صاحب الغبطة يوسف

رسالة الميلاد 2006

٢٥ ١٢ ٢٠٠٦




برحمة الله تعالى
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق
والإسكندرية وأورشليم

النعمة الإلهيّة والبركة الرسوليّة
تشملان إخوتنا السادة المطارنة، أعضاءَ المجمع المقدّس،
 وسائر مؤلّفي كنيستنا الروميّة الملكيّة الكاثوليكيّة، في البلاد العربية وبلاد الانتشار إكليروسًا وشعبًا،
وتحلاّن عليهم.



السلام، العيش المشترك والحضور المسيحي في المشرق العربي


"السلام" هو اسمٌ من أسماءِ الله. إنّه اسمُ السيِّد المسيح إلهِ وأمير وملكِ السلام. ويَرِدُ السلام في مطلع الإنجيل المقدّس: في حدث البشارة، عندما حمل الملاك جبرائيل السلام إلى والدة الإله يبشّرها بأنها ستصير أم الله، قائلاً: "السلام عليكِ يا مريم يا ممتلئة نعمة" (لوقا 1: 28). وبعد ولادة يوحنا المعمدان ينشد أبوه زخريا نشيدَ حمدٍ لأجل هذا الابن الذي يسبق أمام وجه الرب ويبشّر بمجيء السيِّد المسيح "الذي يُرشد أقدامنا في طريق السلام" (لوقا 1: 79). ولدى ميلاد السيِّد المسيح بعد ستة أشهر في مدينة بيتَ لحم، ينشد الملائكة على مسامع رعاة بيت ساحور، أنشودة الميلاد الخالدة قائلين: "المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة" (لوقا 2: 14).


السلام برنامج رسالة المسيح
وأصبحت هذه الأنشودة حقًا برنامج حياة السيِّد المسيح.  فإنجيله هو إنجيل السلام. "وهو سلامنا... لقد جاء وبشّر بالسلام. بالسلام لكم أنتم البعيدين وبالسلام لكم أنتم القريبين" (أفسس 2: 14 و17). وارتبطت عناصر هذه الأنشودة وكأنها سيمفونية واحدة: المجد لله. والسلام. والمسرة.
نبدأ قدّاس الليترجيا الإلهية بالدعوة المحبَّبة: "بسلامٍ إلى الرب نطلب. ولأجل السلام العلوي إلى الرب نطلب. ولأجل سلام العالم أجمع". ونصلّي لاحقًا: "أن يكون يومنا كلّه سلاميًا... ولأجل ملاك سلام أمينًا حافظًا نفوسنا وأجسادنا". ونطلب في ختام صلوات الليل: "اجعل السلام في حياتنا" ونرنّم: "خلّص يا ربّ شعبك وبارك ميراثك مانحاً العالم السلام".
ومع النبِّي أشعيا نقول: "يا رب أعطنا السلام فقد أعطيتنا كلَّ شيء" ( أش 26: 12). ويسوع يسلِّم على تلاميذه : "السلام لكم!" (يو 20: 19) ويَعِدُهم قائلاً:  "سلامي أعطيكم"...( يو 14: 27).
    وفي جو السلام نُمجِّد الله. ومن ثمارِ السلام المسرة والفرح والأمان للبشر. وهذه الثلاث أيضاً مرتبطة: مجدُ الله. وسلام الأرض. ومسرَّةُ البشر.
     فلا سلام ولا مسرة بدون مجد الله الذي به يرتبط أيضاً مجد البشر. لأن "مجد الله هو الإنسان الحيّ" كما يقول القديس أيريناوس أسقف ليون. فالله أكرمَ الإنسان بصورته ومثاله وزيَّنه بجميع مواهبه. وسلَّطه على الخليقة كلَّها (تك 1: 26و27). وعلى الإنسان بدوره أن يُكرِم صورة الله في أخيه الإنسان. وهكذا تؤلف هذه الأنشودة معزوفة روحية رائعة الإيقاع.

