أهل غلاطية. فيدعو لأجل المؤمنين في كولوسّي: "أن تستمرّوا مؤسَّسين على الإيمان، راسخين غير متزعزين على رجاء الإنجيل الذي سمعتموه منّي، وكرز به لكلّ خلقٍ تحت السَّماء، وصرتُ أنا بولس خادماً له. وإني لأفرح في الآلام التي أُقاسيها لأجلكم، وأُتمّ في جسدي ما ينقص من مضايق المسيح لأجل جسده الذي هو الكنيسة، التي صرتُ لها خادماً على مقتضى تدبير الله، الذي نُدِبتُ إليه لأبشّر في ما بينكم، بكلمة الله كاملة، بالسِّرِّ الذي كان مكتوماً منذ الدُّهور والأجيال، وأُعلنَ الآن لقدِّيسيه000 ففي ذلك أتعب وأُجاهِد على حسب قوّته (المسيح) العاملة فيَّ بقدرة" (كولوسي 1: 23 – 29).
وفي رسالته الأولى إلى تيموثاوس (عام 64) "الابن الحقيقي في الإيمان" (1 : 2) يشكر الله أنّه اؤتمن على إنجيل مجد الله السَّعيد" (1 : 11). فيقول متذكِّراً مرحلة ما قبل خبرة دمشق "وأشكر المسيح يسوع ربّنا الذي قوّاني، إذ إنّه عدّني أميناً فنصبني للخدمة. أنا الذي كنت من قبل مجدِّفاً ومضَّطهِداً وشاتِماً. غير أنّي رُحِمتُ إِذْ فعلتُ ذلك عن جهل، وحين لم أكن مؤمِناً، فتزايدَتْ فيَّ نعمةُ ربِّنا بوفرة، مع الإيمان والمحبّة التي في المسيح يسوع. وما أصدق القول وما أجدره بكلِّ قبول: إنّ المسيح يسوع قد أتى إلى العالم ليخلِّص الخطأة الذين أوَّلهُم أنا. ولئن كنتُ قد رُحِمت، فلكي يُظهرَ يسوعُ المسيح فيَّ أنا أوّلاً، كلَّ أناته، مثالاً للذين سيؤمنون به ابتغاء الحياة الأبديّة. فلملك الدُّهور الذي لا يُدركه فسادٌ ولا يُرى، لله الأوحد الكرامة والمجد إلى الدُّهور. آمين" (1تيموتاوس 1 : 12 – 17).
وفي الرِّسالة إلى الرُّومانيّين (عام 53-57) إشارةٌ بعيدةٌ إلى التّحوُّلِ الذي جرى لبولس على طريق دمشق، حيث يكتب إلى أهل روما، بشأن موقف الله من رفض اليهود رسالة المسيح، فيقول: "فأقول إذن: أو يكون الله قد نبذ شعبه؟ كلاّ! وحاشى! فإنّي أنا أيضاً إسرائيليٌّ من ذُرّيّة إبراهيم وسِبْطِ بنيامين. لا! لم ينبذْ الله شعبه الذي سبق فميّزه" (رومانيّون 11 : 1- 2).
ولاحقاً يُضيف: "فإنّي أقول لكم أيُّها الأُمم، إنّي بوصفي رسولاً للأُمم، أُعزِّزُ خدمتي لعلّي أُغيرُ الذين من لحمي، وأُخلِّصُ بعضاً منهم" (رومانيّون 11 : 13 – 14).
إقامة بولس (شاول) في سوريا (عام 35-38)
إنَّ "المشوار" البولسيّ الرُّوحيّ، الذي قُمنا به في مراتع سفر أعمال الرُّسل، ورسائل بولس الرَّسول، أظهر لنا أهميّة خبرة دمشق في حياة بولس وخدمته "الإنجيليّة". ولذا فقبلَ أن نقوم "بالمشوار" الثّاني ونكتشف كلَّ أبعاد شعار بولس الرّوحيّ "الحياة لي هي المسيح"، من خلال رسائله، نُريد أن نلقي الضوء على إقامة بولس في منطقتنا، في بلدنا سوريا، وفي دمشق، وفي حوران، أو ما دعاه الرُّومان "العربيّة" أو "الإقليم الرُّوماني العربي"، وما أطلق عليه بولس عبارة "ذهبتُ إلى بلاد العرب" (غلاطية 17:1) هذه العبارة تعني اليوم جغرافيّاً، المنطقة الممتدّة إلى جنوب دمشق، وحتّى الحدود الحاليّة مع الأردنّ، وكان يسكنها الأنباط، وهم قبائل آراميّة بدويّة وعربيّة.
أقام بولس بعد هدايته في دمشق وفي العربيّة ثلاث سنوات، حسبما يؤكِّد هو نفسه في رسالته إلى أهل غلاطية ويقول: "سرتُ إلى بلاد العرب، ثم رجعتُ إلى دمشق، وبعد ثلاث سنواتٍ، صعدتُ إلى أورشليم" (غلاطية 1 : 17 – 18).
وهذا يعني أنّ بولس اعتمد عن يد حنانيا عام 36 ميلاديّة. ويروي لنا لوقا الرَّسول في سفر أعمال الرُّسل نشاط بولس الرَّسولي في دمشق. "وتناول طعاماً فتشدّد. ومكث بضعة أيّام مع التّلاميذ الذين في دمشق. ثمّ ما عتّم أن بدأ يُنادي في المجامع بأنّ يسوع هو ابن الله. فذهِل جميع الذين سمعوه وقالوا: "أما هو ذاك الذي كان يُبيدّ الدّاعين بهذا الاسم في أورشليم؟ أوَلَمْ يأتي إلى ههنا ليسوقهم في السّلاسل إلى رؤساء الكهنة؟". وأمّا شاول فكان يزداد قوّة، ويُفحم اليهود المُقيمين في دمشق مبرهِناً أنّ يسوع هو المسيح. وبعد أيّام غير قليلة، ائتمر أولئك اليهود لكي يقتلوه. فعلِمَ شاول بمكيدتهم. وكانوا يرصدون الأبواب نهاراً ليلاً ليوقعوا به، فأخذه تلاميذُهُ ليلاً ودلّوه من السُّور في سلٍّ" (أعمال الرسل 9 : 19 – 25).
لا نعرف بالتَّدقيق التّفاصيل حول إقامة بولس ثلاث سنوات في المنطقة: "يبشِّر في المجامع ويُجاهر في دمشق باسم يسوع" ( أعمال الرُّسل 9: 27)، ومتى بدأ يبشّر في المجامع، ومتى هرَّبَهُ التّلاميذ ليلاً وإلى أين ذهب وأين أقام، ومتى رجع إلى دمشق، وكم من الوقت أقام فيها من هذه السَّنوات الثّلاثة المذكورة في رسالته إلى أهل غلاطية.
من المؤكَّد أنّ بولس كان من جهة على اتّصال دائم بالجماعة المسيحيّة الأولى في دمشق، وهم من أصلٍ يهودي. ولا شكّ أنّه عاش مع الأنباط أو البدو، على الأغلب في بلدة مسمية حاليّاً في حوران، ومع القبائل (العربيّة) التي كانت تعيش في المنطقة. ولا شكّ أنّه قاسمهم حياتهم وعمل بمهنته "الحياكة"، وهي مهنة مُهمّة، بسبب سكن النّاس تحت الخيام في تلك المنطقة. ولكنَّه كان ولا شكّ يتفرّغ للتّأمُّل والتمعُّن في أسفار التّوراة، التي كان على الأغلب يعرفها عن ظهر قلبه، يكتشفها برؤيةٍ جديدة.
وهكذا عاش بولس مثل الأنبياء، في صحراء العربيّة. وهو مثلهم، تلميذٌ في مدرسة السُّكوت والخلوة والإصغاء والسَّكينة، يسمع ما ينطق فيه الرَّبُّ الإله: يقوم بمراجعة عامّة للعهد القديم، ولثقافته الشُّموليّة اليهوديّة الفرّيسيّة العبريّة الآراميّة السَّامية، واللاتينيّة الرُّومانية واليونانيّة الإغريقيّة (وربّما العربيّة؟)000
يستعيد كلّ هذه الحضارات والثّقافات والأسفار المقدّسة بخاصّة، بعيونٍ جديدة. وكان قد فقَدَ البصر على أبواب دمشق، واستعاد بصره بعد المعموديّة التي قام بها أسقف دمشق القدِّيس حنانيا، حيث خاطبه بهذه العظة الاستعداديّة للمعموديّة، التي أوردها لوقا الرَّسول: "وانطلق حنانيا ودخل بيت يهوذا الواقع في الزُّقاق المستقيم". أو بالحريّ الشَّارع المستقيم. وكان أهمّ شوارع دمشق القديمة، عرضه 26 متراً، وطوله حوالي الكيلومتر ونصف. "ووضع يدَيه على شاول وقال: شاول أخي إنّ الرَّبَّ يسوع الذي تراءى لك في الطريق التي جئتَ منها، قد أرسلني إليك لكي تُبصر وتمتلئ من الرُّوح القدس. فوقع للوقت من عينيه شيءٌ كأنَّه قشور وعاد إليه البصر. وقام واعتمد. وتناول طعاماً وتشدّد" (أعمال الرُّسل 9: 17 – 19).
مسيرة الأنبياء ومسيرة بولس
مسيرة بولس تُشبه مسيرة الأنبياء في العهد القديم: الوحي يأتيهم في البرّيّة على أعالي الجبال، في السَّكينة، ويأتيهم بوحيٍ مباشر، فتأتي كلمات الوحي على لوحات قلوبهم، ويأكلونها فتُصبح في فمهم أحلى من العسل، وتدخل في جوفهم، أو بالحريّ في قلبهم وضميرهم، فتُصبح هم ويُصبحون هي!
