صاحب الغبطة يوسف

رسالة الفصح 2009

٢٥ ٣ ٢٠٠٩



 

رسالة صاحب الغبطة
البطريرك غريغوريوس الثّالث
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والاسكندريَّة وأورشليم
للرُّوم المَلَكيِّين الكاثوليك
بمناسبة عيد الفصح المجيد
لسنة 2009م
 
بولس رسولُ القيامة
"لقد قُمتُم مع المسيح" (كولوسّي 1:3)

 
من غريغوريوس عبدِ يسوعَ المسيح
برحمة الله تعالى
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق
والإسكندريّة وأورشليم
 
إلى السّادة المطارنة، أعضاء المجمع المقدَّس الموقّرين
وسائر أبنائنا وبناتنا بالمسيح يسوع، إكليروسًا وشعبًا
المدعوّين قدّيسين، مع جميع الذين يدعون باسم ربِّنا يسوع المسيح، ربِّهم وربِّنا
نعمةٌ لكم وسلامٌ من الله أبينا، والرَّبِّ يسوع المسيح (اكور: 1-3).
 
بولس رسول القيامة
"لقد قُمتُم مع المسيح" (كولوسّي 1:3)
 

"لقد قمتم مع المسيح" هي البُشرى العظيمة في المسيحيّة! لأنَّها تأكيد لقيامة المسيح وقيامتنا معه! وأجمل هتاف ونشيد تصدح به حناجرُنا بأكثر ما يكون من الحماسة والاندفاع وبأعلى أصواتنا، هو نشيد القيامة المجيدة: "المسيح قام من بين الأموات، ووطئ الموت بالموت، ووهب الحياة للذين في القبور".
ولذا أحببنا أن تكون رسالة عيد القيامة المجيدة لهذا العام مُكرَّسة للتَّأمُّل في تعليم القدِّيس بولس حول قيامة السَّيِّد المسيح المُقدَّسة وقيامتنا معه.
بولس هو المُبشِّر الأعظم بقيامة المسيح. إنَّه حقًّا رسول القيامة! ويؤكِّد لنا أنَّنا لسنا فقط نحتفل بقيامة يسوع المسيح، بل نحن قمنا مع المسيح، إنَّنا نحتفل بقيامتنا نحن أيضًا. ولذا يُحرِّضنا بولس الرَّسول قائلاً: "لقد قمتُم مع المسيح ف?طلبوا إذن ما هو فوق، حيث المسيح يُقيم جالسًا عن يمين الآب. إهتمُّوا لما هو فوق، لا لما هو على الأرض، لأنَّكم قد مُتُّم (للعالم) وحياتكم مستترةٌ مع المسيح في الله. ومتى ظهر المسيح الذي هو حياتنا، فحينئذٍ تظهرون أنتم أيضًا معه في المجد" (كولوسّي 3: 1-4).
هذا الكلام ليس مجرَّد تحريض روحيّ، بل هو نتيجة خبرة شخصيّة، هي خبرة بولس على طريق دمشق. ولا يمكننا فهم تعليم بولس في رسائله بدون العودة دائمًا إلى رؤياه على طريق دمشق. وهذا ما تحقَّقناه في رسالة الميلاد 2008.
القيامة هي موضوع "إنجيل" بولس. هذا ما خاطب به أهل كورنثوس في رسالته الأولى قائلاً لهم: "أُذكِّرُكُم الإنجيلَ الذي بشَّرتكُم به وقبلتموه، وأنتم ثابتون فيه، وبه تخلصون" (1كورنثوس 15: 1-2) فإنِّي قد سلَّمتُ إليكم أوَّلاً ما قد تسلَّمتُ أنا نفسي. أنَّ المسيح قد مات من أجل خطايانا على ما في الكتب. وإنَّه قُبِر، وإنَّهُ قام في اليوم الثّالث على ما في الكتب" (1كورنثوس 15: 3-4).
ونعلم أنَّ هذه الرُّؤية جرَت على أبواب دمشق، التي نعتبرها بحقّ ليس فقط مكان هداية بولس ورؤياه، بل هي أيضاً مكان ظهور المسيح القائم من بين الأموات لبولس. لا بل دمشق هي المكان الوحيد خارج فلسطين الذي ظهر فيه المسيح بعد قيامته من الأموات، لبولس ولحنانيا أوَّل مطران لدمشق.

 

بولس رسول القيامة في أعمال الرُّسل

وهكذا عاش بولس سرّ القيامة وواقعها. ومن ثمَّ أصبح المُبشِّر الأكبر بها. لا بل أصبحت "إنجيله" كما قلنا أعلاه.
القيامة موضوع بشارة بولس في أنطاكية _ بيسيديا: "نحن نُبشِّركم بأنَّ الوعد الذي صار لآبائنا قد حقَّقه الله لنا، نحن أولادهم، إذ أقام يسوع" (أعمال 13: 30 و32).
وفي مدينة تسالونيكي يُبشِّر بولس في مجمع اليهود فيها، ثلاثة سبوت، "شارحاً ومُبيِّنًا أنَّه كان ينبغي للمسيح أن يتألَّم، وأن يقوم من بين الأموات. وأنَّ المسيح هذا، هو يسوع الذي أُبشِّركُم به" (أعمال الرُّسل 17: 2-3).
وفي أثينا، في المجمع وفي السّاحة العموميّة، يُباحث بولس الفلاسفة اليونان "ويُبشِّر بيسوع وبالقيامة" (أعمال 18:17)، إذ "به نحيا ونتحرَّك ونوجد" (أعمال 28:17)، والضَّمانة هي "إقامة (يسوع) من بين الأموات" (أعمال 31:17).
وهذا كان موضوع كرازته في مدينة كورنثوس (أعمال 18).
ويُحاكَم بولس بسبب تعليمه حول قيامة الأموات: "أنا على رجاء قيامة الأموات أُحاكَم" (أعمال 6:23). ولاحقًا يؤكِّد أمام فيلكس الوالي: "إنِّي على قيامة الأموات أُحاكَم اليوم أمامكم" (أعمال 21:24). وفهِمَ الملك أغريبا فحوى الشَّكوى على بولس كما يلي: "إنَّها حول إنسانٍ اسمه يسوع، قد مات، ويدَّعي بولس أنَّهُ حيٌّ" (أعمال 19:25).
ويُدافع بولس عن نفسه أمام الملك أغريبا، مركِّزًا دفاعه على القيامة، التي يعتبرها جوهر وَعدِ الله للبشر ولجميع آباء العهد القديم ولأسباط اليهود الاثني عشر! لا بل يعتبر القيامة الرَّجاء الأكبر في حياة الشَّعب اليهودي، ويقول للملك أغريبا: "ماذا! أوَ يكونُ عندكم غيرُ مصدَّقٍ أنَّ الله يُقيم الأموات؟" (أعمال 26: 6-8).
وبعد ذلك يروي بتفصيلٍ ما جرى له على طريق دمشق، مُعتبرًا أنَّ ظهور المسيح له على طريق دمشق، ومُخاطبته إيّاه هو البرهان على أنَّ المسيح حيٌّ. ويؤكِّد بولس أنَّ المسيح خاطبه بعباراتٍ واضحة طالبًا منه أن يشهد للقيامة: "أنا يسوع الذي تضَّطهده" (أعمال 15:26).
الرِّسالة التي أوكلها يسوع لبولس واضحة: أن يكون شاهدًا للقيامة. وهذا ما يُعلنه في دفاعه أمام الملك أغريبا وجمع اليهود قائلاً: "بَيدَ أنِّي بمعونة الله التي لم تنقصني حتّى هذا اليوم، ما بَرِحتُ أشهدُ للصَّغير والكبير، لا أقول شيئًا غير ما قال عنه الأنبياء وموسى، إنَّه سيكون. أعني أنَّ المسيح سيتألَّمُ ويكون أوَّل من ينهض من الأموات، فيبشِّر بالنُّور الشَّعبَ والأمم" (أعمال 26: 22-23).
بهذه المرافعة يختصر بولس كُلّ تعاليم العهد القديم بأنَّها تأكيد على قيامة الماسيّا، السَّيِّد المسيح. وأنَّ قيامته هي خلاص البشريّة كُلّها.
سفر أعمال الرُّسل يروي لنا حياة الرُّسل وبخاصٍّة حياة بطرس وبولس. ومن خلال هذا السِّفر رأينا بوضوح أنَّ قيامة المسيح هي الحدَث الأكبر في حياة بولس، وأنَّ المسيح الحيّ القائم من بين الأموات، أراد أن يكون بولس رسول قيامته المُقدَّسة وشاهدًا لها والمُعلِّم الأكبر عنها.
وهذا ما سنراه من خلال "رحلة القيامة" في رسائل بولس رسول القيامة.

