صاحب الغبطة يوسف

رسالة الميلاد 2004

٢٥ ١٢ ٢٠٠٤





رسالة صاحب الغبطة البطريرك غريغوريوس الثالث
بمناسبة ميلاد ربّنا وإلهنا ومخلّصنا وسيدنا يسوع المسيح بالجسد
25 كانون الأول 2004
____________


عمانوئيل: الله معنا (متى 23:1)

"عمانوئيل" هو الاْسم الذي أوحى به الله إلى أشعيا النبي قائلاً: "ويدعى اسمه عمانوئيل أي الله معنا " (أشعيا 14:7). أما الملاك فقد تراءى ليوسف في الحلم وقال له: "يا يوسف ابن داود لا تخفْ أن تأخذ امرأتكَ مريم. فإن المولودَ منها إنما هو من الروح القدس. وستلدُ ابنًا فتسمِّيه يسوع. لأنه هو الذي يخلّص شعبه من خطاياهم" (متى1: 20-21). أما يوحنا تلميذ يسوع ورسوله الحبيب والمتّكئ على صدره والذي عاش خبرة رائعة فريدة مع معلّمه يسوع، فهو يطلق عليه اسماً يفوق كل الأسماء ويجمع بينها قائلاً:"الله محبّة" (1 يو 4: 8).
وهكذا تتجمّع لدينا ثلاثة أسماء لمن قال عن نفسه "أنا الكائن". ونرى هذا الاسم في الهالة المحيطة بأيقونة السيّد المسيح بالأحرف اليونانيّة (ο ω v). هذا الكائن الخالق، الضابط الكلّ، هو في علاقة مع خليقته، مع الكون، مع الطبيعة، مع كل الكائنات، لأنه يُحبُّها، ولم يُبغض شيئاً مما خلقه، لأنه خلق كلَّ شيء بفيض محبّته للبشر ولكلِّ خلائقه. وهذا ما تُعبّر عنه هذه الأسماء الثلاثة بترابط وثيق، وتتحقق معانيها في شخص يسوع المسيح.
هكذا نقرأ في قانون الإيمان الذي نتلوه كلّ يوم وهو يشكّل قاعدة إيماننا وأساس روحانيّتنا ودستور مسلكنا الإنساني والأدبي والأخلاقي. بعد الفقرة الأولى المتعلّقة بالخلق "أومن بإلهٍ واحدٍ آبٍ ضابطِ الكلّ خالقِ السماوات والأرض"، تأتي الفقرة الثانية، "وبربّ واحدٍ يسوع المسيح ابن الله الوحيد...الذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا نحن البشر، نزل من السماء وتجسّد من الروح القدس ومن مريم العذراء وصار إنساناً".
الله الواحد الصمد، هو في علاقة دائمة مع خلائقه. فقد خلقها. وأتى السيّد المسيح يجسِّد هذه العلاقة من خلال الميلاد الإلهي والتجسّد والفداء والخلاص، الذي هو التعبير الإسمي لعلاقة الله بالبشر، وعربون محبّته لهم. وكما يقول المثل الدارج: "الذي يحبّ الثاني ، الآخر، يأتي إليه".
لا بل أصبح التجسّد يعني علاقة مع الآخر. وأصبح اسم الإله المتجسّد "الله مع"، عمانوئيل. وأتى الاْسم الآخر للإله المتجسّد "يسوع"، ويعني المخلّص، لأن هذا الإله المتجسّد إنما أتى إلى الأرض وخالط البشر، وأخذ جسداً من جسدهم، ولحماً من لحمهم، ودماً من دمهم، وعظماً من عظامهم، لكي يخلِّصهم ويفديَهم من الشرِّ والإثم والخطيئة. وأتى الاسم الثالث، الله محبّة، لكي يعبّر بإيجاز رائع عن معنى الاْسمين الآخرين، (عمانوئيل ويسوع): إن الله الكائن، عمانوئيل، يسوع المخلّص والفادي، هو إله! هو محبّة! إنه الإله المحب البشر، كما نردِّد في صلواتنا الطقسيّة.                                   

التدبير الخلاصي
من هذه الأسماء الثلاثة (عمانوئيل- يسوع- محبة) تشتق كل الصفات والأسماء التي يمكن أن ننعت بها أعمال الله، وما ندعوه في لاهوتنا الشرقي التدبير الخلاصي. هذا ما نتحققه عندما نتصفّح الإنجيل المقدّس. فكل فصوله، والروايات والأمثال والعجائب والتعاليم الواردة فيه، والتي رواها الرسل الإنجيليون الأربعة، كلٌّ على طريقته، ولأجل حمل بشرى الإنجيل إلى سامعيهم المسيحيين الأولين، كلّ صفحة من الإنجيل المقدّس، وكل فقرة منه، إنما هي تعبير عن هذه الأسماء الثلاثة: الله مع! الله يخلّص! الله يحب! فليس الله قابعًا في صومعة وحدته، بل هو في علاقة دائمة مع خلائقه، كما قال السيّد المسيح: "أنا أعمل وأبي يعمل" ( يو5: 17). وقال بولس الرسول إلى أهل آثينا الوثنيين عندما شاهد كثرة الآلهة في مدينتهم، شارحاً لهم أن الله هو ربّ السماء والأرض وهو يعطي الجميع حياةً ونفساً وكلَّ شيء وهو صنع من واحدٍ كلَّ أمّة من البشر... وهو غير بعيدٍ من كل واحدٍ منا،  إذ به نحيا ونتحرّك ونوجد" (أعمال 17: 24-28) وقال يوحنا الرسول: "هكذا أحبّ الله العالم، حتى إنه بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كلّ من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبديّة" (يو 3 : 16).
هذا هو موضوع عيد الميلاد المجيد الذي نحتفل به في العام الرابع من الألفيّة الثالثة، شاكرين الله على إيماننا المسيحي الرائع. هذا الإيمان ليس عقيدة عقلانيّة مجرّدة، نظريّة، حسابيّة، جافّة، معقّدة... هذا الإيمان يُختَصر بمحبّة الله للبشر. إنه الإله الخالق الذي أتى إلى خليقته، إلى خاصّته، إلى عالمه، إلى البشر، إلى قلبنا، إلى ضميرنا، إلى أسرتنا، إلى بيتنا، ونصب خيمته بين بيوتنا، وصار جسداً، وقد شاهدناه ولمسناه وسمعناه (1يوحنا1:1-3). إنه الطفل الجديد والإله الذي قبل الدهور.                 