وهكذا نفهم كيف اكتشف بولس _ شاول المسيح، وتعاليمه وإنجيله، بدون كتب أو ورَيقات (ولم يكن قد كُتِبَ أيُّ إنجيلٍ بعد) وبدون اتصالٍ بالرُّسل الذين كانوا قبله (ولا صعدتُ إلى أورشليم إلى الذين هم رسلٌ قبلي). "لا بل كان التلاميذ كلُّهم يخافونه غير مصدّقين أنّه تلميذ" (أعمال الرسل 26:9). وقد كشف لنا هو نفسه كيف اكتشف تعاليم الإنجيل المقدّس كما ذكرنا سابقاً "لم أتسلّمه ولا تعلّمته من إنسان، بل بوحي يسوع المسيح" ( غلاطية 12:1).
لم يكن بولس مُلحداً، بلا إيمان أو بلا ناموس، أو مستهتراً بالشّريعة الموسويّة. وبالعكس هو نفسه يعطينا نبذةً عن مسيرته الفكريّة والدّينيّة كما ذكرنا آنفاً (أعمال الرُّسل 34:5 و 22: 3 – 4). وفي موقعٍ آخر يقول أيضاً: "إنّ سيرتي منذ حداثتي الأولى يعرفها جميع اليهود، إذ قد عشتها في وسط أمّتي في أورشليم. فهم يعرفون، من عهدٍ بعيد، ويمكنهم أن يشهدوا لي- أللّهم إذا أرادوا – أنّي قد عشت فرّيسيّاً طبقاً لأضيق مذهبٍ في ديننا، أعني المذهب الفرّيسي المتشدّد حتى الإفراط في حفظ الشّريعة" (أعمال الرُّسل 26: 4- 7)، وهو المذهب الذي كانت ليسوع مناظراتٌ كثيرةٌ معه.
إذاً بولس مؤمن وبقناعةٍ ما بعدها قناعة. وبقي أميناً لقناعته اليهوديّة الأولى، والتي سلّط عليها يسوع النُّور الذي يُنير كلَّ إنسانٍ آتٍ إلى العالم، وهو النُّور المنجلي للأمم، والمجد لشعب اسرائيل (يوحنا الفصل الأوّل ولوقا 2: 30 – 32).
وهكذا تعانقت في بولس أسفار العهد القديم مع كمالها في الإنجيل المقدَّس، العهد الجديد في المسيح يسوع. وتعانقت رؤى الآباء والأنبياء، مع رؤية بولس ليسوع على طريق دمشق. تعانقت الرؤيتان، لا بل كلُّ الرُّؤى والإيحاءات والكلمات، ذلك أنّ الذي أوحاها هو الإله الواحد، كما قال بولس في رسالته إلى العبرانيّين: "إنّ الله بعد أن كلّم الآباء قديماً بالأنبياء مراراً عديدة، وبشتَّى الطُّرق، كلّمنا نحن في هذه الأيَّام الأخيرة، بالابن الذي جعله وارثاً لكلِّ شيء، وبه أنشأ العالم الذي هو ضياء مجده، وصورة جوهره، وحاملٌ كلّ شيء بكلمة قدرته" (عبرانيّون 1 : 1 – 3).
هذا هو الجديد القديم الدّائم التّجدُّد والشَّاب والحيويّ: إنّه يسوع الطِّفل الجديد، والإله الذي قبل الدُّهور! إنّه من نسل داوود بحسب الجسد. ولكنّه "الكلمة الذي كان في البدء، وكان عند الله، وكان هو الله. إنّه في البدء مع الله. وبه كان كلُّ شيء. وبدونه لم يكوَّن شيءٌ ممّا كُوِّن. فيه كانت الحياة والحياة كانت نور النّاس. والنُّور يُضيءُ في الظُّلمة، والظُّلمة لم تُدركْه." ( يوحنّا 1 : 1 – 4).
أجل إنّ يسوع المسيح الإله والإنسان، حَطّم كلَّ الحواجز: حواجز التّاريخ والزَّمان والمكان والجغرافيا، والقوميّة والماضي والحاضر والمستقبل، والحواجز بين البشر، وبين اليهوديّ والوثنيّ، والذَّكر والأنثى، والجنس والعرق، والعبد والحرّ، والكبير والصغير، ليجعل البشريّة والإنسان واحداً، كما هو واحدٌ مع الآب والرُّوح القدس.
وبه تتصالح كلُّ الأمم والشعوب، والأحزاب والعقليّات والتّيارات وتتوحّد. "والآن، في المسيح يسوع، فأنتم الذين كانوا بعيدين قبلاً، قد صرتم قريبين بدم المسيح، لأنّه هو سلامُنا. هو الذي جعل الشعبَينِ واحداً (لا بل كلُّ الشعوب)، إذ نقض الحائط الحاجز بينهما أي العداوة، وأزال في جسده النّاموس مع وصاياه وأحكامه، ليُكوِّنَ في نفسه من الاثنين إنساناً واحداً جديداً، بإحلاله السَّلام بينهما، ويصالحهما مع الله." ( أفسس 2: 13 -16).
وتوحّدت في بولس وفكره ورؤيته وعواطفه وبشارته وإنجيله، كلُّ الرُّؤى والثَّقافات واللُّغات والحضارات (الرُّومانيّة واليونانيّة والعبريّة والسَّاميّة والآراميّة000)
بولس عشق المسيح مرّتَين: عَشِقَهُ بدون معرفته في التّوراة وأسفار الأنبياء، وعشِقَهُ مرّةً ثانية على طريق دمشق، بعد خبرة رؤيته المسيح القائم من بين الأموات، وقد "اصطفاه من بطن أمِّهِ، ودعاه بنعمته". ( غلاطية 1: 15).
بولس يجمع في ذاته وحياته وتعاليمه وخبرته الرُّوحيّة، ما ورد في مطلع إنجيل القدِّيس يوحنّا: "أجل من ملئه كلّنا أخذنا نعمةً بدل نعمة: ذلك لأنّ الشَّريعة أُعطيَتْ على يدِ موسى. وأمَّا النِّعمة والحقّ فبيسوع المسيح حصلا." ( يوحنّا 1: 16 – 17).
بولس يوحِّد بين العهدَين: القديم والجديد
إنّ الآية التي تتصدّر هذه الرِّسالة: "الحياة لي هي المسيح" تعني أنَّ المسيح هو الكلّ بالكلّ، وأنّ شخصيّة المسيح هي الموقع الأوّل والمركزي والوسطي، في مجمل وحي الله للبشر، وعهد الله مع البشر في شِقَّيه، في أسفار العهد القديم والعهد الجديد.
وهذا ما قاله بولس الرَّسول : "المسيح لم يكن فيه نعم ولا. بل كان دائماً نعم" (2كور 20:1) وقال أيضاً: "المسيح هو هو أمسِ واليومَ وإلى الدُّهور" (عبرانيّون 8:13)، وهذا يعني أنّ عهد الله مع البشر ووحيه لهم هو واحد، لأنّ مصدر العهد والوحي واحد، وهو الله الواحد. وما نسمّيه وندعوه بالعهد القديم والعهد الجديد هو أمرٌ واحد، متحدِّرٌ من مصدرٍ واحد، هو الله الذي أوحى بكلمته الإلهيّة، وثبّتَ كلامه بعهد محبّته للبشر، وأمانته نحوهم.
فالعهدان هما واحد. بحيث أنَّ كلَّ ما ورد في ما ندعوه العهد القديم، من أحداث وأعمال وأقوال وتعاليم، تتحقّق بحُلّة جديدة، ومعنىً جديد، ورؤية جديدة كاملة، في شخص يسوع المسيح. فالعهد هو المسيح والوحي هو المسيح. ويقول الله على لسان حزقيال النبيّ: "هاءنذا أصنع كلَّ شيء جديداً " والعهد القديم يصبح كلام يسوع في تأسيس سرّ الافخارستيا في العشاء السِّرّي: "هذه هي الكأس العهد الجديد بدمي". (متّى 26: 28).
وهذا ما نتحقّقه من قراءة وتحليل خطابات ومواعظ الرُّسُل الأوّلين في أعمال الرُّسل: خطاب بطرس واستفانوس وفيلبُّس وبولس، وحتّى حديث يسوع يوم القيامة مع تلميذَيّ عمّاوس.
إنّنا لا نرى في هذه الخُطَب شيئاً من تعليم يسوع أو أمثاله أو عجائبه في الإنجيل المقدَّس. بل نرى هؤلاء الرُّسل يستعرضون تاريخ وأحداث العهد القديم في التّوراة، ويخلصون منها إلى الخلاص الذي تمَّ بيسوع المسيح. وكأنّي بهم يؤكِّدون ما قاله بولس الرَّسول: "لا أُريد أن أعرف بينكم إلاّ يسوع المسيح وإيّاه مصلوباً (1كور 2:2).
الرُّسُل يقرأون العهد القديم كيهودٍ مؤمنين أتقياء (أعمال 5:2) ، ويرَون فيه يسوع وحده. وهذا ما حدث أيضاً للرُّسل على جبل التجلّي، حيث تنتهي الرؤيا الجميلة بهذه العبارة : "ولم يعودوا يرون إلاّ يسوع وحده" (مرقس 8:9). واختفى موسى وإيليّا اللّذان كانا على الجبل مع يسوع! أو بالحريّ أصبح الرُّسل الثّلاثة يفهمون كلّ ما ورد بشأن موسى وإيليّا والأنبياء، من خلال شخص يسوع. هذا هو بالتّمام معنى شعار بولس "الحياة لي هي المسيح"، وهذا هو معنى مركزيّة شخص يسوع.
من هنا نفهم معنى الحوار الأوّل بين يسوع وشاول: "شاول! شاول! لِمَ تضّطهدُني؟ "فأجاب شاول: "من أنتَ ياربّ؟" ويجيب يسوع: "أنا يسوع الذي تضّطهده" مع أنّ شاول كان يضّطهد البشر واليهود والجماعة المسيحيّة الأولى في دمشق وسواها000
من هنا، نفهم أيضاً جواب يسوع الأخير، في حواره مع المرأة السّامريّة، التي بدأت تُجادِله في أمور الماسيّا، والعهد القديم، والصَّلاة في هذا الجبل أو ذاك000 وإذا بيسوع يُقاطعها ويحسم الأمر، ويُنهي الحوار بالجواب القاطع: "أنا هو! أنا الذي يُكلِّمُكِ" (يوحنّا 26:4).