 

 

القيامة في رسائل القدِّيس بولس
 

الرِّسالة إلى أهل روما
في مطلع هذه الرِّسالة يختصر بولس العهد القديم بأنَّهُ تهيئةٌ لمجيء المسيح وللحدَث الأكبر وهو قيامة المسيح (روما 4:1). ويؤكِّد بولس أنَّهُ "مدعو ليكون رسولاً، ومفروزًا لإنجيل الله" (روما 1:1) الذي هو بشرى القيامة البهيجة، التي هي أساس تبرير البشر بالإيمان: "الجميع يُبرَّرون مجّانًا بالفداء الذي بالمسيح يسوع. الذي سبق الله فأقامه أداة تكفيرٍ بالإيمان بدمه" (روما 24:3).
نحن أيضاً سنُبرَّر "بالذي أقام من بين الأموات يسوعَ ربَّنا، الذي أُسلِمَ لأجل زلاّتِنا وأُقيمَ لأجل تبريرنا" (روما 4: 24-25). "وقد برهن الله على محبَّته لنا بأنَّ المسيح قد مات عنّا ونحنُ بعدُ خطأة، فكم بالأحرى وقد بُرِّرنا بدمه، نخلصُ من الغضب. فإن كُنّا ونحنُ بعدُ أعداء قد صولِحنا مع الله بموتِ ابنه، فكم بالأحرى ونحنُ مُصالَحون، نخلُصُ بحياته" (روما 5: 8-9) أو بقيامته.
ويشرح بولس كيف أنَّ الخطيئة ومعها الموت، دخلَت العالم بإنسانٍ واحد، هكذا "نعمةُ الله وموهبته قد وَفَرتا لكثيرين بنعمة الإنسان الواحد، يسوع المسيح" (روما 15:5).
ولاحقًا يستفيض بولس في شرح علاقة قيامة المسيح بالمعموديّة وحياة المؤمن والتحرُّر من عبوديّة الخطيئة بالقيامة: "أَمْ تَجهلون أنَّا جميع من اعتمدوا للمسيح، قد اعتمدنا لموته؟ فلقد دُفنّا إذن معه بالمعموديّة للموت، حتّى إنّا، كما أُقيمَ المسيح من بين الأموات بمجد الآب، كذلك نسلُكُ نحن أيضًا في جِدَّةِ الحياة. لأنّا إذا كُنّا قد صِرنا مُتّحدين معه بشبه موته، نصيرُ أيضًا بشبهِ قيامته، عالِمين أنَّ إنساننا العتيق قد صُلِبَ معه، لكي يتلاشى جسدُ الخطيئة، بحيثُ لا نُستَعبدُ بعدُ للخطيئة، لأنَّ الذي مات قد تحرَّر من الخطيئة. فإن كُنّا قد مُتنا مع المسيح، نؤمن أنّا سنحيا أيضًا معه، عالِمين أنَّ المسيح، بَعدما أُقيمَ من بين الأموات، لا يموتُ أيضًا، فالموتُ لا يسودُ عليه من بعد. فإنَّهُ بموته، قد مات للخطيئة إلى الأبد، وبحياته يحيا لله. فكذلكَ أنتم أيضاً، إحسَبوا أنفسكُم أمواتًا للخطيئة، أحياءً لله في المسيح يسوع" (روما 6: 3-11).
وبالقيامة نُصبح واحدًا مع المسيح : "يا إخوتي! قد أُمِتُّم للنّاموس بجسد المسيح، لكيما تَصيروا لآخر، للذي أُقيمَ من بين الأموات" (روما 4:7).
وبالقيامة نحصل على الحياة الرُّوحيّة الفائقة الطَّبيعة: "إن كان روح الذي أقام يسوع من بين الأموات ساكنًا فيكم، فالذي أقام المسيح يسوع من بين الأموات، يُحيي أيضًا أجسادكم المائتة، بروحه السَّاكن فيكم" (روما 11:8).
القيامة تبعثُ الرَّجاء الأكيد بالخلاص في قلب المؤمن: "إذا كان الله معنا فمن علينا؟ هو الذي لم يُشفق على ابنه الخاصّ، بل أسلمَهُ من أجل جميعنا، كيف لا يهبنا معه كُلَّ شيء؟ من يشكو مُختاري الله؟ الله الذي يُبرِّرهم! من يقضي عليهم؟ المسيح الذي مات بل بالحريّ قام، وهو عن يمين الله، وهو يشفع فينا" (روما 8: 31-34). ويزيد: "لأنَّكَ إن اعترفت بفمِكَ أنَّ يسوع هو ربٌّ، وآمنتَ في قلبِكَ أنَّ الله قد أقامه من بين الأموات، فإنَّكَ تخلُص" (روما 9:10).
لا بل حياتنا وموتنا مرتبطان بحياة المسيح وموته: "فإنَّه ما من أحدٍ منّا يحيا لنفسِهِ. ولا أحد يموت لنفسِهِ. فإن حيينا فللرَّبّ نحيا، وإن مُتنا فللرَّبّ نموت، وإن حيينا أو متنا فللرَّب نحن. لهذا مات المسيح وعاد حيًّا، ليسود الأموات والأحياء" (روما 14: 7-9).

 

الرِّسالة الأولى إلى أهل كورنثوس
ظهور المسيح القائم لبولس على طريق دمشق، هو الحجّة الكُبرى والبرهان الأقوى والضّمانة الفُضلى على أنَّ تعليم بولس حقيقي، يستند إلى أساسٍ متين، ويقول: "ألستُ رسولاً؟ أما رأيتُ يسوع ربَّنا؟" (1كورنثوس 1:9).
ويُكرِّس بولس الرَّسول الفصل 15 من هذه الرِّسالة للتأكيد على حقيقة القيامة وكيفيَّتها. وينتهي الفصل بنشيد الغلَبة على الموت.
أُفضِّل نشر الجزء الأكبر من هذا الفصل. وهو شرحٌ جميلٌ بسيطٌ واقعيٌّ عن كيفيّة القيامة. يُفيد المؤمنين ويُبدِّد الكثير من شكوكهم ويُجيب على أسئلتهم.
"أُذكِّرُكم أيُّها الإخوة، الإنجيل الذي بشَّرتُكُم به وقَبِلتموه، وأنتُم ثابتون فيه، وبهِ تخلُصون إن حافظتُم عليه كما بشَّرتُكُم به... ما لم يكن إيمانُكُم باطلاً. فإنِّي قد سلَّمتُ إليكم أوَّلاً، ما قد تسلَّمتُ أنا نفسي: أنَّ المسيح قد مات من أجل خطايانا، على ما في الكُتُب، وأنَّهُ قُبِرَ، وأنَّهُ قام في اليوم الثَّالث على ما في الكتُب، وأنَّهُ تراءى لكيفا ثمَّ للاثنَي عشر، ثمَّ تراءى لأكثر من خمس مئةِ أخٍ معًا – أكثَرُهُم باقٍ حتّى الآن وبَعضُهُم رقدوا، ثُمَّ تراءى لِيعقوب، ثُمَّ لجميع الرُّسُل. وآخر الكُلّ، تراءَى لي أنا أيضًا، كأنَّما للسَّقْط. أجل، إنِّي لأَصغرُ الرُّسُل، بل لستُ أهلاً لأن أُدعى رسولاً، بما أنِّي اضطهدتُ كنيسة الله" (1كورنثوس 15: 1-9).
"فإن كان يُكرَزُ بالمسيح أنَّهُ قد قام من بين الأموات، فكيف يقول قومٌ بينكُم بعدم قيامة الأموات؟ فإنْ لم تكن قيامةُ أمواتٍ، فالمسيحُ إذن لم يقمْ، وإن كان المسيحُ لم يقمْ، فكِرازتُنا إذن باطلة، وإيمانُكُم أيضًا باطل. بل أَضحَينا شُهودَ زورٍ لله، لأنَّا شَهِدنا على الله، بأنَّهُ أقام المسيح، وهو لمْ يُقِمْهُ _ إن كان الأموات حقًّا لا يقومون. فإن كان الأمواتُ لا يقومون فالمسيح أيضًا لمْ يقُمْ، وإن كان المسيحُ لم يقُمْ، فإيمانُكُم باطلٌ، وأنتُم بعدُ في خطاياكُم، ومِن ثَمَّ، فالذين رَقَدوا في المسيحِ أيضًا قد هَلَكوا. إن كان رجاؤُنا في المسيح، في هذه الحياة فقط، فنحنُ أشقى النَّاسِ أجمعين.
"ولكن، لا، فإنَّ المسيحَ قد قام من بين الأموات، باكورةً للرَّاقدين. لأنَّهُ، بما أنَّ الموت كان بإنسانٍ، فبإنسانٍ أيضًا قيامة الأموات. فكما أنَّهُ في آدم يموت الجميع، كذلك أيضًا في المسيح سيحيا الجميع. ولكن، كُلُّ واحدٍ في رُتبته: المسيح، على أنَّهُ باكورة، ثُمَّ الذين للمسيح، عند مجيئه" (1كورنثوس 15: 12-23).
"إن كان الأمواتُ لا يقومون "فلنأكل ونشرب، فإنَّا غدًا نموت!" (1كورنثوس 32:15).
"ولكن قد يقول قائل: "كيف يقوم الأموات؟ وبأيِّ جسدٍ يَرجِعون؟ يا جاهل! إنَّ ما تزرعُهُ، أنتَ، لا يحيا إلاّ إذا مات. وما تزرعُهُ ليس هو الجسم الذي سيكون، بل مُجرَّد حبَّةٍ من الحنطة، مثلاً، أو غيرها من البزور. إلاّ أنَّ الله يُؤتيها جِسمًا على ما يُريد، لكُلٍّ من البزور جِسمَهُ المُختصَّ به.
"كلُّ الأجساد ليست واحدة، بل للنَّاس جسدٌ، وللبهائم جسدٌ آخر، وللطيور جسدٌ آخر، وللأسماكِ آخر. والأجسامُ أيضاً أجسامٌ سماويّة وأجسامٌ أرضيّة، بَيدَ أنَّ بَهاءَ السَّماويّة منها، نَوعٌ، وبَهاءَ الأرضيّةِ نوعٌ آخر، وبَهاءَ الشَّمس نوعٌ، وبَهاءَ القمر نوعٌ آخر، وبَهاءَ النُّجوم نوعٌ آخر، حتّى إنَّ نجمًا يَمتاز عن نجمٍ في البهاء. فهكذا قيامة الأموات، يُزرَعُ الجسدُ بفسادٍ ويُقوم بلا فساد، يُزرَعُ بهَوانٍ ويَقومُ بمجدٍ، يُزرَعُ بضعفٍ ويَقومُ بقوَّة، يُزرعُ جسدٌ حيوانيٌّ ويقومُ جسدٌ روحانيّ.
"بما أنَّهُ يوجد جسدٌ حيوانيّ، فإنَّهُ يوجدُ جسدٌ روحانيٌّ أيضًا، على ما قد كُتِب: "جُعِلَ الإنسان الأوَّل، آدمُ، نَفْسًا حيّة"، وآدمُ الآخر روحًا مُحييًا. ولكن، لم يكن الرُّوحانيُّ أوَّلاً، بل الحيوانيُّ، ثمَّ بعدئذٍ الرُّوحانيّ. الإنسانُ الأوَّلُ من الأرض، من التراب، والإنسان الثَّاني من السَّماء. فعلى مثال التُّرابي يكون التّرابيُّون، وعلى مثال السَّماوي يكون السَّماويُّون. وكما لَبِسنا صورة التُّرابي فَلْنَلبس أيضاً صورة السَّماوي.
"بَيدَ أنِّي أؤكِّد، أيُّها الإخوة، أنَّ اللَّحم والدَّم لا يستطيعان أن يَرِثا ملكوت الله، ولا الفساد أن يرِثَ عدم الفساد. وها إنِّي أُكشفُ لكم سرًّا: لن نرقُد كلُّنا، ولكن، سنتحوَّلُ كُلُّنا، في لحظةٍ، في طرفةِ عينٍ، عند البوق الأخير، لأنَّهُ سيهتف بالبوق، فيَنهضُ الأموات بغير فسادٍ، ونحن نتحوَّل. إذ لا بُدَّ لهذا الجسد الفاسد أن يلبس عدم الفساد، ولهذا الجسد المائت أن يلبس عدم الموت" (1كورنثوس 15: 35-57).
ويُنهي بولس شرحَهُ عن كيفيّة القيامة بنشيد الغَلَبة: "ومتى لَبِسَ هذا الجسد الفاسدُ عدم الفساد، ولَبِسَ هذا الجسدُ المائتُ عدم الموت، فحينئذٍ يَتِمُّ القولُ الذي كُتِب: "لقد ابتُلِعَ الموت في الغلَبَة. أين غلبتُكَ، أيُّها الموت؟ أين شوكتُكَ أيُّها الموت؟" إنَّ شوكة الموت هي الخطيئة، وقوَّةُ الخطيئة هي النَّاموس. ولكن الشُّكر لله الذي يُؤتينا الغلَبَة بربِّنا يسوع المسيح!"