بابا نويل فسخٌ لمعاني الميلاد
ما بالنا نمسخ إيماننا الجميل العظيم وننصّب مكان الطفل يسوع، مسخاً دعي "بابا نويل"؟ أراد يسوع أن يكون عمانوئيل، أن يكون معنا طفلاً قريباً محبباً، صديقاً، مخلّصاً، فادياً، محسناً، مباركاً، مقدّساً، (صلاة تهيئة القرابين)... ونحن نُقصيه من بيوتنا، من غرفنا، من صالوناتنا... من مدارسنا، من مكاتبنا، من قاعات رعايانا... وبدل أن يكون الميلاد قدوم يسوع الصبي الجديد والإله الذي قبل الدهور، يصبح قدوم بابا نويل، أو سانتا كلاوس، ويا ليته كان سانتا كلاوس، الذي هو في الأصل القديس نيقولاوس صديق الأطفال والمحامي عنهم وعن حقوق المظلومين!
ولهذا نهيب بجميع أبنائنا الروم الملكيين الكاثوليك في العالم أجمع، إخوتنا المطارنة والكهنة والرهبان والراهبات والمؤمنين، أن يُقصوا إلى غير رجعة "بابا نويل" من كنائسنا ومن كل مكان أو احتفال خاص بعيد الميلاد المجيد.

بدائل ميلادية
البديل الذي نقدّمه لكم أيها الأحباء هو أيقونة الميلاد الرائعة، التي يجب أن تتصدّر كلِّ بيت وأسرة ومدرسة وقاعة رعيّة بأحجامٍ مختلفة... وفيها وصف رائع لكل تفاصيل حدث الميلاد الإلهي. البديل هو نجمة الميلاد، الملائكة يحملون آية الميلاد الخالدة: "المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرّة". البديل آيات إنجيليّة ومن الأنبياء تتكلّم عن عمانوئيل، عن يسوع المخلّص، عن محبّة الله، محبة هذا الطفل الإلهي يسوع المسيح، تزيِّن شجرة الميلاد الخضراء. البديل أناشيد الميلاد الطقسيّة وكاسيتاتها... تملأ أجواء بيوتنا بمعانيها وألحانها الجميلة اللاهوتيّة المحببة... فيتعلّمها الكبار والصغار، يصغون إليها وينشدونها معاً مراراً بفرح وحماسة وشكر وتقوى. البديل هو أفلام ميلاديّة نساعد أولادنا على فهمها... البديل هو بالطبع مغارة الميلاد بكل ما فيها من زينة ميلاديّة وأشخاص يمثلون كلَّ من له دور في ميلاد السيّد المسيح، من السيّدة العذراء والأم مريم والدة الإله، ويوسف والملائكة والرعاة والمجوس...
أجل يجب أن نشعر في عيد الميلاد بطريقة مميّزة، أنّ الله يسوع المخلّص الفادي الصبيّ الجديد، هو حقاً عمانوئيل معنا، فيما بيننا، يملأ بيتنا فرحاً وسعادة ونعمة، ويُشع في قلوبنا إيماناً ورجاءً ومحبّة... ويدعونا بمحبّته وأن نحبّ الناس أن نحترم خاصة الأطفال الذين أحبّهم يسوع... أجل يجب أن يتحوَّل عيد الميلاد إلى عيد الطفولة العالميّة، فيكون يقظة ضمير في حماية الطفل، ورعايته وتربيته واحترام حقوقه والمحافظة عليها وعدم استغلاله والعبث به والتعدي عليه فيصبح بأسف ضحية بريئة للحرب والعنف والارهاب، ونقص التغذية والاتجار والجشع... وقد قال يسوع: "دعوا الأطفال يأتون إليَّ ولا تمنعوهم لأن لمثل هؤلاء ملكوت الله" (لوقا 18 : 16)

جوّ ميلادي
إن هذه البدائل الإيمانيّة تساعد على خلق جو ملائم  لروحانيّة عيد الميلاد، عيد المحبّة والمصالحة والسلام والفرح والأخوَّة العالميّة. وعلينا أن نخلق هذه الأجواء لكي تحلَّ مكان صور العنف والإرهاب والبغض والقتل والكراهية والحسد والعداء والسلاح والدمار والدماء، هذه الصور التي تطالعنا بها وسائل الإعلام في عقر دارنا.
فلنعمل لكي نخلق جوّاً مميّزاً في عيد الميلاد. وليصبح البيت حقاً بيت يسوع، فيه عمانوئيل، الله معنا، يسوع المخلّص والفادي المحب البشر، رسول السلام والمحبّة، والداعي الجميع إلى الأخوّة والتضامن والتعاون والتآخي والحوار.