وهكذا يحلّ يسوع محلّ الوحي ومحلّ الكتاب أوالسِّفر000 يسوع هو الكلمة ويسوع هو الشَّخص. ويسوع هو كلّ شيء! ولذا فإنّ تسميتنا بأنَّنا أهل الكتاب، هي تسميةٌ لا تفي بحقيقة إيماننا المسيحيّ، وبحقيقة وجود المسيح المركزيّ، في التّعبير عن إيماننا ومعتقداتنا، وعباداتنا وصلواتنا وخُلقيّاتنا، وكلّ نواحي ومظاهر وأحوال، وظروف حياتنا الدِّينيّة والمدنيّة، والاجتماعيّة والمهنيّة والسِّياسيّة000
فنحن أهل الكتاب أكثر بكثير مما تحتويه هذه العبارة. إذ الكتاب هو المسيح. وسنرى في تحليل رسائل بولس، أنّ المسيح هو "الكلّ في الكلّ".
كما أنّ عبارة "أهل الكتاب" في القرآن الكريم، تعني اليهود والنّصارى، الذين لديهم وحي وكتب مقدّسة، وفيها كلّ مقوّمات حياتهم، وكلّ ما يكفي لكي يحكموا في أمورهم، ويتصرّفوا في كلّ شيء حسب أحكام هذه الكتب المقدّسة. وهذا هو معنى الآية: "وليحكُم أهل الكتاب بما أنزل فيه". ومن هذا المنطلق القرآني، لا يجوز أن يفرض الإسلام الشّريعة الإسلاميّة على المسيحييّن.
وهكذا فالمؤمن المعتمد المسيحي، ينطلق من الكتاب المقدّس إلى يسوع، الذي هو موضوع الأسفار والكتب المقدّسة. وفيها يكتشف شخص يسوع، وتعاليمه المقدّسة التي هي له الطَّريق والحقُّ والحياة، والسبيل إلى الحياة الحقيقيّة في المسيح، ومع المسيح ولأجل المسيح، وفي المجتمع ولأجل المجتمع وبنائه، ولأجل القيام بكلّ الواجبات والالتزامات النّابعة من إيمانه بالمسيح. وهكذا تتمركزّ حياتنا المسيحيّة، ليس حول الكتاب، بل حول المسيح.
خبرة بولس من خلال رسائله
بعد هذه المسيرة مع بولس في الطّريق المستقيم، وعلى طرقات دمشق وحوران وسوريا، نريد أن نكون نحن اليوم في مدرسته، بعد أن كان هو في مدرسة المسيحيّين الأوَّلين في دمشق. وسنفتح رسائل بولس رسالة بعد رسالة، لكي نرى ونتحقَّق من خلالها، صدق قوله الذي هو عنوان رسالتنا الميلاديّة، وهو شعار بولس. وهكذا نتعلّم من بولس كيف نعيش سرَّ المسيح، فيكون المسيح لنا الحياة، كما كان لبولس، ويكون معنا فكر المسيح، كما كان لبولس، ونفهم مع بولس سرَّ المسيح، وتدبيره الخلاصيّ علينا، من خلال أحداث حياة بولس، وخبراته الرُّوحيّة التي تعكسها رسائله، وتعاليمه الرُّوحيّة للمؤمنين المسيحيّين الأوائل، الذين وجّه إليهم رسائله الرّائعة.
نتبع في شرح الرَّسائل حسب ورودها في أسفار العهد الجديد، وليس حسب ترتيبها استناداً إلى الأبحاث العلميّة الكتابيّة.
الرِّسالة إلى الرُّومانيّين
في الرِّسالة إلى الرُّومانيّين، نجد أجمل التّعابير وأبلغها، التي تشرح معنى شعار بولس "الحياة لي هي المسيح". ويكفي أن نترك بولس يتكلّم. وهذه ستكون طريقتنا في هذا الجزء من رسالتنا الميلاديّة. إنّها قراءة "يسوعيّة" "مسحانيّة" "مسيحيّة" في هذه الرّسائل. وفيها تبرز بجلاء، مركزيّة شخص يسوع المسيح، في حياة بولس وتعاليمه "وإنجيله"، ومعالجته لقضايا الجماعات المسيحيّة الأولى. كلّ شخص وكلّ شيء وأمر وقضية ومشكلة ومعتقد، ورأي وحُكم وتصرّف وفكر، وخلجة فؤاد وشعور وعاطفة000 كلّ ذلك مرتبط بالمسيح.
"بولس هو عبد يسوع المسيح، مفروز لإنجيل الله" (1:1) اسم بولس مرتبط باسم يسوع في كلّ رسائله. ويرد اسم يسوع أو المسيح 396 مرّة في هذه الرّسائل. بولس متخصِّص بيسوع. وهو متخرّج من جامعة يسوع وإنجيل يسوع. وبولس يعطي الصِّفة نفسها، لكلّ من يخاطبهم أو يعظهم أو يوجّههم: "أنتم مدعوّو يسوع المسيح" (6:1)، "أنتم أحبّاء الله" (7:1)، ولكم "إنجيل يسوع"(16:1) الدينونة بيسوع المسيح بالإنجيل (16:2)، "الفداء بيسوع المسيح" (1:5)، المصالحة مع الله بيسوع المسيح (11:5)، السِلم مع الله بيسوع المسيح (1:5)، النِّعمة توفَّرت بيسوع المسيح (15:5)، المؤمن يملك بالمسيح (17:5)، النِّعمة تملك بالبرِّ للحياة الأبديّة بيسوع المسيح (21:5)، الاعتماد بالمسيح نعتمد لموته ودفنه وقيامته (2:6)، نموت مع المسيح ونحيا أيضاً معه (8:6)، ونحن أحياء بيسوع المسيح (11:6)، وأنتم أُمتم للناموس بيسوع المسيح (4:7)، وهو ناموس روح الحياة في المسيح يسوع الذي أعتقني من ناموس الخطيئة (8:2)، ومن ليس فيه روح المسيح فهو ليس له (9:8)، وإن كان المسيح فيكم فالجسد ميت بسبب الخطيئة، أمّا الرُّوح فحياةٌ لأجل البرّ (10:8)، والذي أقام يسوع يحيي أجسادكم المائتة بروحه السّاكن فيكم (11:8)، ونحن وارثون بيسوع المسيح (8 : 17)، والمسيح مات لأجلنا وهو يشفع فينا (8 : 34).
ويأتي التّعبير الرائع عن الحياة في المسيح في هذه الآيات المشهورة: "فمن يفصلُنا عن محبّة المسيح: الشِّدَّة؟ أم الضِّيق؟ أم الاضّطهاد؟ أم الجوع؟ أم العري؟ أم الخطر؟ أم السَّيف؟ 000". ويجيب: "غير أننّا في هذه كلِّها نغلُب بالذي أحبَّنا. فإنّي لواثقٌ بأنّه لا موت ولا حياة، ولا ملائكة ولا رئاسات، ولا حاضر ولا مستقبل، ولا قوّات ولا علوّ ولا عمقٌ، ولا خليقةٌ أخرى أيّة كانت، تقدر أن تفصلنا عن محبّة الله التي في المسيح يسوع ربّنا" (8: 35 – 39).
هذه هي خبرة بولس الشّخصيّة. ولا يتكلّم عن شخصٍ آخر، بل هو هو نفسه قد وجد المسيح، وعاش خبرة المسيح، وبقي متّصلاً بالمسيح أميناً له، بالرُّغم من كلِّ هذه الضِّيقات والآلام التي يُعبِّر عنها في هذه الآيات.
ويتابع في الرِّسالة إلى الرُّومانيّين: غاية النّاموس هي المسيح (10 :4)، والبسوا الرَّبَّ يسوع المسيح (13 : 14). وهذه العبارة هي خاتمة مجموعة نصائح، ويزيد: "وليوءتِكُم إله الصَّبر والتَّعزية، اتفاق الآراء فيما بينكم بحسب المسيح يسوع000 (15 :5) واقبلوا بعضكم بعضاً كما قبلكم المسيح لمجد الله (15 :7) . والغاية من كلّ ذلك: لكي يتهيّأ لكم أن تمجِّدوا بنفسٍ واحدة، وفمٍ واحد، إله وأبا ربنا يسوع المسيح(6:15). ويأتي الدُّعاء الأخير: "وللقادر أن يُثبِّتَكُم في إنجيلي وفي بشارة يسوع المسيح، المجد بيسوع المسيح إلى دهر الدُّهور. آمين (16 : 25 – 27).
الرِّسالة الأولى إلى أهل كورنثس
في هذه الرِّسالة وهي من كبريات رسائل بولس، نرى كم حياة بولس مرتبطة بالمسيح: يؤكِّدُ بإلحاحٍ أنّه رسول مثل الرُّسل، بسبب ارتباطه بيسوع. ولا يقوم بخطوة إلاّ وتكون في علاقة مع المسيح. إنّه لا يعرف أحداً إلاّ في المسيح، ولا يتعلّم شيئاً إلاّ إذا كان يقود إلى المسيح.
في المطلع، وفي العشر الفقرات الأولى، يذكر عشر مرّات اسم يسوع. والاسم كما نعرف يعني الشَّخص. لأنّ كلَّ شيءٍ يتمّ ويتحقَّق باسم يسوع المسيح: النِّعمة والسَّلام والشَّهادة، والشُّكر والثّبات في الإيمان، والشِّركة والكرازة والحكمة والبرّ والقداسة، والعلاقة مع الآخر ومع المؤمنين، ومع غير المؤمنين، مع الفلسفة، ومع الفكر، مع العهد القديم وأحداثه، مع التّقليد المسيحي، والعلاقة بين الرَّجل والمرأة، والعلاقة بين المؤمنين بالمسيح في الكنيسة. وكذلك الإيمان، الرَّجاء، المحبّة، الجهاد، الآلام، الصَّليب، الموت، القيامة، الغلَبَة000 كلُّها في علاقةٍ وثيقة بالمسيح.