ترابط مصيريّ
    كما تتناغم أوتار أنشودة الميلاد في أجزائها الثلاثة، هكذا تترابط أيضًا العبارات الثلاث التي صدّرنا بها  هذه الرسالة الميلاديّة: السلام. العيش المشترك. الحضور المسيحي في المشرق العربي.
إنها مرتبطة ارتباطًا عضوياً مصيريّاً وثيقاً. وهذا ما شرحناه في رسائلنا المختلفة التي وجَّهناها على أثر الحرب المدمّرة الحاقدة على لبنان في تموز وآب 2006: إلى الدول العربيّة، وإلى الدول الثماني الكبرى، وإلى دول المجموعة الأوروبيّة، وإلى وزراء خارجيّة الدول العظمى، وإلى الرئيس شيراك، وإلى قداسة البابا بندكتوس السادس عشر، وإلى المجالس الأسقفية الكاثوليكية في العالم أجمع. أردنا من خلالها أن نركِّز على أهميّة السلام في المنطقة فهو مفتاح كل الخيرات التي تحتاج إليها منطقتنا المعذّبة منذ عقود.
وها إننا نحمل فحوى هذه الرسالة بمناسبة عيد الميلاد السعيد إلى جميع ذوي النيّات الطيبة. وهي تنسجم مع رسائلنا الميلادية السابقة التي لم تخلُ واحدة منها، إلا وتكلَّمنا فيها عن أهمية الحضور المسيحي في الشرق العربي. هذا الحضور الفريد المهدَّد بأسف، بسبب تتابع الحروب والأزمات والنكبات على هذه المنطقة التي شهدت ميلاد المسيح رسول السلام، وهي مهد المسيحية.
إن همَّنا الأكبر من خلال رسائلنا السنوية كان ولا يزال: كيفية الحفاظ على حضور مسيحي حاضر وشاهد وخادم في مجتمعنا العربي ذي الأغلبية المسلمة.
سنعرض هذه الرسالة في عناصرها الثلاثة المترابطة: السلام. العيش المشترك. الحضور المسيحي في المنطقة. وباختصار كلّي نقول: إن الحضور المسيحي في المنطقة هو أساس العيش المشترك. هذا الحضور يذوب رويدًا رويدًا بسبب الهجرة التي تتبع كل حرب أو أزمة. ولأجل الحفاظ على العيش المشترك لا بدَّ من إحلال السلام الشامل والعادل والدائم في المنطقة.

السبب: الصراع الإسرائيلي-العربي
إننا نعتبر أن الأزمات والحروب والويلات في الشرق الأوسط، هي إفرازات ونتائج الصراع الإسرائيلي ـ العربي. ومن إفرازات هذا الصراع أيضًا وبلا شكّ، الحركات الأصولية على اختلافها. وكذلك الشقاق والنزاعات داخل العالم العربي؛ وكذلك تباطؤ التطور والازدهار. وكذلك نموُّ البغض والكراهية وفقدان الأمل، والإحباط لا بل القرف لدى الشباب، وهم يؤلفون ستين بالمئة من سكان الأقطار العربية.
وإذا كان السببُ هو الصراع الإسرائيلي-العربي فالوفاق المرجو بين العرب، وهو وحده الكفيل بإعادة السلام وإقرار العدل في فلسطين وفي الشرق الأوسط بأسره، يفترض موقفًا عربيًا موحّدًا، ثابتًا وفاعلاً وصريحًا، حول القضية الفلسطينية ولأجل حلّها. كما يفترض أيضًا موقفًا أميركيًا وأوروبيًا أيضًا صريحًا وثابتًا وموحَّدًا.
فالأمر الأكثر أهمية اليوم هو أن نتمكّن معًا من كسب معركة السلم والحرب معًا، معركة صادقة، في سبيل العدالة والأمن والاستقرار والنماء. هذا ما ننتظره وتصبو إليه الأجيال العربية الطالعة، المسيحية والإسلامية، وكل الأحزاب السياسية وجميع الرعايا، وأبناء وبنات شعوبنا.
أجل الوحدة العربية هي وحدها القادرة على فرض حل سلميّ على إسرائيل، على الولايات المتحدة الأميركية وعلى أوروبا وعلى الأمم المتحدة.