مانوئيل أساس اللاهوت المسيحي
من هنا يبدو لنا بوضوح أن التجسّد الإلهي، أن ميلاد السيّد المسيح، هو أساس اللاهوت المسيحي والفقه المسيحي والفكر المسيحي والخلق المسيحي. لا بل إن إسم السيد المسيح "عمانوئيل" هو أساس القول الشهير "إن الله أصبح إنساناً لكي تصبح أنت الإنسان إلهاً". أصبح الله إنساناً شبيهاً بالناس ما خلا الخطيئة، صبيّاً جديداً ،لكي يصبح الإنسان خليقة جديدة في عهد جديد وخلقيّة جديدة.
لا بل إن إسم يسوع المتجسّد عمانوئيل هو أساس علاقة الله بالبشر، وعلاقته بالكون والكوزموس والطبيعة... إن هذه العلاقات تتطوّر اليوم بطريقة عجيبة غريبة تحمل إلينا كل يومٍ نمطاً جديداً من إمكانيّة الإتصالات والعلاقات بين البشر في جو من العولمة يغزو كل تفاصيل حياتنا البيتيّة والمدرسيّة والثقافيّة والدوليّة والسياسيّة والإقتصاديّة...

الميلاد والعولمة
يمكننا أن نعتبر دون مغالاة أن اسم يسوع عمانوئيل هو حقاً أساس العولمة الحقيقيّة لأن الله أراد أن يقيم العلاقة مع البشر كلّهم بدون تمييز بين قوم ولون وجنس وأرض، فهو معهم جميعاً. ويريد  أن يكونوا هم أيضاً في علاقة المحبّة والمودّة والتضامن فيما بينهم. ولهذا علّمنا وعلّم البشرية كلها صلاة  "أبانا" التي هي دعوة إلى جميع الناس أن يعتبروا أنفسهم أسرة كبيرة واحدة، وكلهم فيها إخوة ولهم أب واحد هو الله عمانوئيل الذي تفسيره الله معنا.

البشر في مدرسة يسوع عمانوئيل
ولهذا فالميلاد دعوة إلى جميع البشر لكي يكونوا في مدرسة يسوع عمانوئيل: الله مع البشر. لكي يكون البشر كلهم مع الله ولكي يكون البشر مع بعضهم متضامنين في هذه الحياة، متحابين، متفاهمين، متحدين، متعاونين، يتلاقون على الخير والعدل والحق والسلام والفضيلة والأخلاق الحميدة والخلقيّة الرفيعة والاحترام المتبادل والاكرام والتقدير والتفاهم لأجل بناء عالم أفضل. فهو نفسه قد وضع لحياته هذا الهدف قائلاً: "إنما أتيت لكي تكون للناس الحياة وتكون لهم أفضل" (يوحنا10:10)
في صلواتنا الطقسيّة يتردد اسم عمانوئيل في التحيّة الطقسيّة: السلام لجميعكم... الربّ معكم... ولروحك... ومعك... ويدعونا الكاهن قائلاً: "لنحبّ بعضنا بعضاً لكي نعترف بنيّة واحدة". ونقول الواحد للآخر ونحن نتبادل قبلة السلام: "المسيح فيما بيننا أو معنا...ونجيب"كائن وسيكون!"
وهل ننسى التحيّة الشعبيّة "الله معكم"؟ وهي بعبارة أخرى: "عمانوئيل معكم". الله معنا جميعاً. وهذه تعزيتنا. وهذا ما يجمعنا : " الله معكَ- معكِ – معنا – معي – معه – معهم ومعهن".
إنَّ حياتنا حقاً لقاء! ولا تأخذ معناها الحقيقي إلا من خلال هذا الموقف السامي والمنسجم مع ضوابط الحياة اليوميّة.

مركز اللقاء
لقد أسسنا هذا العام 2004 مركزاً دعيناه مركز اللقاء. وله فرع في سوريا (دمشق) وآخر في لبنان. رمزه يدان تتصافحان بالرغم من وجود الحواجز والجدران السميكة العالية المرتفعة أمامها. ذلك أن هذا اللقاء يكتسب معناه وقوّته وثباته وفعاليّته من الوحي الإلهي المؤسَس على إيماننا الإلهي الذي يهدم الحواجز القائمة بين البشر ويجعلهم يكتشفون الآخر وكرامته ودوره ورسالته، ويقيمون معه علاقات تستند إلى هذه القناعات الإيمانيّة والروحيّة والإنسانيّة العميقة.    
وعقدنا مؤتمرًا في حزيران 2004 لأجل افتتاح مركز اللقاء وأطلقنا عليه عنوان "كنيسة العرب". إن هذا العنوان يصبّ في صلب رسالتنا الميلاديّة لهذا العام بعنوان عمانوئيل: الله معنا. وهو أحد أسماء  يسوع. وشرحنا في مطلع هذه الرسالة معنى اسمين آخرين: يسوع ويعني مخلّص، والله محبّة. وهذه الأسماء الثلاثة تعني أن الله مع البشر؛ الله يخلّص البشر بشخص يسوع المسيح. والله يحب البشر. وما التجسّد والميلاد إلاّ فعلَي محبّة للبشر، وعطف تجاههم، وعناية بهم، وحدبٍ بهم... وهذا ما نراه في حياة السيّد المسيح في الإنجيل المقدّس: تعاليم يسوع، عجائبه، أمثاله، بشارته... إنها كلّها علامات محبة يسوع للبشر. وهذا ما عبّر عنه المجمّع الفاتيكاني الثاني في الوثيقة: "الكنيسة في عالم اليوم" ومطلعها: "إن آلام الناس هي آلام أبناء الكنيسة". ويقول بولس الرسول: "إذا تألّم عضو تألّمت معه سائر الأعضاء. وإذا فرح عضو فرحت معه سائر الأعضاء" (1 كور   )