بولس مدعو بمشيئة الله ليكون رسولاً ليسوع المسيح (1: 1)، إلى المقدَّسين والمدعوّين بالمسيح (1: 2)، إلى شركة ابنه يسوع المسيح، وهو أمين (1 : 7 – 10).
موضوع كرازة بولس هو يسوع المصلوب (1: 23). الآخرون يكرزون بأنفسهم وبمن يريدون، أمّا بولس فموضوع افتخاره هو يسوع وصليبه، لأنّ المسيح هو الحكمة والبرُّ والقداسة والفداء(1: 30). ولذا فهو لا يعرف أحداً بين أهل كورنثس إلاّ يسوع المسيح وإيّاهُ مصلوباً (2 : 2) . فالرّابطة الحقيقيّة بين الرّاعي والرّعيّة، وبين الكاهن وأبناء رعيّته، هي المسيح، ومن خلال المسيح.
بولس يقبل الآخر والإنسان المصلوب والمتألِّم والمشكَّك في كورنثس، وكلّ إنسان فقط في المسيح، ويعرفه ويقبله رغم فقره وألمه، ومرضه وضعفه ونقائصه وعاهاته0000 الآخر أصبح بالنّسبة لبولس يسوع المسيح نفسه!
بولس لا يتّكل على ثقافته الواسعة، وعلى الفكر اليوناني الإغريقي، أو على علومه الكتابيّة على يد كبار علماء النّاموس. بولس عنده فكر المسيح! (2: 16). إنَّه خادم يسوع. إنَّه وكيل أسرار يسوع (4:1)، يبني، يزرع، يسقي عل أساس العلاقة بالمسيح (3 : 11)، لأنّ كلّ شيء لكم وأنتم للمسيح والمسيح لله (3 : 22 – 23).
هنا المبدأ يشرح تراتبيّة الأشياء وقيمتها، ورتبتها وأهميّتها في حياة المؤمن. لا أساس و لا قيمة ولا بناء000 إلاّ في المسيح!
وهذا ما خبره بولس في حياته الرَّسوليّة كما يصفها وما رافقها من آلام وإهانات وصعوبات واضّطهاد: لقد أبرزنا الله نحن الرُّسل آخري النّاس: محكومٌ عليهم _ مشهد للملائكة والبشر _ جُهّال _ ضعفاء _ مُهانون _ نجوع _ نعطش _ نعرى_ نُلطَم _ لا قرار لنا _ نتعب _ نُشتَم فنبارِك _ نُضّطَهد فنحتمل _ يُشنَّع علينا فنصلّي000 صرنا كأقذار العالم ورذالة الجميع حتى الآن ( 4 : 9 -13).
هذا وصف لحياة بولس الصَّعبة، في المسيح ولأجل المسيح. إنّها آلام تُشابه آلام المسيح. وكلّ هذه هي علائم مخاض بولس الذي هو لأجل أهل كورنثس، الأب والأم والمعلّم والخادم والوالد في المسيح.
ويطلب من أهل كورنثس أن يقتدوا به كما هو يقتدي بالمسيح. فيصبحون هياكل للمسيح، وأعضاءُ أجسادهم هي أعضاء المسيح (6 : 15 – 19). وعليهم أن يحترموها كاحترامهم للمسيح نفسه، ويمجِّدوا الله في هذه الأعضاء.
بشارة بولس موضوعها أوّلاً وآخراً المسيح. وهو يبشّر بإنجيل يسوع بدون منّةٍ ومجّاناً! الويل لي إن لم أبشّر! ويحتمل كل شيء ويخسر كلَّ الامتيازات لئلا يعوِّق إنجيل المسيح (9 : 12 – 18). يسعى ويجاهد ويصارع لأجل الإنجيل . ويصبح كلاًّ للكلّ لأجل الإنجيل: فهو مع اليهود يهوديّ، ومع الذين بلا ناموس بلا ناموس، ومع الضّعيف ضعيف، لا بل أصبح عبداً للجميع لأجل يسوع (9 : 19 – 23).
فالمسيح هو الصّخرة (10 : 4)، لا بل المسيح هو قراءة بولس لكلّ ما يعرفه من الثّقافة اليونانيّة، ومن التّوراة. كلّ رموز العهد القديم مرتبطة بالمسيح، ويشرحها من خلال إنجيل المسيح. كل ما حدث لليهود في تاريخهم، إنّما يُفهم من خلال يسوع، وكُتِبْ لموعظتنا (10 : 11).
لا بل علاقة البشر فيما بينهم مرتكزةٌ على المسيح. وهذا ينطبق على علاقة الرَّجل بالمرأة، والمرأة بالرَّجل. رأس المرأة هو الرَّجل، ورأس الرَّجل هو المسيح. ورأس المسيح هو الله (11 : 3). هذه هي الهرَميَّة الحقيقيّة، والتراتبيّة الأساسيّة بين النّاس وطبقاتهم وأحوالهم، التي تحفظ لكلِّ إنسانٍ كرامته وحقوقه وهويّته وفرادته. فلا عبوديّة ولا فوقيّة، ولا تعالٍ ولا تكبّرٍ، ولاتجبّر ولا ديكتاتورية000 وكلٌّ يأخذ كرامته ومقامه من خلال علاقته بالمسيح وبالله، الذي خلق كلَّ الناس على صورته ومثاله.
وينتقل بولس إلى الإفخارستيا التي هي الرِّباط الأساسي بالمسيح، لأنَّ الإفخارستيا هي المسيح: كأس البركة هي الشّركة بدم المسيح. والخبز هو شركة بجسد المسيح (10 : 16)، والمؤمنون المحتفلون بالعشاء السِّرّي وبسرِّ القربان المقدَّس يُصبحون واحداً في المسيح (11 : 23 – 28). لا بل يصبحون هم أنفسهم جسد المسيح، يتحوّلون إلى المسيح: أنتم جسد المسيح وأعضاء في هذا الجسد (12 : 27). وكلّ أعضاء الجسد مرتبطة فيما بينها. وكلُّ مواهب أعضاء هذا الجسد (أي الكنيسة) مرتبطة بالجسد وهي لخدمة كلّ الأعضاء! (الفصل 12) ومن هنا نفهم معنى الهرميّة في الكنيسة، في علاقة الرَّئيس بالمرؤوس، والمطران بكهنته والرَّئيس الرُّهباني برهبانه، والرَّئيسة العامّة براهباتها، وعلاقة البطريرك بالمطارنة والبابا، والرَّئيس الأعلى في الكنيسة، بالمطارنة وبكلّ المؤمنين. والتّرابط بين الأولويّة البطرسيّة والجماعيّة الأسقفيّة. إنَّ هذه التعاليم حول الجسد والأعضاء، هي في أساس مفهوم الوحدة المسيحيّة الكنسيّة، والسَّعي نحو الوحدة بين المسيحيّين. هذه هي علاقة الأعضاء والمواهب والخدمات والرُّتب في الكنيسة، جسد المسيح السِّرِّي. ومن هذا المنطلق ينطلق بولس إلى نشيد المحبّة (الفصل 13) التي هي الرّباط الأوَّل والأهم بين البشر، لأنَّهم أبناء الله الذي هو المحبّة.
هذان الفصلان 12 و 13 يؤسِّسان لكلّ مساعي الوحدة بين المسيحيّين. ولأنَّنا بعدُ جسديِّون ولأنَّنا لم نفهم هذه المحبّة، لا تزال مساعي العمل المسكوني، تتعثَّر بين الأوراق والمؤتمرات واللِّقاءات، والوثائق والزِّيارات والمجاملات والحوارات اللاّهوتيّة، والقبلات والصُّور والمقابلات الصّحفيّة والتّصريحات000 وهذا ما عبّر عنه المثلَّث الرَّحمة المطران الياس زغبي في كتابه: "كلُّنا منشقُّون!" لأنَّه ليس عندنا فكر المسيح، و لا عندنا فكر بولس رسول يسوع المسيح.
يا ليتنا في عام يوبيل القدِّيس بولس نفهم تعاليم بولس، ويكون لنا كما لبولس فكر المسيح. وإذ ذاك نُحقِّق الوحدة المسيحيّة التي يتشوَّق إليها كلُّ المسيحيّين. ولا أُغالي إذا قلتُ أنَّ الأقلَّ شوقاً إلى هذه الوحدة هم الرُّؤساء والرُّعاة000 بينما الرَّعيّة في عطشٍ وجوعٍ وشوقٍ ولهفةٍ إلى هذه الوحدة، كما أرادها يسوع لكي يؤمن العالم المحتاج إلى يسوع!
مختصر ما يحلو لبولس مراراً أنّ يسمّيه "إنجيله" ، هو ما تسلَّمه من الرَّبّ نفسه "موت المسيح والقبر والقيامة في اليوم الثّالث" (15 : 1 - 5) . ويذكر هنا كما ورد سابقاً خبرته الشَّخصيّة، في لقائه الشَّخصي مع المسيح القائم من بين الأموات.
فقيامة يسوع مركزيّة في بشارة بولس وجميع الرُّسل. ولهذا دُعيَ المسيحيّون الأوائل في شرقنا العزيز: "أبناء القيامة". وإذا لم يقُمْ المسيح، فكرازتنا إذن باطلة، وإيمانكم أيضاً باطل000 إن كان رجاؤنا في المسيح، في هذه الحياة فقط، فنحن أشقى النَّاس أجمعين" (15 : 19).