 

الرِّسالة الثّانية إلى أهلِ كورنثوس 
تفوح من بولس رائحة القيامة في مسيرته الرَّسوليّة الظَّافرة: "فشكرًا لله الذي يقودنا على الدَّوام، من ظفرٍ إلى ظفر، في المسيح. وينشر بنا في كلِّ مكان نفحةَ معرفته. فإنَّا لله، نفحة المسيح الطَّيِّبة، في الذين يخلصون وفي الذين يهلكون. لهؤلاء نفحةُ موتٍ للموت، ولأولئكَ نفحةُ حياةٍ للحياة" (2كورنثوس 2: 14-16).
الرَّسول يتقوَّى في شدائده بسبب إيمانه بقيامة المسيح، فهو يتشبَّه بموته وبقيامته: "إنَّنا نحمل في الجسد، كُلَّ حين، موت يسوع، لتظهر حياة يسوع أيضًا في جسدنا. لأنَّا نحن الأحياء، نُسلَمُ دائماً إلى الموت من أجل يسوع، لتظهر حياة يسوع أيضًا في جسدنا المائت. فالموت إذن يعمل فينا، والحياة فيكم" (2كورنثوس 4: 10-12).
إيمان بولس بالقيامة يُعطيه ضمانة فيقول: "لِعِلمنا بأنَّ الذي أقام الرَّبَّ يسوع، سيُقيمنا نحن أيضًا، مع يسوع، ويُظهرنا معكم أمامه" (2كورنثوس 14:4). وفي الأخير "تَبتلعُ الحياة ما هو مائت فينا" (2كورنثوس 4:5).
وتترابط المحبّة بالقيامة: "إنَّ محبّة المسيح تحثُّنا. إذ نعتبر أنَّه، إذا كان واحدٌ قد مات عن الجميع، فالجميع أيضًا قد ماتوا (معه). وأنَّه قد مات عن الجميع لكي لا يحيا الأحياء لأنفسهم في ما بعد، بل للذي مات وقام لأجلهم" (2كورنثوس 5: 14-15). وبالقيامة يُصبح المؤمن "خليقةً جديدة" (2كورنثوس 17:5).

 

الرِّسالة إلى أهلِ غلاطية
تبدأ الرِّسالة بالتَّأكيد على أنَّ رسالة بولس مُرتكزة على "يسوع المسيح والله الآب، الذي أنهضه من بين الأموات" (غلاطية 1:1).
لا بل إنَّ حياة بولس تُصبح حياة المسيح: "إنِّي بالنَّاموس قد مُتُّ للنّاموس، لكي أحيا لله. إنِّي قد صُلبتُ مع المسيح. فلستُ أنا حيًّا بعد بل هو المسيح يحيا فيَّ. وإن كنتُ الآن أحيا بالجسد، فإنِّي أحيا في الإيمان بابن الله، الذي أحبَّني وبذل نفسهُ عنّي" (غلاطية 2: 19-20).

 

الرِّسالة إلى أهلِ أفسس
تظهر مركزيّة المسيح في حياة الكنيسة والجماعات المسيحيّة والمؤمنين أفرادًا وجماعات في حدث القيامة. إنَّهم يكتشفون "فرطَ عظمة قدرته المُتجلّية في عزَّة قوَّته، التي بسطها في المسيح، إذ أنهضه من بين الأموات، وأجلسَهُ عن يمينه في السَّماوات، فوق كلِّ رئاسةٍ وسلطان وقوَّةٍ وسيادة، وفوق كلِّ اسمٍ يُسمَّى، ليس في هذا الدَّهر فقط، بل في الآتي أيضًا. لقد أخضع كُلَّ شيءٍ تحت قدمَيه، وأقامه، فوق كلِّ شيءٍ رأسًا للكنيسة، التي هي جسده، وكمال من يكتمل في جميع الكائنات" (أفسس 1: 19-23).
قيامة المسيح هي علامة محبّة الله لنا: "غير أنَّ الله لكونه غنيًّا بالرَّحمة، ومن أجل فرطِ محبَّته التي أحبَّنا بها، وحين كُنَّا أمواتًا بزلاّتنا، أحيانا مع المسيح. إذ بالنِّعمة أنتم مُخلَّصون. ومعه أقامنا، ومعه أجلَسَنا في السَّماوات في المسيح يسوع" (افسس 2: 4-6).

 

الرِّسالة إلى أهلِ فيلبي
المسيح القائم من بين الأموات، يُمجَّد فينا: "لكي يُمجَّد المسيح في جسدي، بالحياة كان أم بالموت. لأنَّ الحياة لي هي المسيح والموتُ ربحٌ" (فيلبي 1: 20-21).
الأناشيد المسيحيّة التي تناقلتها الأجيال المسيحيّة الأولى، وقد ورَدَ بعضها في رسائل بولس، مُرتكزة على حدَث القيامة. هكذا النّشيد الوارد في هذه الرِّسالة، الذي يصف يسوع هكذا: "هو القائم في صورة الله. وضع نفسه وصار طائعًا حتّى الموت موت الصَّليب. لذلك رفعه الله رفعةً فائقة" (2: 6 و8 و9).
ويعتبر بولس غاية حياته المشاركة بقيامة المسيح: "مُنيَتي إذن أن أعرفه هو، وأعرف قدرة قيامته، والشَّركة في آلامه، فأصير على صورته في الموت، على أمل البلوغ إلى القيامة من بين الأموات" (فيلبي 3: 10-11). هذه هي غاية كلّ مؤمن: "أمَّا نحن فموطننا في السَّماوات التي منها ننتظر مُخلّصنا. الرَّبَّ يسوع المسيح، الذي سيحوِّل جسد هواننا إلى جسدٍ على صورةِ جسدِ مجده (أو قيامته)" (فيلبي 3: 20-21).