كنيسة العرب
"إن عبارة كنيسة العرب تعني باختصار أن كنيسة السيد المسيح التي عاشت وتعيش في محيط عربي، هي في علاقة وثيقة مع هذا العالم العربي، في آلامه وآماله، وأفراحه وأتراحه وكل معضلاته وأزماته... إنها كنيسة "عمانوئيل" أعني "كنيسة- مع"  و"كنيسة- لأجل" ومع المجتمع العربي، وفي المجتمع العربي. هذا ناهيك عن جذورها العربيّة وعروبتها عبر التاريخ والجغرافيّة. والأهم في ذلك ليس عروبة الكنيسة ولكن رسالة الكنيسة في المجتمع العربي. والواقع أن المجتمع العربي الذي تعيش فيه هذه الكنيسة العربيّة المزروعة في تربة عربيّة، والمبذورة في عمق تاريخه وجغرافيّته، هذا المجتمع العربي غالبيّته إسلاميّة. وفيه يشكل المسيحيّون خمس عشر مليوناً من أصل حوالي مئتين وستين مليوناً من البشر. ولهذا فإن كنيسة العرب، كنيسة المجتمع العربي، كنيسة العالم العربي، هي أيضاً كنيسة الإسلام، كنيسة المجتمع الإسلامي... كنيسة تعيش مع هذا العالم العربي والإسلامي، تتفاعل معه، تتألم معه، تفرح معه، تبني معه، ترجو معه، تؤمن معه، تحب معه، تخدم معه... إنها حقاً "كنيسة- عمانوئيل"، "كنيسة – مع - ولأجل".
ولهذا فإنّ كنيسة المشرق العربي، كنيسة العرب، كنيسة الإسلام، هي في مدرسة معلمها السيّد المسيح، عمانوئيل، الله محبّة، الله الفداء، الله المخلّص، الله العطاء... وقد حدد أهداف تجسّده وميلاده قائلاً: "إن ابن البشر لم يأت ليُخدم بل ليَخدم وليبذلَ نفسه فداء عن كثيرين".(       ) وقال:"لقد أتيت لكي تكون للناس (كل الناس) الحياة وتكون لهم أفضل". وقال بولس الرسول: "إن المسيح لم يرضِ نفسه" (    ). وقال أيضاً: المسيح لا يعيش لنفسه. وقال يسوع لنا: "أنتم نور العالم! وهكذا فليضئ نوركم قدام الناس ليروا أعمالكم الصالحة ويمجِّدوا أباكم الذي في  السماوات".
هذه الآيات المقدّسة دعوة واضحة موجّهة إلى المسيحي لكي يخرج من ذاته، من عزلته، ومن قبيلته ("أخرج من قبيلتك...وانسَ شعبكَ وبيتَ أبيك"...) ومن كل ما يمكن أن يشكّل حواجز بينه وبين الآخر، لكي يلاقي الآخر ليكون هو أيضاً عمانوئيل... إنساناً مع ولأجل...