هذا الرَّجاء هو الذي يقوّي بولس الرَّسول في جهاده. ولهذا فإنَّه يموت كلَّ يوم لأجل يسوع (15 : 31). ولهذا، يحقّ لبولس أن يُنهي الفصل الأخير من رسالته بنشيد الغلبة: "أين غلبَتُكَ أيُّها الموت؟ أين شوكتُكَ أيُّها الموت؟ الشُّكر لله الذي يعطينا الغلبة بربِّنا يسوع المسيح" (15 : 54 – 57). الكلمة الأولى في هذه الرِّسالة هي المسيح. والكلمة الأخيرة هي أيضاً شهقةُ حبٍّ ليسوع، وتحدٍّ لكلٍّ إنسان: "إن كان أحدٌ لا يحبّ الرَّبَّ فليكن مُبسَلاً! "ماراناثا" نعمة الرَّبِّ يسوع معكم، محبَّتي معكم أجمعين في المسيح يسوع" (16 : 22 – 24).
الرِّسالة الثّانية إلى أهل كورنثس
المسيح في نظر بولس هو البداية والنهاية! هو الألف والياء! ولذا تبدأ رسالته بيسوع: من بولس رسول يسوع المسيح000 سلام من الرَّبِّ يسوع (1 : 1 – 2).
تتميّز هذه الرِّسالة بوصف مشاركة بولس بآلام يسوع "لأنَّه كما تفيض آلام المسيح فينا، كذلك تفيض أيضاً بالمسيح تعزيتنا" (1 : 5) ولكنَّه ثابتٌ بالرُّغم من الآلام وحتّى الموت (1 : 9 - 10) وثابتٌ في موقفه. وكلامه "ليس فيه نعم ولا! لأنّ المسيح ابن الله، لم يكن فيه إلاّ نعم" (1 : 18-19) .
بولس يسامح لأجل المسيح (2 : 1)، ويذهب ويسافر (2 : 12)، ويسير من ظفرٍ إلى ظفر في المسيح (2 : 14)، فهو نفحة المسيح الطّيِّبة (2 : 15)، وثقته في المصاعب لا حدّ لها (3 : 4)، وقدرته وكفايته في المسيح (4 : 4 – 6).
في هذه الرِّسالة (الفصول 5،4،3) يُظهر بولس شديد محبَّته للمسيح، وخبرته لحياة يسوع فيه، بالرَّغم من الآلام والصُّعوبات والمقاومات والأوجاع، والأمراض الجسديّة والرُّوحيّة والخيانات!
" لأنَّنا نحن الأحياء، نُسلَمُ دائماً إلى الموت، من أجل يسوع، لتظهر حياة يسوع في جسدنا المائت. فالموت إذاً يَعمل فينا والحياة فيكم" (4 : 10 – 12)، ولكنَّه لا ينحصر و لا ييأس ولا يخذل بالرُّغم من المضايقات والاضِّطهاد000 (4 : 8 – 9) "وإذا كان إنساننا الظَّاهر ينهدم، فإنساننا الباطن يتجدَّد يوماّ فيوماً" (4 : 16)، "لأنَّ محبَّة المسيح تحثُّنا" (5 : 14)، "ونحن في المسيح خليقةٌ جديدة" (5: 17)، ونحن سفراء المسيح (5 : 20)، "وخُدَّام المسيح بالصَّبر الكثير، في المضايق والشَّدائد والمشقَّات. تحت الضَّرب وفي السُّجون والاضطرابات، والأتعاب والأسهار والأصوام. بالطَّهارة والمعرفة وطول الأناة والرِّفق. بالرُّوح القدس، بالمحبّة الخالصة، بأسلحة البرّ عن اليمين وعن اليسار، في المجد والهوان، في سوء الصِّيت وحُسنِهِ. نُحسَبُ كأنَّنا مُضِلُّون ونحن صادقون. كأنَّنا مجهولون ونحن معروفون، كأنَّنا مائتون وها نحن أحياء، كأنَّنا مُؤدَّبون ولا نُقتَل، كأنَّنا حزانى ونحن دائماً فرِحون، كأنَّنا معوزون ونحن نُغني كثيرين، كأنَّنا لا شيئ ونحن نملك كلَّ شيء" (6 : 4 -10).
هذه هي خبرة بولس من حياته في المسيح يسوع! و لا شيء يهدُّ من عزيمته وحماسته، "لأنَّ أسلحة حربنا ليست بجسديّة، بل هي قادرة بالله على هدم الحصون. فنهدم السفسطات وكلّ علوٍّ يرتفع ضد معرفة الله. ونُسبي كلَّ بصيرةٍ إلى طاعة المسيح" (10 : 4 – 6).
ومن جديدٍ يصفُ بولس أتعابه الكثيرة في سبيل الحياة في المسيح: السُّجون – الجلد – أخطار الموت – الضَّرب بالعصي – الرَّجم بالحجارة – الغرق في البحر – الأسفار – السُّيول – اللُّصوص – أخطار من الإخوة الكذبة – التَّعب الكثير – الكدّ – الأسهار - الجوع – العطش – الأمواج – البرد والعُري000 الهرب من سور دمشق إلى البرّيّة000 (11 : 23 – 33).
لكنَّ يسوع يُشدِّد بولس ويقول له في هذه التَّجارب: "تكفيكَ نعمتي، لأنّ قوّتي في الضُّعف تكمل. فبكلِّ سرورٍ أفتخر بأوهاني لتستقرّ عليّ قوّة المسيح. أجل إنّي أُسَرُّ بالأوهان والإهانات والضِّيقات، والاضّطهادات والشَّدائد من أجل المسيح. لأنّي متى ضعفتُ فحينئذٍ أنا قويّ" (12 : 9-10).
هذه هي التَّحديات الكثيرة000 وهذه هي الخبرات الإيمانيّة، التي يعيشها بولس في رسائله، لكي يحيا في المسيح، ويحيا المسيح فيه.
الرِّسالة إلى أهل غلاطية
تبدأ الرِّسالة بهذا التأكيد، الذي لا يملّ بولس من ترداده. "إنَّه رسول يسوع المسيح، ليس رسولاً من قِبَلِ البشر، بل بيسوع المسيح" (1 : 1)، لا بل هو "عبد للمسيح" (1: 1). محتوى الإنجيل الذي حمله إلى أهل غلاطية، هو المسيح والمسيح القائم من بين الأموات (1 : 1)، ولا يمكن أن يكون هناك إنجيل آخر، لأنَّ الإنجيل هو هو، يسوع المسيح نفسه (1 : 6 -9). ولذلك فهو ليس إنجيل بشر، لأنَّ بولس لم يتسلَّمه، ولم يتعلَّمه من إنسانٍ، بل بوحي يسوع المسيح (1 : 11 – 12)، الذي ظهر له على طريق دمشق (1 : 13 -24)، وهو الذي برّره بالإيمان به (2 : 16 – 17).
وهنا يُطلِقُ بولس شعاره المحوري الحياتيّ: "إنّي قد صُلِبتُ مع المسيح. فلست أنا حيّاً بعد، بل هو، المسيح يحيا فيَّ. وإن كنت الآن أحيا في الجسد، فإنّي أحيا في الإيمان بابن الله، الذي أحبَّني وبذل نفسه عنّي" (2: 19 -20). لا بل يريد بولس أن يرسم هذه الصُّورة عينها في الغلاطيِّين: "من سحَرَكُم أيُّها الغلاطيّون الأغبياء، أنتم الذين رُسِم أمام عيونهم، يسوع المسيح مصلوباً (3 :1). لا بل إنّه يتمخّض كالأمِّ الوالدة "إلى أن يتصوَّر المسيح فيهم" (4 : 19). وكلُّ إنسانٍ يتعرف على المسيح يُصلب معه، "لأنَّ الذين هم للمسيح يسوع، صلبوا الجسد مع الأهواء والشَّهوات" (5 : 24). وفخر بولس هو صليب يسوع: "أمَّا أنا فحاشى لي أن أفتخر إلاّ بصليب ربنا يسوع المسيح، الذي به صُلِبَ العالمُ لي، وأنا صُلبت للعالم. لأنَّ الختان ليس بشيء و لا القلف، بل الخليقة الجديدة. فلا يُعَنِّني أحدٌ في ما بعد، لأنّي حاملٌ في جسدي سمات الرَّبِّ يسوع" (6 : 14 – 17).
المسيح هو لبولس حقّاً كلَّ شيء. وبه نال كلّ شيء وبيسوع يحصل الإنسان على الخلاص. لأنَّ الموعد أُعطيَ بالإيمان بيسوع المسيح (3 : 22)، والوسيطُ واحدٌ هو يسوع المسيح (3 : 20)، والنَّاموس يُرشد إلى المسيح (3 : 24). لا بل "نحن أبناء الله بالإيمان بيسوع المسيح. لأنَّكُم أنتم جميع الذين اعتمدوا للمسيح، قد لبستم المسيح. فليس يهوديٌّ ولا يونانيّ. ليس عبدٌ ولا حُرّ. ليس ذكرٌ ولا أنثى. لأنَّكُم جميعاً واحدٌ في المسيح يسوع" (3 : 26- 29).
بولس يريد أن يكون الجميع مثله: خليقةٌ جديدة في المسيح "يولدون بالمسيح من جديد، من فوق" (يوحنّا 3 : 5 – 8). هذا ما عبّر عنه الآباء القدِّيسون بعبارة التألُّه (Théosis ) مؤكِّدين: "أنَّ ابن الله أصبح إنساناً، لكي يُصبح الإنسانُ إلهاً".
وهكذا تصبح الوحدة مع المسيح غاية الحياة البشريّة. لا بل تُصبح الوحدة مع المسيح، أساس وحدة البشر وتضامنهم، وكرامتهم وعلاقاتهم في ما بينهم.
نعرف من التاريخ، أنَّ بولس استشهد في روما، وقُطِعَ رأسه (عام 67). ولكنَّه قبل استشهاده عاش "موسوماً" ( Stigmatisé ) بآلام المسيح. وهكذا يكون بولس الرَّسول، أوَّل من نعرف عنهم، أنَّهم حملوا سمات عذابات يسوع، كالقدِّيسة ريتّا، ومريم يسوع الآكوك، وفرنسيس الأسّيزي، وسواهم كثيرون000
حبُّ بولس ليسوع، قاده إلى أن يُصلَب حقّاً مع المسيح!