 

الرِّسالة إلى أهلِ كولوسّي
وفي الرِّسالة إلى كولوسّي نجد أيضًا نشيدًا من تلك الأناشيد الشَّائعة في الجماعة المسيحيّة الأولى، وفيها إبراز سرّ المسيح في القيامة: "المسيح هو أيضًا رأس الجسد أي الكنيسة. إنَّه المبدأ. البكر بين الأموات. لكي يكون هو الأوَّل في كلّ شيء. وفيه ارتضى (الله) أن يحلَّ الملءُ كلُّه" (كولوسّي 1: 18-19).
المعموديّة هي بذار الحياة في المسيح: "تُدفَنون معه في المعموديّة. وتنهضون أيضًا معه. لأنَّكم آمنتم بقدرة الله الذي أقامه من بين الأموات. لقد كنتم أمواتًا من جرَّاء زلاّتكم وقلف أجسادكم فأحياكُم معه" (كولوسّي 2: 12-13).
حياة القيامة على الأرض هي دعوةٌ للقاء السَّماء: "لقد قمتم مع المسيح. ف?طلبوا إذن ما هو فوق، حيث يُقيم المسيح جالسًا عن يمين الله. إهتمّوا لِما هو فوق، لا لِما هو على الأرض. لأنَّكم قد مُتُّم للعالم. وحياتكم مُستترةٌ مع المسيح في الله. ومتى ظهر المسيح الذي هو حياتنا، فحينئذٍ تظهرون أنتم أيضًا معه في المجد" (كولوسّي 3: 1-4).

 

الرِّسالة الأولى إلى أهلِ تسالونيكي
هذه الرِّسالة إلى تسالونيكي هي رسالة انتظار المسيح الحيّ: "وتنتظرون من السَّماوات ابنه، الذي أنهضه من بين الأموات، يسوعَ الذي يُنقذنا من السُّخط الآتي" (1تسالونيكي 10:1).
الرَّاقدون يرقدون على رجاء الحياة في المسيح: "فلئن كُنَّا نؤمن أنَّ يسوع قد مات ثمَّ قام، نؤمن كذلك أنَّ الذين رقدوا في يسوع سيُحضِرهُم الله معه" (1تسالونيكي 14:4).
إنَّنا نحيا ونموت مع المسيح: "الذي مات لأجلنا لكي نحيا جميعًا معه" (1تسالونيكي 10:5).

الرِّسالة الثّانية إلى تيموثاوس
الإنجيل هو إنجيل القيامة وبشرى حياة. نعمة يسوع: "أُظهِرَت الآن بتجلِّي مُخلِّصنا يسوعَ المسيح، الذي أباد الموت، وأبان الحياة والخلود بواسطة الإنجيل، الذي لأجله أُقمتُ أنا كارزًا ورسولاً ومُعلِّمًا" (2تيموثاوس 1: 10-11).
ويذكِّر بولس تلميذَه تيموثاوس بالقيامة: "أُذكر يسوع المسيح، المُتحدِّر من نسلِ داود، الذي أُنهِضَ من بين الأموات بحسب إنجيلي..." (2تيموثاوس 8:2) ويُتابع: "ما أصدق القول: إنْ نحن متنا معه، فسنحيا معه" (2تيموثاوس 11:2).

 

خلاصة تعليم بولس عن القيامة
يُمكننا أن نُبرز الأفكار الأساسيّة في لاهوت بولس حول القيامة هكذا.
في أعمال الرُّسل يؤكِّد بولس على ما يلي:
القيامة هي موضوع الإنجيل والبشارة ولبُّها ومختصرها. الإنسان مدعو لمشاركة المسيح في قيامته. هناك ارتباطٌ وثيقٌ حتميٌّ بين الصَّليب والقيامة. مختصر رجاء آباء العهد القديم هو القيامة. دعوة بولس أن يكون شاهدًا لقيامة معلِّمه السَّيِّد المسيح. لا بل كُلّ مؤمن مدعو للشَّهادة لقيامة المسيح في حياته.
ويُمكننا أن نختصر تعليم بولس عن القيامة في الرَّسائل بهذه الطَّريقة:
بولس شاهد لقيامة المسيح الذي رآه على طريق دمشق. إنَّهُ مفروزٌ لحمل رسالة القيامة. الخلاص عن طريق القيامة. المعموديّةُ موتٌ مع المسيح وقيامةٌ معه. الاتحاد بالمسيح هو اتحاد بقيامته. وبالقيامة نحصل على الحياة الرُّوحيّة. وبالقيامة نُصبح نفحة حياة لمجتمعنا ونُنعشه، لأنَّنا نؤمن بالحياة ونعمل لأجلها. القيامة تقوِّينا في شدائدنا وتُثبِّت الرَّجاء في قلوبنا. وهناك ترابطٌ قويٌّ بين المحبّة والقيامة. وقد أوضحنا ذلك في رسالة الفصح للعام 2007 والتي كانت بعنوان: "المحبَّةُ قيامة". ولهذا فالقيامة مركزيّة في حياة الجماعة المسيحيّة وفي عيش الإيمان. وغاية الحياة المسيحيّة هي الاشتراك بقيامة المسيح. ومُنية بولس هو أن يُشارك المسيح بقيامته. وغاية المؤمن أن يُشارك المسيح بقيامته، بخاصَّة في المعموديّة.
وهكذا فالحياة المسيحيّة كلُّها مرتبطة بالقيامة. ولذا يذكِّر بولس المؤمنين دومًا بالقيامة في كُلِّ رسالة. والمسيحي يعيش في انتظار دائم للقيامة. وكما قام المسيح نحن سنقوم! لا بل المسيح يتمجَّد بقيامتنا. وهكذا فإنَّ محتوى الإنجيل الأساسي هو القيامة. ومحبّة الله للبشر تظهر نحونا بخاصَّة من خلال قيامة المسيح ودعوته أن نشاركه بقيامته، ونعيش القيامة منذ هذه الحياة، حتَّى نشترك بها في الحياة الأبديّة.

 

الجماعة المسيحيّة الأولى، جماعة قيامة
هذا "المشوار" مع بولس من خلال رسائله، أظهر لنا أنَّ بولس هو حقًّا معلِّم القيامة. طقوسنا الكنسيّة توزِّع أحداث القيامة الواردة في الإنجيل المقدَّس إلى أحدَ عشر فصلاً، تُتلى في صلاة سحر الآحاد على مدار السَّنة.
أمَّا بولس فإنَّه يُحلِّل خبرة القيامة من خلال خبرته الشَّخصيّة، أوَّلاً على طريق دمشق حيث ظهر له شخصيًّا بعد أن ظهر لباقي الرُّسل كما ذكرنا أعلاه. ثمَّ من خلال حياته الرَّسوليّة. ويترجم كلّ ذلك إلى تعاليم روحيّة وتوجيهات لتثبيت إيمان الجماعة المسيحيّة الأولى، التي عاشت سرَّ القيامة. لا بل إنَّ حياة الجماعات المسيحيّة التي أسَّسها بولس وباقي الرُّسل في الشَّرق والغرب، قد تمحورَتْ على حدث القيامة! يتكلَّم بولس عن هذه الاجتماعات يوم الرَّبّ، يوم الأحد. ويُعطي التَّوجيهات اللاّزمة بشأنها، في رسالته الأولى إلى كورنثوس "عندما تجتمعون إذن، في المكان الواحد لأكل عشاء الرَّبّ" (1كورنثوس 11: 20-27). وهذا ما ورَدَ تكرارًا في أعمال الرُّسل: "وكانوا مواظبين على تعليم الرُّسل، والشركة وكسر الخبز والصَّلوات" (أعمال 42:2).
هذا ما يُخبرنا عنه يوستينوس النَّابلسي أوَّل فيلسوف مسيحي، عندما يتكلَّم عن الاحتفال بسرّ الافخارستيّا الذي هو احتفال بقيامة السَّيِّد المسيح يوم الأحد.
واحتفلت الجماعة المسيحيّة بالسِّرِّ الأكبر في المسيحيّة، بالمعموديّة المُقدَّسة في إطار الاحتفال بليترجيا عيد القيامة. وهذا ما ورد في المؤلَّفات المسيحيّة الأولى في راعي هرماس وتعليم الرُّسل. لا بل الأسرار المُقدَّسة كلّها تتمحور حول سرّ القيامة. والمسيحي يعيش سرّ القيامة من خلال الأسرار المُقدَّسة، ومن خلال ليترجيا القدَّاس الإلهي يوم الأحد. وأصبح اليوم الأوَّل من كُلِّ أسبوع، يوم القيامة. لا بل تمحورتْ الحياة المسيحيّة حول يوم الأحد.