وحدة العالم العربي
هدم الجسور وبناء الجدران: هذا ما نراه اليوم في شرقنا العزيز. والحال أن العكس هو ما نحتاج إليه، أي بناء الجسور في عالم منقسم، لكي يتمكّن الناس من التلاقي؛ وهدم الجدران التي تفصل فيما بينهم.
هذه هي الضمانة الحقيقية لحياة لائقة بالبشر على هذه الأرض، في عالمنا العربي، بدل ما نراه حولنا: نيران تشتعل وأسلحة تزرع الرعب والموت وتسبّب الآلام الجمّة، كما هو الحال في فلسطين والعراق ولبنان.
بعد الحرب على لبنان نجد ذواتنا أمام منعطف تاريخي خطير جدًا ومنذر بويلات لا تحصى. ولذا على العرب والإسرائيليين أن يتَّخذوا كلٌّ من جهته العِبرَ الحقيقية من هذه الحرب الحاقدة والمدمِّرة والدامية في لبنان، والتي فاقت ضراوتها باقي الحروب في المنطقة.
ونحن نعتبر أن السياسة التي تقوم على ممارسة الضغوط المختلفة على هذه أو تلك من الدول العربية، أو سواها، إيران وسوريا... والأحكام القاسية، والتنكيل بحماس أو حزب الله، أو بالأصولية والمتطرفين الإسلاميين، إنما هو هروبٌ إلى الأمام، وسياسة النعامة وتنصُّل من تحمّل المسؤولية الحقيقية، التي تفرض على الجميع التصميم الصريح والسعيَ الصادق وراء توافق واتفاق حقيقيَّين في إحلال السلام وتحقيق العدالة في الأرض المقدسة التي أصبحت، وعلى مدى أكثر من نصف قرن، أرض الحرب وأصل كل الصراعات والحروب في المنطقة وفي العالم.
إننا، نحن الكنيسة العربية، وكنيسة العرب وكنيسة الإسلام، نتوجّه بعزمٍ وتصميم إلى العرب إخواننا وإلى الدول الأوروبية وإلى أميركا، ونحذِّر الجميع تحذيرًا شديدًا، مشيرين إلى مغبة التسويف إلى ما لا نهاية له، في حل القضية الفلسطينية، الذي يعني قطع الأمل من حلّها.



هجرة المسيحيين
إن بين النتائج الأكثر خطورة في  الصراع العربي الإسرائيلي، وبسبب عدم إيجاد حلّ عادل وثابت له، هي الهجرة: هجرة الأدمغة، والمفكّرين، والشباب، والمسلمين المعتدلين، وبنوع خاص هجرة المسيحيين. وهذا كلّه يضعف مستقبل الحرية والديمقراطية والانفتاح في المجتمع العربي.
والخطر الكبير هو بخاصة في هجرة المسيحيين، التي لها عواقب خطيرة وأليمة وجسيمة. فإن هجرة المسيحيين التي تطال كل رعايانا من كل طوائفنا المسيحية في العالم العربي، بخاصة من لبنان وسوريا وفلسطين والأردن ومصر والعراق، تعني تفريغ الشرق من المسيحيين.
إن هذه الهجرة تعني رويدًا رويدًا فقدان التعددية والتنوع في العالم العربي وتلاشي طاقات الحوار المسيحي الإسلامي، الذي هو حوار بشري، وحوار ديني ولكنّه حوار حياتي، يومي، مجتمعي. حوار حضاري وثقافي وإنساني ووجداني، يتجلَّى في كل مظاهر نسيج الحياة اليومية في المجتمعات العربية.
إن هجرة المسيحيين تشكّل نزيفًا مستمرًا. وتعني أن المجتمع العربي سيصبح مجتمعًا ذا لون واحد، مجتمعاً عربياً ـ إسلامياً. وهكذا يصبح الشرق الأوسط مجتمعًا عربيًا-إسلاميًا بإزاء مجتمعٍ أوروبي - مسيحي (ولو أنه مجتمع علماني وربما غير مؤمن). وإذا تم ذلك وأُفرغ الشرق من المسيحيين، فتصبح كل فرصة ملائمة لقيام صراع الحضارات والثقافات والديانات. وتصبح الفرص مؤهلة لصراع مدمِّر بين الشرق العربي ـ المسلم، و"الغرب ـ المسيحي"، صراع سيكون صراعًا مسيحيًا-إسلاميًا، صراع المسيحية والإسلام! وبئس المصير!