الرِّسالة إلى أهل أفسس
هذه الرِّسالة كتبها بولس، وهو في الأسر في روما (عام61-62). "إنَّه سفير يسوع في السَّلاسل" (6 : 20)، الرِّسالة مركّزة حقّاً على المسيح. مطلعها الرَّائع تأكيد على مركزيّة يسوع المسيح: "من بولس رسول يسوع المسيح بمشيئة الله". ويأتي ذكر المسيح ثماني مرّات في الفقرات الإثنا عشر ، حيث يصف بولس التدبير الخلاصي الذي تمّ في المسيح: يسوع أصل الخلاص. وبدء التدبير الخلاصي وأداته وغايته. يسوع هو رأس الكنيسة (1 : 3 -12)، والله أحيانا بالمسيح (2 : 5)، وأجلسنا مع المسيح (2 : 6)، لقد عشنا بدون المسيح، والآن نعيش في المسيح (2: 12)، كُنَّا بعيدين عن المسيح، والآن صرنا قريبين بالمسيح (2: 13). العالم كلّه صار واحداً في المسيح. الشُّعوب تصالحت واتّحدت في المسيح. المسيح سلامُنا، هو جعل الاثنين (الشَّعبَين) واحداً000 وأزال حائط العداوة000 وبشّر الجميع بالسَّلام000 (2 : 12 – 17).
يرفع بولس صلاة جميلة رائعة لأجل الأفسسيّين، لكي يكتشفوا سرَّ المسيح: "لذلك أحني ركبتي أمام الآب. الذي منه تنبثق كلّ أسرة في السَّماوات وعلى الأرض. ليهب لكم، على حسب غنى مجده، أن تتأيّدوا بقوّة روحه، في الإنسان الباطن، ليحلّ المسيح بالإيمان في قلوبكم. حتى إذا تأصَّلتُم في المحبّة وتأسّستُم فيها، تستطيعون مع جميع القدِّيسين، أن تُدركوا من محبّة المسيح، ما العرض والطُّول، والعلوُّ والعُمق. أن تدركوا تلك المحبَّة التي تفوق كلَّ إدراك. فتمتلئوا هكذا من كلِّ ملء الله" (3 : 14 – 19).
ويدعونا بولس إلى الوحدة، لأنَّ كلَّ شيءٍ في المسيح : الجسد واحد. الرُّوح واحد. الرَّبُّ واحد. الإيمان واحد. المعموديّة واحدة. الإله واحد. والآب واحد للجميع." (4 : 1 -6).
والمسيح الواحد يُفجّر العطايا، والمواهب في الكنيسة، لأجل خدمة المجتمع، ولأجل بنيان جسد المسيح، لكي يبلغ البشر كلُّهم، إلى معرفة يسوع ابن الله، إلى حالة الإنسان الواحد، إلى ملء قامة المسيح" (4 : 7 – 13).
النُّموُّ هو في المسيح (4 : 15)، كلّ ما نتعلّمه هو من المسيح وفي المسيح: "ما هكذا تعلّمتم المسيح" (4 : 20)، لا بل الحقيقة كلُّها هي في المسيح (4 : 21).
الرِّسالة إلى أفسس، هي مدرسة تطبيقيّة، للعيش في المسيح على مثال بولس. إنَّها وصفٌ للحياة الجديدة في المسيح (4 : 17 – 32 و5 و6). والقاعدة الذَّهبيّة، هي السُّلوك في المحبّة "سيروا في المحبّة" (5: 2)، وهذا هو شعارنا الكهنوتي (1959)، والأسقفي (1981)، والبطريركي (2000).
محبَّة المسيح تُنظِّم العلاقات في الكنيسة، في المجتمع، بين الرَّجُل والمرأة، في الحياة الرَّهبانيّة. وهنا نجد الفصل الذي نقرأه في الاحتفال بسرِّ الزَّواج المقدَّس (الإكليل) حيث نقرأ: "كونوا خاضعين بعضكم لبعض في مخافة المسيح! فأنتُنَّ أيّتها النِّساء إخضعن لرجالكُنَّ كما للرَّبّ. لأنَّ الرَّجُل هو رأسُ المرأة، كما أنَّ المسيح هو رأسُ الكنيسة000 وكما تخضع الكنيسةُ للمسيح، كذلك فلتخضع النِّساء لرجالهنَّ في كلِّ شيء. وأنتم أيُّها الرِّجال، أحبّوا نساءكم كما أحبَّ المسيح الكنيسة" (5 : 21 – 25) القاعدة الذَّهبيّة تجد تعبيرها الأسمى، في مركزيّة المسيح، وأولويَّته في حياة النَّاس، وفي علاقاتهم المتبادلة. وهذا ما يوصي به بولس، في التَّوجيهات التي يُعطيها، لتنظيم العلاقة في الأسرة، بين الأولاد والآباء والأمَّهات، وبين العبيد والأسياد، وبين كلِّ البشر" (6: 1 – 9).
وتنتهي الرِّسالة كما بدأت بالمسيح: "النِّعمة مع جميع الذين يُحبّون، ربَّنا يسوع المسيح، حُبّاً لا يعتريه فساد" (6 : 24).
الرِّسالة إلى أهل فيليبّي
هي أيضاً من رسائل الأَسِر (1 : 7 و 13- 14) (عام 61-62). وفي أسره وقُبيل استشهاده يذكر حادثة طريق دمشق (3 : 6 و 12). وينتظر يوم المسيح يسوع (1 : 6 و 10). ولكنّه فَرِحٌ "لأنَّ أحوالي قد آلت بالحريِّ إلى إنجاح الإنجيل (1 : 12 -13)، لأنَّ الأمر الأكثر أهميّة في حياة بولس، هو نشر إنجيل يسوع. ويريد من الجميع، أن ينشروا الإنجيل ويُبشِّروا به (1 : 15 -18)، لكي يُمجَّدَ المسيح في جسدي بالحياة أو بالموت، لأنَّ الحياة لي هي المسيح، والموت لي ربحٌ" (1 : 20 -21).
يدعو بولس أهل فيليبي، كما في كلِّ رسائله إلى الحياة في المسيح: "سيروا على ما يليق بإنجيل المسيح000 مُجاهدين لأجل إيمان الإنجيل (1 : 27)، "وليكن فيكم من الأخلاق ما هو في المسيح يسوع" (2 : 5). ثم يتوسَّع بولس في شرح عناصر الحياة في المسيح، في نصائح وتوجيهات روحيّة شاملة، فيها وصفٌ لحياة بولس نفسه في المسيح.
وما كان له ربحاً بالنسبة لعلومه وثقافته ونَسَبه اليهوديّ والرُّومانيّ000 يحسَبُهُ خُسراناً : "إنّ هذه الأشياء التي كانت لي ربحاً، قد عدَدتُها خُسراناً من أجل المسيح. لا بل أعُدُّ كلَّ شيءٍ خسراناً، إزاء هذا الرِّبح الفائق: معرفة يسوع المسيح ربّي، الذي لأجله خسرت كلَّ شيء. وفي كلِّ شيء لا أرى سوى أقذار لأربح المسيح. فمُنيَتي إذاً أن أعرفه، وأعرف قدرة قيامته والشّركة في آلامه، فأصير على صورته في الموت000 ولا أعني أنّي قد أصَبتُ الهدف، أو بَلغتُ إلى الكمال. إنّما أواصل السَّعي، لعلّي أُدرك المسيح يسوع، لأنَّه هو أدركني (على طريق دمشق). لا أيُّها الإخوة، لستُ أحسب أنَّني قد أدركت الغاية. إنَّما أعرف أمراً واحداً: أن أنسى ما ورائي، وأمتدّ إلى ما هو أمامي، ساعياً نحو الأمد لأجل الحياة العلويّة، التي دعانا إليها الله، في المسيح يسوع" (3 : 7 – 14). بولس عاش في المسيح، ويسعى دوماً إلى المسيح: "أمَّا نحن فموطننا في السَّماوات، التي فيها ننتظر مخلّصنا، الرَّبّ يسوع المسيح" (3 : 20).
الرَّسالة إلى أهل كولوسي
يؤكِّد بولس أيضاً وأيضاً وتكراراً، علاقته الوثيقة بالمسيح، مُسلِّماً على أهل كولوسي وبصفته المألوفة: "من بولس رسول يسوع المسيح بمشيئة الله، إلى الأخوة الأمناء بالمسيح" (1:1-2). هو في المسيح، ومن يكتب إليهم هم أيضاً في المسيح.
في هذه الرِّسالة يُسخِّر بولس، الفلسفة اليونانيّة وتعابيرها، لأجل التَّعريف بسرِّ المسيح. وسبق فجعل التَّوراة كلَّها، مرشده إلى المسيح. وهكذا فإنَّه يضع كلَّ علمٍ ومعرفةٍ، في خدمة يسوع معشوقه وإلهه. إنَّه يُريد أن يُسبي كلَّ بصيرةٍ إلى المسيح، من أسره في روما (61-63).
ويتصدَّر الرِّسالة "نشيد سرّ المسيح". "فهو صورة الله. هو المولود قبل كلِّ خلقٍ. فيه خُلق الجميع. به وإليه خُلق الجميع. إنّه قبل كلِّ شيء، وفيه يثبتُ كلُّ شيء. إنَّه رأس الجسد أيِّ الكنيسة. إنَّه البكر بين الأموات. هو الأوّل في كلِّ شيء، وفيه ارتضى الله أن يُحِلَّ المِلءَ كُلَّه. وأن يُصالح به لنفسه، كلَّ ما على الأرض وفي السَّماوات، بإقراره السَّلام بدم صليبه" (1 : 15 – 20).