لقد حاولت في محاضرتي في قاعة اليونسكو في بيروت (حزيران2004) تحديد عبارتي كنيسة العرب وكنيسة الإسلام. وهذه فقرات من المحاضرة:
تحديد كنيسة العرب يختلف عن تحديد أية كنيسة في أي بلد آخر...
لا يمكنك أن تحدِّد كنيسة المشرق العربي بعبارات كنسية ومسيحية فقط...
إنها كنيسة – رسالة وعلاقة...
كنيسة من العرب وللعرب ومعهم
كنيسة في الاسلام وللاسلام ومعه
كل كنيسة تحدد حسب منطوق نص قانون الإيمان: واحدة جامعة مقدسة رسولية. ونحن في بلادنا العربية نضيف عبارة "كنيسة عربية". هذه الصفة عربية تختلف عن القول كنيسة إيطالية أو فرنسية.
الصفة عربية ليست صفة القومية أو الإتنية. انها صفة الرسالة، صفة انثقاف، لأن كنيستنا في نشأتها نشأت من التعددية وبخاصة الثقافية. لغاتها كثيرة ومنها ما يزال قائمًا: عربية – يونانية -  سريانية – آرامية (هي كلها لغات كنائسنا الشرقية في العالم العربي).
وكنيستنا لا يُقال عنها كما يُقال عن فرنسا الكاثوليكية أو اسبانيا الكاثوليكية أو إيطاليا أو النمسا... أو كما يُقال عن أوروبا المسيحية.
تحديد كنيستنا التعدد، ومستقبلنا التعدد، ورسالتنا التعدد، وكنيستنا لا تحدد الا بهذا التعدد. كنيستنا هي كنيسة عمانوئيل (الله معنا)  كنيسة مع ولأجل، كنيسة بلا حدود.
ولا يمكن للمسيحي أن يبقى في البلاد العربية إلا اذا فهم هذه العبارة كنيسة العرب، كنيسة الاسلام. وهذا تحقيق لما قاله بولس الرسول: "المسيحي لا يعيش لذاته"... ومعزولاً في ذاته...
كل أسرة مسيحية هي أسرة رسالة!
كلُّ أسرة مسيحية هي كنيسة العرب! كنيسة الاسلام.
عبارة "كنيسة العرب" ليست شعارًا، ولا موضوع فخار وتفاخر، ولا لقب تمايز، ولا شهادة حسن سلوك، ولا مكابرة، ولا مزايدة...
إنها تعني للمسيحي أنه عليه أن يتعدَّى ذاته وكنيسته ونفسه، لكي يكون حقًا "كاثوليكيًا" (يعني جامعًا). وعبارة كنيسة العرب والاسلام هي تعبير انثقافي لاحدى علامات الكنيسة في قانون الإيمان: أومن بكنيسة واحدة، مقدسة، جامعة (أعني كاثوليكية) أعني تجمع كل ثقافة، وحضارة ولغة وقومية وإتنية...
جامعة (كاثوليكية) يعني في المحيط العربي عربية، وفي المحيط الاسلامي اسلامية. ولذا يمكننا أن نزيد بالمعنى المجازي الى قانون الإيمان عبارة كنيسة العرب، وكنيسة الاسلام...
اذًا هذه العبارة ليست من النواقص، ولا الزوائد ولا الأمور الثانوية ولا المضافة ولا موضوع مفالاة. إنها عبارة-جزء من قانون إيماننا وعقيدتنا المسيحية. ولو كنتُ في الهند لقلتُ كنيسة الهنود وكنيسة الهندوسية والبوذية... ولذا يمكنني أن أقول كنيستي هي كنيسة الانسان، كل إنسان... وكنيسة للإنسان لكل إنسان... ولكلِّ زمان ولكلِّ مكان... كنيسة حقًا جامعة كاثوليكية. وفي شموليتها لا تفقد خصوصياتها، وفي نزولها إلى خصوصيتها لا تنسى جامعيتها وكاثوليكيتها.
فنحن المسيحيين عرب والمسلمون عرب. وكثيرون من المسلمين في عصور مضت كانوا مسيحيين. فنحن المسيحيين العرب إذًا في علاقة عميقة مع العرب والمسلمين في البلاد العربية: من لحمهم ودمهم، وإتنيتهم وقوميتهم وقبائلهم وحضارتهم وثقافتهم وتقاليدهم.
نحن إذًا كنيسةٌ تتعايش يوميًا منذ ألف وأربعمئة سنة جنبًا إلى جنب مع الإسلام، وتتأثر بالإسلام تأثيرًا عميقًا جدًا. وتتحمل هذه الكنيسة عبر التاريخ مسؤوليات جسيمة، قومية، واجتماعية وحتى حربية مع المواطنين المسلمين.
فلا يمكنك أنت المسيحي أن تجوز قرب أخيك المسلم في هذا الوطن، وكأنه غريب أو لا يعنيك! إنك في تخاطبٍ وجوديّ، مصيريٍّ يوميٍّ معه!
إن عبارة كنيسة تعني جماعة المؤمنين المسيحيين. والإسلام هم جماعة المؤمنين المسلمين.
وعندما نقول "كنيسة الإسلام"، نعني بذلك جماعة المؤمنين المسيحيين الذين يتميّزون بعلاقة فريدة مع المسلمين. وكلنا نعرف أن خدمات الكنيسة قلما تميز بين مسلم ومسيحي.
"كنيسة الاسلام" تعني كنيسة، تاريخها، حاضرها وماضيها وحضارتها متصلة اتصالاً وثيقًا بالإسلام والمسلمين.
ونعرف كلنا الكمّ الكبير جدًا من الدراسات حول الإسلام قام بها مسيحيون محليون، ناهيك عن المكاتب الضخمة عن الاسلام عند الأجانب.
عبارة "كنيسة الإسلام" تعني اذًا ارتباط الكنيسة بالإسلام وجوديًا، ضميريًا، مصيريًا، حضاريًا، وحتى عقائديًا وروحيًا وراعويًأ. عبارة "كنيسة الإسلام" تعني المسؤولية المتميزة تجاه الإسلام والمسلمين.
الاسلام حاضر إلى كل مجتمعاتنا، وعائلاتنا واهتماماتنا ومؤتمراتنا، ودراساتنا، ومواعظنا ومحاضراتنا وتفكيرنا وتحليلنا لمجتمعنا"، ومشاريعنا.
وكنيسة الإسلام لا تعني إطلاقًا جماعة من المسلمين اعتنقوا المسيحية. كما لا تعني أبدًا جماعة من المسيحيين يسعون إلى رد المسلمين إلى المسيحية.
هذه العبارة في ذهني وتفكيري وتحليلي بعيدة كل البعد عن فكر الدعاوة الدينية بأي شكل من اشكالها. هذه العبارة هي في ضميري ووجداني مرادف المحبة والاحترام والتعاون والتضامن والتفاهم والحوار والحدب والتعاطف والحمَّى الواحد للآخر، والعمل معًا في أوطاننا العربية لأجل بناء عالم أفضل، لأجل حضارة المحبة.
Church of the Islam means the very deep concern about Islam and Moslems in all aspects of the life.
ولا بدَّ من أن تكون وتصبح هذه القناعات قناعاتِنا كلِّنا، أبناءَ وبنات كنيستنا البطريركية (لا بل كل المسيحيين). لا بدّ أن تَرسمَ لنا دستورَ روحانيتنا، وتعليمِنا في المعاهد الإكليريكية لتنشئة الكهنة، والمكرَّسين والمكرَّسات، وتعليمِنا في مدارسنا ومعاهدنا وفي كل مؤسساتنا الدينية والثقافية والصحية والمهنية والاجتماعية.
ليست هذه القناعات خيارًا حرًا، ولا خيارًا استراتيجيًا مرتبطًا بشروط وضع سياسي أو اجتماعي معيَّن، مثلاً في لبنان بالذات، أو في سوريا... كلا انها قناعات روحية، عقائدية، إيمانية، وجودية، تنطلق من صميم ضميري وتفكيري وخبرتي المسيحية والإنسانية والرعوية... ومن ضميرنا وتفكيرنا وخبرتنا جميعًا!
هذه القناعات هي عامل مهم جدًا في بنية إيماننا، وفي اكتشاف معنى دعوتنا وجوهر رسالتنا كمسيحيين روم كاثوليك، أو بالعموم، في مجتمعنا العربي الشرق أوسطي... وبالنسبة لي هي شرط حيوي To be or not to be. وفي فكري كبطريرك، هي الشرط الاساسي في العمل لأجل الحدّ من الهجرة المسيحية المستشرية في كنائسنا.