 

اللِّيترجيَّا احتفالٌ بالقيامة
الكنيسة تعيش سرّ القيامة يوميًّا، من خلال الاحتفال بالأعياد المُقدَّسة (أعياد السَّيِّد والسَّيِّدة والقدِّيسين). وبخاصَّة الليترجيّا الإلهيّة التي هي الاحتفال بسرّ القيامة. وفيها يرِد ذكر القيامة مرارًا: قُبَيل البدء باللِّيترجيّا: "أيُّها المسيح كنتَ في القبر بالجسد... وبما أنَّكَ إلهٌ في الفردوس مع اللِّصّ". وفي نشيد "يا كلمة الله" نقول: "وصُلِبتَ أيُّها المسيح الإله، وبالموتِ وَطِئتَ الموت". ويوم الأحد نُنشِد: "خلِّصنا يا ابن الله. يا مَن قام من بين الأموات". ونُنشِد: "لِصليبِكَ يا سيِّدنا نسجُد، ولقيامتِكَ المُقدَّسة نُمجِّد". ويُصلِّي الكاهن بعد نقل القرابين: "إنَّ يوسف الوجيه أنزَلَ من الخشبة جسَدَكَ الطَّاهر. ولفَّهُ بكفنٍ نقيٍّ وحنوط. وجهَّزَهُ ووضعَهُ في قبرٍ جديد". كما أنَّ الأناشيد المنقوشة على لوحة الأندمنسيون تُشير إلى القيامة، لأنَّ المائدة المقدّسة في الهيكل تُمثِّل القبر المُقدَّس مكان حادثة القيامة. ونقرأ مكتوبًا عليها: "أيُّها المسيح كنتَ في القبر بالجسد وفي الجحيم بالنَّفس، وبما أنَّكَ إلهٌ في الفردوس مع اللِّصّ، وعلى العرش مع الآب والرُّوح مالئًا كلَّ شيءٍ يا مَنْ لا يحدُّهُ شيء". وأيضًا: "أيُّها المسيح إنَّ قبرَكَ يُنبوعَ قيامتنا، قد بدا حاملاً الحياة وأبهى من الفردوس وأسنى من كُلِّ خِدرٍ مَلَكيّ".
وطبعاً إعلان إيماننا في قانون الإيمان هو إعلان القيامة: "أؤمن... بأنَّ يسوع تألَّمَ وقُبِرَ وقام في اليوم الثَّالث... وأترجَّى قيامة الموتى والحياة في الدَّهرِ الآتي. آمين".
وفي صلاة الشُّكر (الأنافورا) نشكر الله على أنَّهُ "أصعَدَنا إلى السَّماء، وأنعمَ علينا بمُلكِهِ الآتي".
وفي صلاة الذِّكر نتذكَّر أحداث التَّدبير الخلاصي: "نذكر الصَّلب والقبر والقيامة في اليوم الثَّالث". ونذكر "الرَّاقدين على رجاء القيامة للحياة الأبديّة". ونتناول جسد الرَّبّ ودمه "لمغفرة الخطايا، وللحياة الأبديّة" عربونًا للقيامة! وتنتهي ليترجيّا يوحنّا فم الذَّهب يوم الأحد بالصَّلاة: "المجدُ لكَ أيُّها المسيح إلهنا000يا مَن قام من بين الأموات".
وفي صلوات الشُّكر بعد المناولة يتكرَّر ذكر القيامة كثمرة لتناول جسد الرَّبّ ودمه.
ويتردَّد ذكر القيامة أيضًا في ليترجيّا القدِّيس باسيليوس. ونقرأ في صلاة الشُّكر (الأنافورا): "إنَّ الذين يموتون في آدم يَحيَون في مسيحِكَ نفسِه". وبتجسُّدِهِ "يجعلنا شُركاءَهُ في صورة مجده". "وقد أبطَلَ أوجاع الموت. وقام في اليوم الثَّالث. ونهجَ لكُلِّ جسدٍ القيامة من بين الأموات... وصار بكرًا بين الأموات". وتُتابع الصَّلاة: "هذا اصنعوه لذكري. فإنَّكم كُلَّ مرَّةٍ تأكلون هذا الخبز، وتشربون هذه الكأس، تُخبِرون بموتي وتعترفون بقيامتي. فإذ نذكرُ آلامَه الخلاصيّة وصلبَه المُحيي ودفنَه الثُّلاثي الأيّام. وقيامتَه من بين الأموات...". وتنتهي اللِّيترجيّة الإلهيّة بهذه الصَّلاة الجميلة: "لقد تمَّ و?نتهى على قدر طاقتنا سرُّ تدبيرِكَ... وحصلنا على تذكار موتِكَ.... ونظرنا رسمَ قيامتِكَ. و?متلأنا من حياتِكَ التي لا نهايةَ لها".
ويتردَّد مرارًا ذكر القيامة في ليترجيّا الأقداس السَّابق تقديسها: "أيُّها الإله العظيم المجيد. يا مَنْ بموتِ مسيحِهِ المُحيي نقلَنا من الفناء إلى البقاء".
وفي الصَّلاة الختاميّة نقرأ: "الله أوصلَنا إلى هذه الأيَّام... لرجاء القيامة... أهِّلنا لنظهَرَ غالبين الخطيئة. ونبلُغَ بلا دينونةٍ إلى السُّجود لقيامتِكَ المُقدَّسة".
وماذا نقول عن الذِّكر المُتردِّد بلا ملَلٍ ولا كلَلٍ عن القيامة في صلواتنا الطَّقسيّة: في أعياد السَّيِّد والسَّيِّدة وأعياد القدِّيسين، ووصف جهادِهِم ومديحِهِم؟ تكفي الإشارة إلى الكتاب المدعوِّ "المُعزِّي" أو كتاب "الثَّمانيّة ألحان" (أكتوئيخوس) حيث رتبة صلوات الآحاد تحتوي على مئات الأناشيد إذا لم نقلْ آلاف الأناشيد التي تتكلَّم عن حادثة القيامة وروحانيَّتها ومعانيها ومفاعيلها... بحيث يظهر صريحًا من خلال هذه الصَّلوات أنَّ كُلَّ أحدٍ على مدار السَّنة هو أحد القيامة، أو ما يُسمَّى "الفصح الصَّغير"، بينما أحد الفصح أو عيد القيامة هو الفصح الكبير!
أوَّل كنيسة في تاريخ المسيحيّة بَنَتها في القدس القدِّيسة هيلانة أمّ الإمبراطور قسطنطين الكبير (عام 335) إسمُها كنيسة القيامة! أو كنيسةُ القبر المُقدَّس (عند الغربيِّين). ولُقِّبَ المسيحيون الأولون بكونهم "أبناء القيامة". وكم هو جميلٌ أن نسمع المؤمنين في القدس يقولون: أنا ذاهبٌ إلى "القيامة"، بدل القول إلى كنيسة القيامة! وليبقَ البشر دوماً على درب القيامة.

 

لا صليب بلا قيامة! ولا قيامة بلا صليب!
لكُلِّ صليبٍ قيامة! ولكُلِّ قيامةٍ صليب!