يتبادر إلى ذهننا ونحن نقرأ هذا النَّشيد، مطلع إنجيل يوحنّا الحبيب: في البدء كان الكلمة000 وتبرز من جديد أولويَّة يسوع، ومركزيَّة المسيح، ممَّا يشرح لنا بطريقة فلسفيَّة غنّوسطيّة "مسيحيَّة" شعار بولس، الحياة لي هي المسيح! فالمسيح هو محتوى الإنجيل، وهو السِّرُّ المكتوم من قبل الدُّهور، وأُظهِرَ بالمسيح ( 1 : 26).
وبولس مستعدّ ليُكمِّل ما ينقص من مضايق المسيح، لأجل خدمة الإنجيل. فالمسيح هو المُطلق في كلِّ شيء. وهذا السِّرُّ يملأ حياتنا بالمعموديَّة المقدَّسة، التي تجعل مِنَّا خليقةً جديدة (2 : 12).
من هنا على المسيحي المعتمد باسم يسوع، أن يسلُكَ في المسيح: "أسلكوا في المسيح يسوع الرَّبّ كما تعلَّمتموه. كونوا متأصِّلين فيه، مبنيّين عليه، متوطِّدين في الإيمان حسبما تعلّمتم000 واحذروا أن يقتنصكم أحدٌ بغرور الفلسفة الباطل، مستقى من تقليد النَّاس، أو أركان العالم. فذلك ليس من المسيح، إذ في المسيح يحُلُّ كلُّ مِلءِ اللاّهوت" (2 : 6 – 9). "حياتكم مستترةٌ مع المسيح في الله. ومتى ظهر المسيح الذي هو حياتنا، فحينئذٍ تظهرون أنتم أيضاً، معه في المجد" (3 : 3 – 4).
هنا نرى كيف أنّ علم اللاّهوت في نظر بولس، هو المسيح. المادَّة التَّعليميّة الأساسيّة هو المسيح. مواد وبرامج التَّعليم المسيحي هو المسيح. البرامج الفلسفيّة واللاّهوتيّة التي تُدرَّس في معاهدنا الإكليريكيّة هي المسيح، ويجب أن تتركّز على شخص المسيح، بحيث يكون يسوع، المادة الأساسيّة، والرِّباط الذي يربط كلَّ المواد الأخرى والبرامج، بشخص المسيح. وينطبق هذا الكلام على اللاّهوت العقائدي، وعلى اللاّهوت الأدبي أو الأخلاقي، لأنّ الحقيقة في هذه التَّعاليم هي المسيح (2 : 17 و 16 – 22). هذا الأمر ينطبق أيضاً على القواعد والأنظمة الاجتماعيّة، التي تُنظِّم علاقة الإنسان بجسده وبالآخر، وعلاقة الرَّجُل والمرأة، والسَّادة والعبيد.
الرِّسالتان الأولى والثانية إلى تيموثاوس
تتردَّد عبارة التَّحيّة، كما في كلِّ الرَّسائل: بولس رسول يسوع المسيح، بأمر الله مخلّصنا يسوع المسيح، أو بمشيئة الله.
بولس يشكر الله على نعمة هدايته، على طريق دمشق في الرِّسالة الأولى (1: 12) (عام 64). ومطلع الرِّسالة الثّانية (عام 64) مُشبَع بالرَّبّ يسوع. وفيها يُذكِّر بولس تيموثاوس بيسوع المسيح (2: 8) لأنّ الحياة والموت، هما في يسوع المسيح، ومع المسيح (2 : 8 و 11). ويُحرِّضه في المواظبة على الكرازة بالمسيح، لأنَّه هو موضوع الكرازة الأساسي (4 : 1 – 2).
الرِّسالة إلى العبرانيّين
مطلع هذه الرِّسالة، يختصرها ويُبيِّن مركزيّة يسوع في التّاريخ، وفي حياة بولس، وحياة كلِّ مؤمن: "إنّ الله بعد أنّ كلّم الآباء قديماً بالأنبياء مراراً عديدة وبشتىّ الطرق، كلّمنا نحن في هذه الأيّام الأخيرة، بالابن الذي جعله وارثاً لكلِّ شيء. وبه أنشأ العالم، الذي هو ضياء مجده، وصورة جوهره، وضابط كلِّ شيءٍ بكلمة قدرته" (1 : 1 – 3).
يمكننا أن نجد بسهولةٍ ووضوحٍ كاملَين، الشَّبه العميق بين مطلع هذه الرِّسالة، ومطلع إنجيل يوحنَّا الإنجيلي: "في البَدء كان الكلمة000، به كُوِّن كلُّ شيءٍ، وبدونه لم يُكوَّن شيء ممّا كُوِّن. فيه كانت الحياة000" وقد تحقّقنا ذلك في غير مواقع من رسائل بولس.
المسيح والمسيح فقط، وحده أعطى معنى للتّاريخ والجغرافية والرُّموز: كلُّ شيءٍ هو تاريخ ميلادي، ويؤرَّخ بعبارة قبل الميلاد - قبل المسيح- وبعد الميلاد - بعد المسيح. لا بل كلُّ شيءٍ هو في المسيح.
كلُّ العهد القديم، موضوع هذه الرِّسالة، يتركَّز على يسوع. فهو الخلاص الذي ننتظره (2: 3) وله أُخضِعَ كلُّ شيء (2 : 8)، فهو يسوع المكلَّل بالشَّوك، والمكلَّل بالمجد والكرامة (2 : 9)، بحيث أنّ المقدِّس والمقدَّسين كلُّهم من واحد (2 : 11)، وهو المسيح يدعوهم إخوةً له (2 : 12)، وأولاداً: هاءنذا والأولاد الذين أعطانيهم الله (2 : 13)، وهو شبيه بإخوته (2 : 17)، وهو واحدٌ منهم ومعهم ولأجلهم (2 : 18)، وهم بيتُه (3 : 6).
موسى يُمثِّل شخص يسوع، لا بل يسوع أعظم من موسى (الفصل الثَّالث كلُّهُ مقابلةٌ بين موسى والمسيح). المسيح هو الحبر الرَّحيم. المسيح هو أرض الميعاد، وهو موضوع كلّ مواعيد الله للإنسان، في تاريخ الإنسان كلِّه، وبنوعٍ خاصّ في تاريخ شعب العهد القديم (الفصل الرَّابع): "إنَّ لنا حبراً عظيماً، قد اجتاز السَّماوات، هو يسوع ابن الله" (4 : 14).
لا بل النَّاموس كلُّه يُفضي إلى يسوع. ويسوع هو الضَّمانة لعهدٍ أفضل وأبدي، لأنَّه هو الحبر المُقام على رُتبة ملكصادق، رتبة غير مرتبطة بالنَّاموس ولا بالشَّريعة. (الفصل 6).
إنّ حياة بولس في المسيح، وكلّ ما اكتشفناه سابقاً، في رسائل بولس عن معنى الحياة في المسيح، هو نتيجة اطّلاع عميق على التَّوراة. والرِّسالة إلى العبرانيِّين (كُتبت عام 67 قُبَيل استشهاده)، هي أساس لكلِّ التَّعابير المسيحانيّة في رسائل بولس. لا بل نفهم من الرِّسالة إلى العبرانيِّين، عُمق انتماء بولس إلى المسيح، ويُمكننا أن نقول : إنَّ كلَّ عبرانيَّته، تجلّت في مسيحانيَّته!
وهكذا فكلُّ علم بولس بالتّوراة، بأسفار العهد القديم، يسكبه في هذه الرِّسالة. ومنه ينطلق إلى المسيح الذي هو الحبر للخيرات الآتية" (9 : 11)، وهو وسيطُ عهدٍ جديد (9:15)، والنَّاموس هو ظلُّ الخيرات الآتية (10:1)، لابل المسيح بتجسُّده، يبُطِلُ (النَّاموس) الأوّل ليُقيم الثّاني (10 : 9).
"ومن ثمَّ فإنّ لنا الدُّخول إلى المقادس بدم المسيح، من هذه الطَّريق الجديدة الحيّة، التي شقّها لنا يسوع من خلال الحجاب، أعني جسده" (10: 19 – 20). هذه الطَّريق هي المسيح الذي قال: "أنا الطَّريقُ والحقُّ والحياة". وآباء العهد القديم ساروا على هذه الطَّريق بقوّة الإيمان، الذي يُحدّده بولس بهذه العبارة الجميلة: "الإيمان هو قوام المرجوّات، وبرهان غير المرئيّات. به شُهِدَ للأقدَمين شهادةً حسنة" (11: 1). هذا الإيمان أنجب أبطالاً عمالقة نقتدي بهم، وإيمانُهم تحقَّق في المسيح.
بولس يعتبر أنَّ الحياة كلُّها هي في المسيح. حياته مستترةٌ في المسيح. وحياة آباء وقدِّيسي وأنبياء العهد القديم كلُّها، حياةٌ في المسيح. العهد القديم كلُّه حياةٌ في المسيح. وفي المسيح يأخذ العهد القديم معناه الحقيقي. وقد انطلق بولس الخبير بالتّوراة والعالمِ الكبير بها، انطلق من خبرة آباء العهد القديم، إلى خبرة الحياة في المسيح، في العهد الجديد. وقد أكّد كما ذكرنا سابقاً، أنَّ العهد القديم كان مرشدنا إلى المسيح (غلاطية 3 : 24). والعهد القديم أرشد بولس على طريق دمشق، وفي دمشق وفي صحراء حوران، وحوّلَهُ ونقله هذه النقلة الفريدة الأساسيّة، من عهدٍ إلى عهد، من عهدٍ قديم إلى عهدٍ جديد، ومن الظِّلّ إلى الحقيقة.