وتبرز أهميّة هذا الدور المسيحي بعد الأحداث التي دمغت بدايات القرن الميلادي الثالث، منها أحداث الحادي عشر من أيلول 2001 في الولايات المتّحدة الأميركيّة، والحادي عشر من آذار 2004 في إسبانيا، والحادي عشر من أيلول 2004 في روسيا والحرب على العراق 2003، وما جرَّت ولا تزال تجرّ من ويلات.
الكنيسة - عمانوئيل، الكنيسة - مع - ولأجل، تعني وقوف الكنيسة والمؤمنين المسيحيين كل في موقعه، وقوفهم الى جانب إخوتهم المواطنين في أوطانهم العربيّة وحتى في بلاد الإنتشار. لكي يعملوا معاً في سبيل قيم لا بدّ وأن تتخذ حيّزاً أكبر في العالم العربي وبخاصة فيما يتعلّق بحقوق الإنسان والحريّات الأساسيّة. منها الحريّة الدينيّة وحريّة المعتقد والضمير، وكرامة الإنسان، والانفتاح والانثقاف والحوار الغربي - الشرقي، والتعدديّة الفكريّة والسياسيّة في الأنظمة العربيّة.

الفقر والإنماء والتضامن الملكي
إنَّ رسالتنا لهذا العام بعنوان "عمانوئيل" تصب في خط رسالتنا الميلاديّة للعام الماضي 2003 بعنوان "الفقر والإنماء". لقد أردنا من خلالها أن نخاطب جميع أبنائنا في كنيستنا الروميّة الملكيّة داعين إيّاهم إلى التضامن والتراحم والتعاون ومعتبرين أن لنا جميعاً في هذه الكنيسة رسالة مشتركة ومسؤوليّة مشتركة والتزامًا مشتركًا وواقعًا مشتركًا ومستقبلًا مشتركًا... إننا كنيسة "عمانوئيل": كنيسة مع... لست أنا وحدي في الكنيسة؛ أنا في الجماعة، مع الجماعة، لأجل الجماعة.وقلنا في المقطع رقم 16:
إنَّ هذه الخطة المتكاملة يجب أن تشمل جميع الروم الكاثوليك فردًا فردًا، وفي كلِّ مكان. إنها لا تهدف فقط التقدمُّ المادي، وجمعَ المال الوفير لخدمة الفقير وإطلاق ورشة الإنماء. إنها ذات بُعد روحي جماعي كنسي عام. إننا نأمل أن نحقق من خلالها نموًا في الانتماء الكنسي، وفي التضامن الروحي الملكي الكاثوليكي، وفي الشعور بأننا جسم واحد، وكنيسة واحدة، وجماعة وطائفة مترابطة. بحيث يصبح كلُّ شخص رومٍ كاثوليك في العالم، مرتبطًا بأخيه الروم الكاثوليك في كل العالم.
إن تحقيق أهداف وخطط هذه الرسالة كفيلٌ بنعمة الرب يسوع، أن يَنهض بكنيستنا ويطوِّرها وينمِّيها، ويربطَ بين جميع أبنائها. فلا أحد غريبٌ في كنيستنا الرومية الملكية الكاثوليكية! ولا أحدَ بلا عونٍ وسندٍ ومرجعٍ ومرجعية! ولا أحدَ معفى من مساعدة أخيه! ولا أحدَ معفى من تحقيق مشروع البطريرك الطموح! سأقرع على باب كلِّ أحد! ولن أدعَ أحدًا يرتاح إلى غناه، مُغمضًا عينيه على حاجة أخيه!

ونتيجة لهذه الرسالة أطلقنا فكرة تأسيس "التضامن الروحي الملكي الكاثوليكي" وقد وافق سينودسنا المقدّس في حزيران 2004 على هذا المشروع. ونحن لا نزال نعمل على وضع آليّة مناسبة للسير فيه.