ترتبط القيامة بالصَّليب، والصَّليب بالقيامة: صليب فقيامة... وقيامة يسبقُها صليب. هذا ليس مُجرَّد "طقس ليترجي"، وعبقريّة ليترجيّة. بل هذا هو التَّعبير الأسمى لواقع الحياة ومترجِّيات الإنسان.
ونقول للإنسان، لكُلّ إنسان: إكتشِفْ في كُلِّ صليب بذورَ بدء القيامة، كما تكتشف في كُلِّ ظُلمةِ ليلٍ مطلعَ الفجر! وفي عُمقِ ألمِكَ، ثِقْ أنَّ القيامة لَكَ ولصليبِكَ. وتعبّر الكنيسة عن التلازم بين ألم الصليب ومجد القيامة وفرحها في الأحد الثالث من الصوم الكبير عندما يطوف الكاهن في الكنيسة حاملاً الصليب الكريم في صينيّة ملأى بالورود والزهور والرياحين.   هكذا نتحقَّق مرَّةً أخرى أنَّ اللِّيترجيا والصَّلوات الطَّقسيّة والطُّقوس، ليست على هامش حياة المؤمن، بل في صميمها! اللِّيترجيا وصلواتنا الطَّقسيّة هي التي تُعبِّر من خلال معانيها وتعاليمها وروحانيَّتها ورموزها، عن واقعنا وتُنير طريقنا. وصَدَقَ مَن قال: مَنْ يُصلِّ يخلُص، ومَنْ لا يُصلِّ لا يخلُص.
إنَّ هذا التّرابط العميق بين الصَّليب والقيامة في اللِّيترجيّا هو تعبيرٌ عن ارتباطهما في حياتنا وتلازمهما وروحانيَّتهما وتواصلهما، والبرهان أنَّه لا وجود للواحد دون الآخر، فلا صليب بلا قيامة، وتَعقُبُهُ وتُخلِّصُنا منه. ولا قيامة بلا صليب في واقع حياتنا. والقيامة تُنزِلُنا عنه.
وكما تلازَمَ الصَّليبُ والقيامة في يسوع، وفي بولس، وفي القدِّيسين، هكذا واقعنا. وهذا ما أكَّدَهُ بولس الرَّسول: "لَو لمْ يقُم المسيح (بعد أن تألَّم وصُلِب) فإيمانُكُم باطل. وأنتم بعدُ في خطاياكم" (1كورنثوس 17:15).
كما أنَّ رفض ربط الصَّليب بالقيامة، والقيامة بالصَّليب يتسبَّبُ بمخاطر كثيرة، منها اليأس والانتحار والإلحاد والظُّلم والخطيئة والإثم والإجرام.
وربط الصَّليب بالقيامة، والقيامة بالصَّليب، هو في صُلب العقيدة المسيحيّة الأكثر أهميّة في حياة المؤمن وفي الفلسفة المسيحيّة. وهما يختصران معاني التجسُّد والفداء، كما يختصران علاقة الإنسان بالله. فإنَّهُ خلَقَنا وما زال يصنعُ كُلَّ شيءٍ حتّى أصعدنا إلى السَّماء... أعني أقامَنا (صلاة الأنافورا في ليترجيّا فم الذَّهب).
لا بل هذا التَّرابط هو مُختصر التَّدبير الخلاصيّ. وهو التَّجاوب الأمثَل مع واقعنا الإنساني وتطلُّعات نفسنا إلى الخلود. فإنَّنا نعيش واقع الصَّليب من جهة، ونَصبو إلى النَّجاة منه، وإلى الخلود وإلى القيامة من جهةٍ أخرى. وهذا هو معنى النُّزول عن الصَّليب، وهذا هو معنى القيامة. وهذه خبرة بولس على طريق دمشق، ومسيرة القدِّيسين والشُّهداء... وهذه رسالة يسوع أن يُخلِّصنا من الصَّليب، ويُنعِمَ علينا بالقيامة.
وقد تنازلَ المسيح معنا حتّى الموت موت الصَّليب... نزَلَ إلى واقعنا البشريّ... ثمَّ قام ليُحقِّق آمالَنا بالقيامة. وهو كما نقرأ في صلاة السَّجدة يوم اثنين العنصرة: يسوع هو "المُحيي جَرحى سِهامِ الموت بآمال القيامة" وهو "الذي بشَّرنا بآمال القيامة والحياة التي لا يشوبها فساد..." فهو مبدأ قيامتنا... الذي شاركنا باللَّحم والدَّم ليكون شبيهًا بنا من أجل فرط تنازله. والآخذ باختياره آلامنا وأهواءَنا... وقد اقتادنا إلى عدم الآلام واللاهوى (أي إلى القيامة) (رتبة السَّجدة).
وهذا ما يبدو ببيان رائع في صلاة تقديس النُّور صبيحةَ سبت النُّور، حيث نجد وصفًا لمجمل التَّدبير الخلاصي، والتَّسلسُلَ بين التَّجسُّد والخطيئة والصَّلب والموت والقيامة ودخول الفردوس. وهذا جزء من هذه الصَّلاة: "أنتَ أيُّها المُخلِّص. وضعتَ ناموسًا للإنسان الأوَّل إذ كان في حالة النُّور. ليَهديَهُ ويُرشدَهُ إلى العالم الجديد. ويُرغِّبَهُ في نموِّ الحياة الأبديّة. لكنَّهُ تعدَّى وصيَّتَكَ وسقطَ من ذلك المجد العظيم الذي كان فيه. وأمات ذاتَهُ بسَقطَتِهِ. وصار مَنفيًّا عنكَ أيُّها النُّور الممجَّد. أمَّا أنتَ أيُّها الرَّبُّ المحبُّ البشر، فبموتكَ وكثرةِ صلاحِكَ ورأفتِكَ التي لا قياس لها. تنازلتَ إلى حقارَتِنا نحنُ الخطأة المَرذولين. لِتَردَّنا إلى ذَيْنِكَ المجد والنُّور الأوَّلَين اللذَين سقطنا منهما. وقد ?رتضيتَ أن تسكنَ القبر لأجلنا نحن المُخالِفين وصاياكَ الإلهيّة. ونزلتَ إلى الجحيم. وبلَغتَ إلى أعماق الأرض. وسحقتَ الأبواب الدَّهريّة. وأنقذتَ الجالسين في ظلامِ الموت ورفعتَهم. وأنرتَ جنسنا البشريّ بقيامتِكَ في اليوم الثّالث. ومنحتَ العالم حياةً جديدة. مُنيرًا الكُلَّ أفضلَ من الشَّمس. وأعدتَ طبيعتنا بمراحمِكَ إلى مقامها الأوَّل. وإلى النُّور المجيد الذي نُفيَتْ منه. وإذ قد أنهضتَنا وأقمتَنا من وَهدةِ الخطيئة. وأعتقتَنا من ظلام المآثم. أهِّلْنا برأفتِكَ الجزيلة، أن نُسرِجَ مَصابيحَنا من شُعاع هذا اليوم، رَسمِ قيامتِكَ المجيدة البهيّة. وامنح كنيستَكَ المُقدَّسة الجامعة الرَّسوليّة هذا النُّورَ الكامل".
ومعنى هذه الصَّلاة هو أنَّ المسيح تنازَلَ إلى واقعنا (واقع الصَّليب) صُلِبَ ليُشاركنا واقعنا. وقام ليكون على مستوى آمالنا وطموحاتنا وصُبوِّنا إلى الخلود. وبمعنى آخر: أراد الإنسانُ أن يُصبح إلَهًا فخاب أملُهُ، فصار الإلهُ إنسانًا ليُصبح الإنسان إلَهًا.

 