لم ينقض بولس العهد القديم ولم يطلِّقه، بل فهمَهُ في ضوئه الحقيقي الجديد النِّهائي. ولذا فإنَّه بنفس القوَّة التي كان بها يؤمن بالقديم، يؤمن الآن بالجديد، ينتقل إلى الجديد عبر القديم. هذا ما وصفه بولس في الفصل الحادي عشر من الرِّسالة إلى العبرانيِّين، حيث يصف مظاهر حياة الإيمان لدى الآباء: هابيل - أخنوخ - نوح -إبراهيم - يعقوب- سارة - إسحاق – موسى- داود000
ويُنهي الفصل الحادي عشر بهذه الآية: "هؤلاء كلُّهم المشهود لهم بالإيمان، لم ينالوا الموعد، لأنَّ الله أعدّ لنا مصيراً أفضل، ولم يشأ أن يبلغوا إلى الكمال بمعزلٍ عنّا" (11: 39 -40).
وينتقل بولس من الفصل الحادي عشر إلى الفصل الثَّاني عشر، وإلى العهد الجديد فيقول: "لذلك نحن أيضاً إذ يُحدِقُ بنا مثلُ هذا السَّحاب الكثير الكثيف من الشُّهود، فلنطرح عنّا كلَّ ثِقلٍ والخطيئة التي تكتنفنا بسهولة، ولنسعَ بثباتٍ في الميدان المفتوح أمامنا، شاخِصين بأبصارنا إلى يسوع، مبدئ الإيمان ومكمِّلِهِ" (12 : 1 – 2).
ويشرح بولس أهميَّة هذا الانتقال من العهد القديم إلى الجديد، وإلى المسيح، قائلاً: "إنَّكم لم تدنوا من حقيقةٍ ملموسة، ومن نار مضَّطرمة، ولا من ظلمةٍ وديجورٍ وزوبعة، ولا من هتافِ بوق000 (إشارة إلى رؤية موسى على جبل حوريب)000 بل قد دنَوْتُم إلى جبل صهيون، إلى مدينة الله الحي، إلى أورشليم السَّماويّة، إلى ربوات الملائكة، إلى عيدٍ حافلٍ، إلى جماعة الأبرار المكتوبين في السَّماوات، إلى الله ديَّان الجميع، إلى أرواح الصدِّيقين الذين أُبلِغوا إلى الكمال: إلى يسوع وسيط العهد الجديد! (12: 18-24).
كلُّ شيءٍ له معنى بمقدار ما يرتبط بالمسيح، في العهد القديم والعهد الجديد، في حياة البشر كلّ البشر. لا بل في حياة كلِّ إنسان، يوجد دائماً عهدان "القديم والجديد"، وقوّة المسيحيّة أنَّ فيها عهدان، هما في حقيقتهما عهد الله الواحد: قديم وجديد. وقوَّة المسيحيّة تكمن في الانتقال الدَّائم من العهد القديم،
إلى العهد الجديد؛ ومن مفاهيم العهد القديم إلى مفاهيم العهد الجديد! إيماننا المسيحي الحقيقي الشَّخصي، يبقى حيّاً، ما دُمنا قادرين على الانتقال الدَّائم، لا بل اليومي من "عهدنا" القديم، من الإنسان القديم إلى العهد الجديد، من الظلِّ إلى الحقيقة، من الموت إلى الحياة، من الخطيئة إلى النِّعمة. وهذا الانتقال ممكن فقط من خلال ارتباط حياتنا في المسيح يسوع، "لأنّ يسوع هوَ هوَ، أمسِ واليومَ وإلى الدُّهور" (13 : 8).
نحتاج إلى حرارة بولس، إلى عشقه، إلى حماسته، إلى محبّته، إلى إيمانه، إلى جهاده، إلى تضحياته، إلى غَيرته، إلى انفتاحه، إلى آفاق رؤيته الواسعة الشَّاملة، العالميّة، المسكونيّة، الوحدويّة، الكنسيّة. إلى حبّه لجميع النَّاس، إلى استعداده للبذل والعطاء، والتَّضحية، وحتّى الموت والإبسال في سبيل المسيح، وإخوة المسيح، وأحبَّاء يسوع.
تحريض ختامي
كَمْ أُصلّي كي نصل كلُّنا من خلال طرقنا وشوارعنا ودروبنا، إلى الشَّارع المستقيم، إلى طريق دمشق...
كلُّنا نحتاج أن نسير على طريق دمشق... ليس دمشق الأرضيّة، ولا دمشق السياسيّة، ولا دمشق المحصورة في التّاريخ والجغرافيا... بل دمشق مدينة اللِّقاء مع المسيح الحيّ، القائم من بين الأموات، الدَّاعي إلى الخلاص والفداء والمحبّة، والرَّجاء والأمل والسَّلام...
نحتاج إلى طريق دمشق! فليَسِرْ جميع النَّاس في العالم على طريق دمشق، لكي يتغيّر العالم وينتقل النَّاس من الظُّلمة إلى النُّور، من اللَّيل إلى النَّهار، من الخطيئة إلى البِرّ، من الاضِّطهاد إلى المحبّة، من العنف إلى اللُّطف، من الأنانيّة إلى التَّضحية، من الإرهاب إلى التَّضامن، من الأصوليّة إلى الانفتاح، من الكراهيّة والعداء والبُغض والاقتتال والثَّأر، إلى عواطف يصفها هكذا القدِّيس بولس: "ليكن فيكُم من الأفكار والأخلاق، ما هو في المسيح يسوع... ثمرُ الرُّوح هو المحبّة واللُّطفُ والعفاف...".
ومع بولس نقول لقرّاء رسالتنا الميلاديّة البولسيّة: "إنهض أيها النَّائم، فيُضيءَ لكَ المسيح، انقضى اللَّيل... وأقبل النَّهار... فلنطرح أعمال الظُّلمة، ولنلبس كمختاري الله أحشاء الرَّحمة..." ( رومانيون 13 : 11 – 14).
ما أجمل عالم بولس! يا ليت عالم رسائل بولس، يغزو عالمنا اليوم، هذا العالم المتألِّم، المُظلِم، الثَّائر، الحاقد، المُنتقم، المُحارب، المُستأثر، المُستغلّ، المادِّي، الجسدي، الجنسي، السَّطحي، الأناني، الاستغلالي، المتقلِّب المُتأرجح، التَّائه، بلا مرشد، ولا مرجعيّة، ولا موجِّه ولا بوصَلَة، يهيمُ على وجهه،
على غير وجه،...هذا العالم يحتاج اليوم إلى بولس!!! ومن وراء بولس، ومن خلال بولس، يحتاج إلى المسيح! إلى الإنجيل، إلى بشارة صالحة. يحتاج إلى الله...إنَّه حقّاً في جوعٍ وعطشٍ إلى الله... ولكنَّ المأساة أنّ العالم لا يشعر بهذا الجوع وبهذا العطش، لأنَّ هموم هذا العالم، وشهواته، ومفاسده، وتفاهاته، وموَضَهُ، تخنق كلمة الله المزروعة في قلوب النَّاس، فلا تأتي كلمته تعالى بثمر... ولا يُسمَع صوتُ يسوع الحيّ القائم، المنتظر كلَّ واحدٍ "على طريق دمشقه، على الطَّريق المستقيم"، يناديه باسمه، شاول! يستحلفه! يستفزُّهُ، يؤنِّبهُ، يُنبِّهه، يُنهضهُ من سُباته، من سَكرته، من لا شعوره، وقساوة قلبه...ليقول له: أنت لي! إنَّني أحببتُك! إنَّني أعرِفُكَ باسمك! أنت لي إناءٌ مختار! لقد اصطفيتُكَ واخترتُكَ ودعوتُكَ! لماذا تضَّطهدُني؟ لماذا تبتعد عنّي؟ لماذا تتجاهلني في حياتِك؟ لماذا تَشطُب على اسمي في سجلِّ عناوينك، وفي جوّالك، ومن بين أصحابك وأترابك، ومعاشريك، ورفقة فرحك وسرورك وغبطتك، ومسرّتك وسعادتك...ضعني على موبايْلِكَ! ضعني على لائحة رسائل حبِّكَ! وأحبابك. اجعلني كخاتمٍ على قلبك! افتح لي باب قلبك! هاءنذا على الباب واقفٌ وأقرع، والطّوبى لمن يفتح لي، طوباكَ إذا فتحتَ لي...لأنَّني سآتي إليك وأقيمُ عندكَ، وأملأ قلبك ونفسك وضميرك، وكلَّ حياتِك فرحاً وسعادةً وأملاً ورجاءً وآفاقاً واسعة، وحُبّاً ورجاءً وإيماناً!...
أيُّها الإخوة والأخوات، أتمنّى أن تشعروا كلُّكم يا من تقرأون هذه الرِّسالة، بالنَّشوة التي شعرت وأشعر بها، وأنا أقرأ رسائل بولس، وأنا أكتب هذه الرِّسالة على مدى أشهر، في لبنان وسوريا، وروما، وألمانيا، وإنكلترا، والولايات المتّحدة الأميركيّة، والمكسيك...
لقد كتبت صفحات هذه الرِّسالة في كلٍّ من هذه البلاد... وكانت لي موضوع فرحٍ كبيرٍ، ولذَّةٍ عارمة، وسعادة، ولذّة ما بعدها لذّة، وحلاوة ما بعدها حلاوة...
جرِّبوا! ذوقوا وانظروا ما أطيب الرَّبّ! ما ألذَّ وأعذب كلماته... ولا تخافوا أن تختبروا في حياتكم خبرة بولس... إنّها خبرة الرُّسل الحقيقيّة! إنّها خبرة القدِّيسين، والشُّهداء والأبرار والنُّسَّاك، إنّها خبرة المسيحيّين عبر الأجيال، إنَّها خبرة كلّ مسيحي، معتمِد باسم يسوع ...
هذا ما أرجوه لكم، وأتمنّاه لكم، وأُصلّي لأجل تحقيقه فيكم. بشفاعة أمّنا مريم العذراء، وشفاعة بولس الرَّسول.
ولتحمل لكم هذه الرِّسالة، أطيب التّهاني بعيد ميلاد ربِّنا يسوع المسيح، والأماني بالعامّ الجديد 2009م.
مع محبّتي وبركتي الرَّسوليّة
غريغوريوس الثالث
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والإسكندريّة وأورشليم
للرّوم الملكييّن الكاثوليك