كنيسة انتشار وآفاق
وننطلق من كنيستنا الروحيّة الملكيّة لنكون "كنيسة عمانوئيل" في مجتمعنا البشري. هنا في بلادنا العربية وفي بلاد الإنتشار في العالم أجمع. ونريد أن نشدد على رغبتنا في أن تكون وتبقى كنيستنا "كنيسة بلا حدود" كنيسة "الآفاق" والتطلعات والإنفتاح والتقدم والتطوّر... إنها كنيسة مع... ولأجل...
إن الفهم الحقيقي لمعنى إسم يسوع عمانوئيل ومعنى الكنيسة الخادمة، ومعنى كنيسة العرب، ومعنى كنيسة السلام... إن الفهم الحقيقي لهذه العبارات ولهذه الحقائق، هو ذو أهميّة بالغة الخطورة. وإذا لم يفهم المسيحي الشرقي، المسيحي العربي، السوري، المصري، اللبناني، الأردني، السوداني... معنى اسم يسوع ومعنى اسمه هو لأنه اعتمد باسم يسوع ويدعى مسيحاً نسبة إلى يسوع المسيح وهو وارثٌ وحفيدٌ لأولئك الذين دعوا في إنطاكيا أولاً مسيحيين (أعمال  ). إذًا لم يفهم هذا الاسم وهذه الحقيقة، ولم يدرك هذا الدور وهذه الرسالة... وأنّ له دوراً وله رسالة وأنه ليس لذاته... فإنّ هذا المدعو مسيحيّاًً فَقَدَ معنى مسيحيّته ومعموديّته وميرونه وأسراره المقدّسة وانتسابه الكنسي... وهو سيكون في مهب الريح... وهو مرشّح للهجرة... وهذه البلاد التي هي مسيحيّة في نشأتها ومولدها وجذورها، ستصبح متاحف بسبب هجرة أبنائها وأطلالاً وآثاراً ... يقال عنها: هنا عاش المسيح... هنا عاش مسيحيّون... هنا... أمس... ولكنهم اليوم اندثروا وهاجروا وأصبحوا أثراً بعد عين، وخسر مجتمعهم العربي الذين هم منه وله وجزء لا يتجزّأ منه، خسر هذا العالم إخوة وأنسباء وشركاء التاريخ العربي وصانعيه وصانعي الحضارة العربيّة، الإسلاميّة، والأدب العربي، والفلسفة والعلوم... خسر هذا العالم العربي زملاء وبناة حضارته وتاريخه. خسر أخاه وزميله ورفيق درب التاريخ الطويل...

لماذا رسائل البطريرك
لقد أخذنا على عاتقنا كتابة هذه الرسائل الميلاديّة وسواها. إنها رسائل رعويّة تنبع من شعورنا وواجبنا بأن نقوم بخدمتنا البطريركيّة على وجه كامل. هذه الرسائل تسهم في تحديد طرق تطبيق الشرائع الكنسيّة والتقيّد بها، وإعطاء التعليمات لنشر العقيدة الصحيحة، وتعزيز التقوى وإصلاح التجاوزات والموافقة على الممارسات التي تدعم خير المؤمنين الروحيين والتوصية بها.
ولهذه الرسائل طابع عام وتطال كل الكنيسة التي البطريرك فيها الأب والرأس. لا بل من الواجب أن تُقرأ هذه الرسائل وتنشر في الكنائس والأديار وحتى في البيوت الخاصة. (راجع القانون 82 من مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة).
ولهذا نأمل من إخوتنا الأساقفة وأبنائنا الكهنة والرهبان والراهبات وعموم العلمانيين الملتزمين الخدمات والنشاطات الرعويّة والرسوليّة وسواها، أن يستقبلوا هذه الرسائل بفرح لأنها صادرة عن قلب محبّ وعن راع يريد أن يبقى ساهراً على الرعيّة التي اؤتمن عليها من قبل الراعي الأكبر ومن الكنيسة ومن إخوته الأساقفة الأجلاء.
وبهذه المناسبة نحب أن نذكّر أن ما قلناه ينطبق أيضاً على واجب إيصال نتائج السينودسات المقدّسة وقراراتها وتوصياتها إلى جميع أبناء الرعيّة في كل أبرشيّة كهنة ورهبانًا وراهبات وعلمانيين لكي يصار الى تطبيقها بالطرق المناسبة.