ليَقُمِ البشرُ مع المسيح
ورَدَ في رسالة الصَّوم "أنا مصلوبٌ مع المسيح"، مقطع بعنوان: "لِنُنزِلِ الفقير عن الصَّليب". واليوم في عيد القيامة البهيجة نقول: "لِيَقُمِ الفقير مع المسيح!" وبدَلَ أن يرتفع الفقير على الصَّليب، فليَرتَقِ إلى أفراح القيامة. وتربط الليترجيا والطقوس بين قيامة المسيح وقيامة الفقير بشكل رائع عندما ينثر الكاهن غار الانتصار يوم سبت النّور وهو يرنّم بنشيد "قم يا ألله واقضِ في الأرض ..." يردَّد بعد آيات مزموريّة تدعو إلى "القضاء لليتيم والفقير وإنصاف المسكين والبائس". فإنَّنا عندما نَحِنُّ على الفقير ونُنزلُهُ عن صليبه (مهما كان نوع هذا الصَّليب) لا يكفي أن نُحسِّن وضعه الاجتماعي، أو الصِّحيّ، أو الحياتيّ. بل علينا أن نعمل على سَدِّ جوعه وعطَشِهِ إلى الله، وهكذا نُشرِكُهُ بحياة الله. وهذا ما قاله لنا يسوع: "إعمَلوا للطَّعام الباقي، فاقتنوا لا الطَّعامَ الذي يزول، بل الطَّعامَ الذي يبقى للحياة الأبديّة" (يوحنّا 27:6).
وهذا هو عمل رسالة الكاهن والرَّسول والمؤمن الحقيقي: أن نُشرِك الآخرين بحياة الله. وهذا ما نقرأهُ في خدمة صلاة سَحَر يوم الأربعاء من الأسبوع العظيم: "على المؤمن أن يُشرِكَ الجاهلَ بالكلمة".
وهكذا تبدو واضحةً العلاقة بين قيامة المسيح وقيامتنا. وكُلَّ مرّةٍ نحتفل بالقيامة في عيد الفصح، العيد الكبير، أو عندما نُشارك في ليترجيا الأحد، بذكرى قيامة السَّيِّد المسيح، نشحن نفوسنا بشحنةٍ جديدة من الأمل والتَّفاؤل. وهكذا القول عن مفعول الصَّلاة الشَّخصيّة والبيتيّة وقراءَة الكتاب المُقدَّس، والإنجيل المُقدَّس، ورسائل القدِّيس بولس، إلخ... والقراءة الرُّوحيّة، وإنعاش الحياة الرُّوحيّة... كلّ هذه مناسبات وعوامل فعّالة لشحن نفوسنا بقوّة القيامة. ومن خلال ذلك تُصبح القيامةُ قيامتَنا وليس فقط ذكرى قيامة المسيح. وتنتعش نفوسنا بالتَّفاؤل الحقيقي.
فالصَّليب هو واقع ضعفنا. والقيامة هي دعوتنا الإلهيّة، وهي تحقيق آمالنا بالخلود. فإنَّنا نريد كلّنا أن نُخلَّدَ بأولادنا ونجاحنا ومشاريعنا وتفوُّقنا... لكنَّ الخلود الأكبر والتَّعبير الأسمى عنه هو القيامة! الخلود مع المسيح وبالمسيح. لأنَّه يُقيمنا بقيامته.
كُلّ إنسان يصبو إلى الخلود، ويُريد الإنسانُ أن يُشاركَ الله في خلوده وأبديَّته وفي حياته. بحيث إنَّ سلسلة ومسلسل الحياة والموت والقيامة، هو واقع ينتظرُنا كلَّنا. وأنَّ الموت ليس حالة بل مرحلة! الموت هو الانتقال من حياة أرضيّة إلى حياة سماويّة، إلى حياة أخرى. ويبقى الموت مفاجأة! مفاجأةٌ بتوقيته، وبما ينتظرنا بعد الموت... كما قال بولس: "ما لَم ترَهُ عينٌ، ولم تسمع به أُذن، ولم يخطر على قلب بشر، ما أعدَّهُ الله للذين يُحبُّونه" (1كورنثوس 9:2).
والمسيحي ليس فقط يؤمن بقيامة السَّيِّد المسيح ويفتخر بها، ويُدافع عن حقيقتها، بل هو إنسان يؤمن أن يكون بدوره ?بنًا للقيامة، وعاملاً في سبيل قيامة الآخر، وأسرته، وأترابه، ومواطنيه، والمجتمع عموماً... بحيث يُحقِّق قول السَّيِّد المسيح: "إنَّما أتيتُ لكي تكون لهم الحياة وتكون لهم أوفر" (يوحنّا 10:10). لا بل عقيدة القيامة وإيماننا بها، يعني العمل اليومي في سبيل القيامة اليوميّة، في الحياة اليوميّة، ومن خلال حياتنا اليوميّة. ولذا لُقِّبَ المسيحيُّون الأوَّلون وبخاصَّةٍ في بلاد سوريا الكبرى، لُقِّبوا بكونهم "أبناء القيامة". فأصبحت القيامة نَسَبَهُم و?سم أسرَتِهم المسيحيّة، وجزءً لا يتجزَّأ من شخصيَّتهم وهويَّتِهِم!
فالقيامة تبدأ مع المسيح. وتبدأ هنا في حياتنا الأرضيّة، ولكنَّها تتحقَّق نهائيّاً بكمالها في السَّماء. وهنا نبني حضارة المحبّة، حضارة الحياة، حضارة القيامة. فالقيامة ليست فقط أساس إيماننا وهي في أساس معتقداتنا المسيحيّة، بل هي أساس خلقيَّتنا، والتزامنا في الكنيسة، وفي المجتمع، وفي الوطن، وفي المهنة، بحيث نكون صانعي قيامة، وخدَّامَ الحياة.
بلا قيامة وآمال القيامة وعيشِ القيامة يوميًّا، إحباطٌ ويأسٌ وتفاهةٌ وانتحارٌ وعنفٌ وإرهاب، وتفتُّتُ الحياة الزَّوجيّة والعائليّة، والعلاقات الاجتماعيّة، وقوقعةٌ وموت...
وبالعكس فإنَّ عقيدة وحقيقة القيامة، تُعطي معنى لحياتنا وهدفًا لها، معنى للعطاء والتَّضحية والخدمة... ولدعم مشاريع التنمية والازدهار... ولمساعدة الفقراء، والاختراعات والتّطوُّر العلمي لأجل محاربة الأمراض التي تفتك بملايين من البشر، بسبب عدم توفُّر الأدوية الفعَّالة لمحاربة الأوبئة المختلفة...
ليَقُم البشر مع المسيح، يعني ذلك أن ينزل البشر عن الصَّليب ويُشرِكوا الفقير والضَّعيف والمُستضعف والمُتألِّم بقيامة المسيح... يعني ذلك أن نجعل صليب هذا الإنسان المُعذَّب والمحروم، أن نجعله يتحوّل إلى قيامة. يعني أن نُنزل الفقير عن الصَّليب ونُشركه بالقيامة، بالحياة، بخيراتها، بمداخيلها، وإذ ذاك نكون ساهمنا كثيرًا في مكافحة الإرهاب، والعنف والأصوليّة... أشرِك النَّاس بالقيامة، بالحياة الكريمة الشَّريفة، أعطِهِم حقوقهم، تُزيلُ كَمًّا كبيرًا من هذه الآفات المُجتمعيّة التي هي التَّهديد الأكبر لمجتمعاتنا. لا بل هي الحرب الباردة، والفوضى الاجتماعيّة التي لا انتصار لأحد فيها، ولا تعرف كيف تأتي، وكيف تتَّجه، وإلى أين تذهب. ومَنْ سيكون ضحيَّتَها المًُقبِلة... وكثيرًا ما يكون الظُّلم على أنواعه سببًا للعنف والإرهاب والأصوليّة. والدِّين أبعد ما يكون عنها، لا بل هو بَرَاءٌ منها. وبالعكس يُستعمل الدِّين واجهة لها، ويُستغلُّ الدِّين والقِيَم الإيمانيّة الدِّينيّة، لأجل أهداف غير مشروعة وهدَّامة.
هذه هي القيامة التي يتكلَّم عنها بولس في رسائله. وكانت رؤية المسيح القائم والحيّ في أساس هدايته ورسالته وإنجيله. لقد عاش سرَّ القيامة بكلّ أبعادها ومن خلال جولاته الرَّسوليّة وجهاده المُستمرّ المُستميت في سبيل نشر إنجيل القيامة. ولذا فهو حقًّا رسول القيامة. وقد شرحها شرحًا رائعًا من خلال رسائله كما أوضحنا أعلاه. وقد جمع بطريقةٍ رائعة في حياته وتعاليمه و"إنجيله"، بين الصَّليب والقيامة.

 

"لقد قمتم مع المسيح"
"أنا مصلوبٌ مع المسيح"... لستُ مصلوبًا وَحدي، هذا ما قاله القدِّيس بولس. وهذا ما شرَحنا معناه مُفصَّلاً في رسالة الصَّوم. هذه العبارة هي بصيغة الحاضر والحال. وتأتي العبارة الأخرى المُكمِّلة لها وهي من بولس نفسه الذي يصف نفسه ويرى ذاته مُعلَّقًا على الصَّليب، ولكنَّهُ يؤكِّد بدون موارَبة: "لقد قُمتُم مع المسيح" بصيغة الماضي والحاضر والمستقبل. ويُتابع: "وحياتُكُم مُستترةٌ مع المسيح... ومتى ظهر المسيح الذي هو حياتنا، فحينئذٍ تَظهرون أنتم معه في المجد" (كولوسّي 3: 3-4). وهذا يعني لا صليب بدون المسيح، ولا قيامة بدون المسيح.
هذا هو الرَّجاء المسيحي الكبير وهذا هو العيد الكبير، وبهذا الرَّجاء نختتمُ الإعلان عن إيماننا المسيحي بكُلِّ أبعاده الأرضيّة والسَّماويّة في قانون الإيمان مُعلِنين: "وأترجَّى قيامة الموتى والحياة في الدَّهر الآتي. آمين".
لأجل تقوية هذا الرَّجاء في قلوب ونفوس وضمائر أبنائنا، نُقدِّمُ لهم آياتٍ بولسيّة مُختارة، لكي تُصبح شعاراتٍ روحيّةٍ لهم:
"أُريدُ أن أنحلَّ فأكون مع المسيح
"إنْ مُتنا أو عِشنا فنحن للربّ
"وهكذا نكون مع الرَّبّ دائمٍا
"إنَّنا ننتظر المدينة ذاتَ الأُسس
"يُزرعُ جسدٌ بهوان ويقوم بمجدٍ
"يُزرعُ جسدٌ بضعفٍ ويقومُ بقوَّة
"يُزرعُ جسدٌ حيواني ويقومُ جسدٌ روحانيّ
"لا بُدَّ لهذا الجسد الفاسد أن يلبَسَ عدم الفساد
"لا بُدَّ لهذا الجسد الفاسد أن يلبَسَ عدم الموت
"ماتَ يسوع لكي لا يحيا الأموات لأنفُسِهِم، بل للذي مات وقام لأجلِهِم
"وإذا كان رجاؤنا بالرَّبّ فقط في هذه الحياة، فنحنُ أشقى النَّاس أجمعين...
"وإذا لم يقمِ المسيح... فإيمانُكُم باطل!
"يسوع سيُحوِّلُ جسد هواننا إلى جسدٍ على صورة جسدِ مجده (أو قيامته)
" إنّهُ ماتَ لأجلنا لكي نحيا جميعنا معه".

 

الأرضُ والسَّماء
آمال القيامة تُنعِشُ حياتنا على الأرض هنا، وهناك في السَّماء بعد الموت. لأنَّنا على يقينٍ أنَّنا نولَدُ لنموت! ولكنَّنا على يقينٍ أيضاً أنَّنا نموت لنحيا! وهذا ما عبَّرَ عنهُ الشَّاعر: "ما أضيَقَ العيش لولا فسحةُ الأمل!".
وهنا ومن خلال العقيدة المسيحيّة بقيامة السَّيِّد المسيح، تبرز العلاقة الأساسيّة بين الأرض والسَّماء. وقد عبَّرَ عن ذلك بولس الرَّسول بقوله: "إنَّ وطننا في السَّماء" (فيلبي 20:3). وقال أيضًا: "ليسَ لنا ههنا مدينةٌ باقية، بل نطلبُ الآتية" (عبرانيُّون 14:13).
المسيحي وكُلّ إنسان مُعرَّضٌ لتجربةٍ مزدوجة: ألاّ يصل بين الأرض والسَّماء ، بين الواقع والمُترجَّى يعني أن يكتفي بالأرض، فيعمل فقط لدُنياه، أو يكتفي بالسَّماء، فيعيش في غُربةٍ طوباويّة. تاركاً ما على الأرض للأرض، وما هو تراب للتُّراب. ولا يكون عاملاً فعَّالاً بنَّاءً مُساهماً في مجتمعه. فيعيش في قوقعةٍ قتَّالة له ولغيره.
الإيمان المسيحي بقيامة السَّيِّد المسيح، يُساعد المؤمن لكي يربط الأرض بالسَّماء. ومعروفٌ القول المأثور: "إعملْ لدُنياك كأنّكَ تعيشُ أبدًا. واعملْ لآخرتِكَ كأنَّكَ تموتُ غدًا". وعدم الجمع بين هذَين القُطبَين: الدُّنيا الحاضرة والآخرة المُنتظَرَة، يقود إلى الانتحار الذي هو إنكار الحياة هنا وهناك، وعدم فهم لمعناها وهدفها. أو يقود ذلك إلى الإلحاد، حيثُ تزول كُلُّ القناعات. والإلحاد والانتحار موقفان لموقفٍ واحد وعلى أساس قاعدة خاطئة واحدة. وقال بهذا المعنى قداسة البابا بندكتوس السَّادس عشر، وكان بعدُ أستاذاً جامعيًّا: "إنَّ الأمل بالسَّماء لا يقفُ ضدَّ الوفاء للأرض، لأنَّهُ أملٌ للأرض أيضًا. ولنا نحن المسيحيِّين الحقّ وعلينا الواجب أن نحملَ الأمل إلى ما هو مؤقَّت أيضًا، إلى صميمِ دُوَلِنا، يَحدو بنا الأمل بما هو أعظم ونهائي" (من كتاب الكاردينال راتسِنغر "قِيَمٌ في أزمنة التَّحوُّل"، تُرجِمَ إلى العربيّة بعناية مؤسَّسة أدنأور. (ص 81-82).
تاريخ الكنيسة شاهدٌ على أنَّ آباء الكنيسة والقدِّيسين لم يكونوا غرباء عن الأرض وهموم مواطنيهم. وقد أعطينا براهين عن ذلك في رسالتنا الميلاديّة لعام 2003، بعنوان "الفقر والإنماء". وشرَحنا كيف عمِلَت الكنيسة من خلال قدِّيسيها ومؤسَّساتها الخيريّة والثَّقافيّة والصِّحيّة والاجتماعيّة، على تطوير المجتمع وتحسين الظُّروف المعيشيّة للبشر. وبالعكس المسيحي الحقيقي المؤمن بالقيامة وبالحياة الأخرى، هو الذي يكون أكثر التزامًا بقضايا مجتمعه وبخدمة أبناء بلدته. وإلى هذا دعا المجمَع الفاتيكاني الثّاني في مطلع الوثيقة المفصليّة بعنوان "الكنيسة في عالم اليوم" (عام 1965): "إنَّ آمال البشر وأفراحهم، في زمننا هذا، إنَّ أحزانهم وضيقاتهم، ولاسيَّما الفقراء منهم والمُعذَّبين جميعًا، لَهيَ أفراح تلاميذ المسيح وآمالهم، هي أحزانهم وضيقاتهم. وهل من شيء إنساني حقّ إلاّ ولَهُ صداهُ في قلوبهم؟... إنَّهم يحملون رسالة خلاص عليهم أن يعرضوها للجميع" (رقم 1).
يتساءل بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس: "ولكن يقول قائل: كيف يقوم الأموات؟" (1كورنثوس 35:15). لقد حاولنا أن نشرح هذا التَّساؤل من خلال تعليم القدِّيس بولس. ونُحبّ أن نُجيب على هذا التَّساؤل الذي يدور في خَلَدِ وفكر الجميع وليس فقط في خلدِ البعض. وذلك من خلال رواية عن راهبَين كانا يتأمَّلان معًا ويتساءَلان نفس السُّؤال الذي يطرحه بولس: "كيف يقوم الأموات؟ وكيف تكون قيامة جسدنا؟ هل ستختلف حياتنا وأجسادنا هناك عن هنا؟ وهل الحال في السَّماء يختلف عمَّا نتصوَّره هنا أو هو غير ما نتصوَّره؟ أي هل هو اختلافُ كمٍّ أو شيءٌ آخر؟". وباللاتينيّة هل هو Qualiter أو Aliter ؟ وتعاهَدا أنْ من يموت قبل رفيقه سيُجيبُهُ عن هذا السُّؤال بعد أن يدخل السَّماء! ومات الرَّاهب الأوَّل وأرسلَ رسالةً مُقتضَبة لرفيقه الرَّاهب قائلاً: هو اختلافاً تماماً عمَّا هو تصوُّرنا على الأرض! وباللاتينيّة Totaliter Aliter !

 

عيدُ القيامة في سجنٍ شيوعيّ
إبَّانَ الحكم الشُّيوعي حدَثَ في أحدِّ السُّجون الكبيرة في موسكو وذلك ليلة عيد الفصح والقيامة المجيدة ما يلي: تعشَّى السُّجناء كالعادة السَّاعة الخامسة مساءً، وأُدخِلوا مهاجعهم المُشتركة الكبيرة الباردة. يُحاولون النَّوم ولكن عبَثًا. والحُرَّاسُ على مداخل المهجع. وقُربَ منتصف اللَّيل عند اقتراب إعلان بُشرى القيامة في الكنائس، وفي قلوبهم شوقٌ عارمٌ دفين أن يُشاركوا في هذه الفرحة، في كنائسهم مع عائلاتهم. وفي صمتِ اللَّيل الرَّهيب وعتمتِهِ الدَّامسة، إنطلقَ صُراخُ أحدِ المساجين بأعلى صوتهِ مُعلِناً كما يفعل البطريرك الرُّوسي في موسكو: "المسيح قام (وبالرُّوسيّة: خريستوس فوسكريسيه)" وانتصبَ مئاتُ المساجين على أسرَّتِهِم وأنشدوا معاً بمِلءِ حناجرِهِم: "المسيح قام من بين الأموات، ووطِئَ الموتَ بالموت، ووَهَبَ الحياة للذين في القبور". و?نضمَّ الحُرَّاس "الشُّيوعيُّون الأرثوذكس" إلى المساجين وأكمَلوا أناشيد القيامة كاملةً، واحتفلوا معاً بالقيامة داخل السِّجن!.
عالَمُنا يحتاج إلى صرخة القيامة! إلى قناعة القيامة! إلى آمال القيامة! ونُصلِّي لكي تغزو عالمنا البائس آمالُ القيامة، فيُنشدَ البشر معًا آمالَهُم بالقيامة والحياة والسَّلام والفِداء والخلاص.

 

باقةُ معايدة
نُقدِّمُ هذه التَّأمُّلات "القياميّة البولسيّة" باقةً روحيّة في عيد القيامة المجيدة، لجميع إخوتنا الأساقفة الموقَّرين، ولجميع أحبَّائنا الكهنة والشمامسة والرُّهبان والرَّاهبات والمُكرَّسين والمُكرَّسات وطلاّب الكهنوت، وطالِبي الحياة الرّهبانيّة والتَّكرُّسيّة، والعلمانيِّين المُكرَّسين خارج إطار الرَّهبنة، وإلى جميع أبنائنا وبناتنا في أبرشيّاتنا ورَعايانا ورهبانيَّاتنا وأديارنا المُقدَّسة، في البلاد العربيّة وفي العالم أجمع.
ونطلب إلى الله أن يبقَوا أُمناء لعهود معموديَّتِهم وهي عهود قيامة، وأُمناء للَقَبِهِم التَّاريخي "أبناء القيامة"، يعيشون القيامة في كُلِّ مرافق حياتهِم، ويَبعثون آمال القيامة في مُجتمعهم.
ومعاً نُنشد بلا مللٍ ولا كلل، مُعلِنين في العالم أجمَع بُشرى القيامة البهيجة: "المسيح قام! حقًَّا قام! ووَهَبَ الحياة للعالم".

مع محبَّتي وبرَكتي

 


 

+غريغوريوس الثّالث
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والاسكندريّة وأورشليم 
للرُّوم الملَكيِّين الكاثوليك