الإفخارستية: ألله معنا
لقد اراد قداسة البابا يوحنا بولس الثاني أن يكون هذا العام عام الإفخارستية (تشرين الأول 2004 – تشرين الأول 2005). وقد سبق قداسته أن أصدر رسالته الرائعة بعنوان "الكنيسة تعيش من الإفخارستية" (17 نسيان 2004). وعقد المؤتمر الدولي حول الافخارستية (المكسيك تشرين الأول 2004) وستكون الافخارستية موضوع سينودس الأساقفة الكاثوليك حول الافخارستيا في تشرين الأول 2005 وعنوانه الإفخارستيا مصدر وقمة حياة الكنيسة ورسالتها.
عنوان رسالة البابا لإعلان هذا العام عام الإفخارستية هو نداء تلميذي عماوس ليسوع: "أمكث معنا" (لوقا  ). يسوع يؤكّد لنا أن اسمه عمانوئيل، وقبل صعوده إلى السماء قال لتلاميذه: "أنا معكم وليس أحد عليكم" (  ). والآن نحن بدورنا نقول ليسوع: أمكث معنا! كن "عمانوئيل" الدائم معنا.
الميلاد هو ذكرى عمانوئيل معنا. أما الإفخارستيا فهي حقيقة "عمانوئيل" معنا. يسوع هو دائمًا مع كنيسته في سرّ القربان المقدّس، في الاحتفال بالليترجيا الإلهية من مشرق الشمس إلى مغربها، وفي العالم كله شرقًا وغربًا. إن وجود يسوع في كنيسته هو التأكيد على أن يسوع هو عمانوئيل، أمس واليوم وإلى الدهور. عمانوئيل هو يسوع في التاريخ، معنا، في تاريخنا الشخصي الفردي، كما في تاريخ البشرية في أجيالها. وهذا ما أكدَّه البابا بولس السادس في المجمع الفاتيكاني الثاني في الوثيقة "فرح ورجاء" حول "الكنيسة في عالم اليوم": "المسيح هو غاية تاريخ البشرية. إنه النقطة التي تتمحور حولها أشواق التاريخ والحضارة. إنه قلب الجنس البشري. إنه فرح جميع القلوب وكمال تطلّعاتهم".
لقد اختبر الرسل كلّهم اسم يسوع "عمانوئيل" إذ كان يعيش معهم، يتجوَّل في فلسطين ويعمل العجائب. كانت حياته تحقيقًا لاسمه إذ عاش مع الناس وتردد بينهم. هذه الخبرة الفريدة اختبرها تلميذا عماوس وهما سائران مكتئبين. وكان يخاطبهما على الطريق. ويشرح لهما عن كل ما يختص به. وعاشا هذه الخبرة بعد أن استجاب يسوع لدعوتهما إياه قائلين: "امكث معنا فقد قرب المساء ومال النهار" ودخل بيتهما وتحوّل بيتهما الوضيع إلى كنيسة كبيرة منذ القرون الأولى للمسيحية. وفي بيتهما الصغير احتفل يسوع وكسر الخبز... وحالاً غاب عنهما... وعرفاه عند كسر الخبز!
غاب عنهما ليترك لإيمانهما مكانًا مميزًا في حياتهما. غاب عنهما ولكنه بقي معنا ومع البشرية، ومع الكنيسة ومع المؤمنين في سرّ الإفخارستيا، سرّ القربان المقدّس.
جميل أن نرى من خلال هذه الرسالة الارتباط اللاهوتي الجميل بين سريّ الميلاد وسرّ الإفخارستية. وهذا ما نقرأه في فقرة جميلة من ترانيم عيد الجسد الإلهي وقد تفرّدت كنيستنا الملكية الكاثوليكية بإدخاله في سلسلة أعيادها على عهد البطريرك الأنطاكي مكسيموس الثاني حكيم (1737). وهي ترنم في مطلع رتبة بركة القربان المقدس. وهي أعجب العجائب...  (المجلّد)

ختــام
في ختام هذه الرسالة نتوجّه بأسمى وأجمل وأطيب وأحرّ آيات المعايدة الميلادية إلى اخوتنا الأحباء المطارنة أعضاء مجمعنا المقدس وإلى اخوتنا وأبنائنا الكهنة والرهبان والراهبات وجميع المؤمنين في أبرشياتنا ورعايانا في البلاد العربية وبلاد الانتشار. ونذكر إخوتنا بالرسالة التي وجهناها إليهم أنا واخوتي البطاركة الشرقيون الكاثوليك بعنوان: "           ، وقد ظهرت مؤخرًا (آب 2004) إنها زادٌ روحيّ لهم في مسيرتهم الكهنوتية مع المسيح ومع رعاياهم في المجتمع . ونأمل أن تكون لهم مصدر إنعاش روحي وتجدد كهنوتي.
وتتوجّه أبصارنا بنوع خاص إلى إخوتنا المتألمين في عالمنا العربي في فلسطين والعراق والسودان. في هذه الأماكن الثلاثة يتألم الانسان، يُهان، تمتهن كرامته، يجوع، يعطش، يُقتل، تُهدم المنازل، يتيتّم الأطفال، تثكل النساء.

    يوم صوم وصلاة
وإننا تعبيرًا عن تضامننا مع آلام منطقتنا، نقترح على إخوتنا المطارنة أن يصوموا كل في أبرشيته بتكريس يوم للصلاة والصوم لأجل السلام في شرقنا العزيز ونقترح يوم الأربعاء 22 كانون الأول قبل عيد الميلاد المجيد.

ونوجّه كلمة أبوية خاصة لرعيتنا في العراق وللقائمين عليها ولمؤمنيها. ونتمنى صمودهم وبخاصة أنهم احتفلوا بسر المعمودية المقدسة في النهار ذاته (السبت 16 تشرين الأول) الذي وقع فيه الانفجار واحترقت الكنيسة بكل ما فيها.
نصلّي لأجلهم ولأجل السلام والأمن والاستقرار في العراق الحبيب.
نطلب من المخلّص الإلهي يسوع طفل المغارة الجديد، أبو وإله السلام، أن يكون عمانوئيل، مع المتألمين في كل العالم، وبخاصة في هذه المناطق الثلاثة.
ومع الملائكة ننشد نشيد الأمل والرجاء

"المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة"



 
                         غريغوريوس الثالث

                بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والإسكندرية وأورشليم