الثقة بين الشرق والغرب
أمام مشهد الحرب على لبنان، وأمام ما نشهده ونشاهده يوميًا في وسائل الإعلام من نماء الأصولية، وتوتّر في العلاقات البشرية، العرقية والدينية والمجتمعية، نشعر أن هناك نقصًا كبيرًا في الثقة بين الشرق والغرب، بين البلاد العربية ذات الأغلبية المسلمة، والغرب، وأميركا.
وفي هذا الجو تتعالى أصوات تدعو إلى شرق أوسط جديد، في خضمّ الحرب والنزاعات والتجاوزات. ولكننا نعلم علم اليقين أن الشرق الأوسط الجديد لا يتحقَّق إلا من خلال حلّ القضية الفلسطينية وإنهاء الصراع العربي-الإسرائيلي. ويُخطئ الغرب إذا تصوّر زعماءُ أوروبا وأميركا أن قسمة العالم العربي هو المناخ لولادة هذا الشرق الأوسط الجديد.
ولكننا من منطلق إيماننا أولاً وخبرتنا الروحية والاجتماعية والوطنية ثانياً، نحذِّر دعاة هذه التصورات ومروِّجيها، ونقول بكل وضوح: لا شرق أوسط جديد في عالم عربي منقسم! ومن يراهن على تقسيم العالم العربي إلى "جزر طائفية" وكانتونات لكي يولد الشرق الأوسط الجديد، فإنه خاسر لا محالة. إذ لا يمكن أن تكون ديمقراطية في دولة عربية دون الأخرى، ولا مجتمع ديمقراطي في بلد دون الآخر.
إن خلق تحالفات تهدف تقسيم العالم العربي، وتحويله إلى دويلات طائفية، يعني تدمير مستقبل المنطقة. وبالعكس في الاتحاد القوة. وقوة العالم العربي تكمن في وحدته، وفي الثقة بين فئات الأقطار العربية. لا بل إنَّ نجاح قيام شرق أوسط جديد، تجاه أوروبا وأميركا، يكمن في بعث الثقة بين الشرق والغرب، وبين أوروبا والبلاد العربية، وبين المسلمين والمسيحيين، وبين جميع المواطنين.
وهنا يكمن دور المسيحيين في العالم العربي وفي ميلاد شرق أوسط جديد حقيقي. دور المسيحيين العرب هو أن يعملوا على خلق مناخ من الثقة بين الغرب من جهة، والعالم العربي والإسلام من جهة أخرى. إن تاريخنا العربي، وبما أننّا جزء لا يتجزّأ من هذا العالم العربي والإسلامي، يخوِّلنا القيام بهذا الدور الهام في علاقات الشرق والغرب.
ولهذا فإننا كمسيحيين مشرقيين عرب، نتوجّه إلى الغرب عمومًا، وإلى أوروبا والولايات المتحدة الأميركية: اعطونا ثقتكم! ونحن نبادلكم الثقة! ثقوا بالعالم العربي، وهو سيثق بكم! لا تعملوا على انقسام العالم العربي، والدول العربية، من خلال الأحلاف... بل ساعدوا هذا العالم على تحقيق وحدته وتضامنه. لا تسعَوا إلى زرع الفتنة والتفرقة في العالم العربي، وبين المسيحيين والمسلمين، فنحن كلُّنا عرب، مسيحيين ومسلمين. ونقول لكم بصراحة: إذا نجحتم في تقسيم العالم العربي وتقسيم المسلمين فيما بينهم، وشعبهم وفرقهم، وفي تقسيم المسيحيين والمسلمين، فإنكم ستبقون تعيشون في خوف من العالم العربي ومن العالم الإسلامي.

عمل الكرسي الرسولي الروماني
نريد أن نشير هنا إلى أهمية دور أوروبا المسيحية في عملية خلق الثقة بين الشرق والغرب.
وإننا، كمسيحيين وكاثوليك، في تواصل دائم مع عالمنا العربي ومجتمعنا الإسلامي، نتوجّه إلى أختنا الكبرى كنيسة روما المتصدرة بالمحبة، إلى الكرسي الرسولي الروماني، وإلى أخواتنا كنائس الغرب الكاثوليكية في أوروبا وأميركا، داعين إياهم جميعًا إلى مضاعفة الجهود وبذل المساعي لدى دولهم، متضامنين معنا نحن مسيحيي الشرق لتحقيق الهدف الواحد المشترك، ألا وهو إحلال السلام.
ونريد هنا أن نشكر شكرًا عميقًا المجالس الأسقفية الأوروبية التي نشعر بتضامنها معنا ولأجل قضايانا في الشرق العربي. ونخصُّ بالشكر الباباوات الذين اهتموا اهتمامًا مميَّزًا بالقضية الفلسطينية منذ بداياتها، على عهد البابا بيوس الثاني عشر، نيو حنا الثالث والعشرين وبولس السادس، ويوحنا بولس الثاني، وصولاً إلى قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر، الذي يتابع التطوُّرات الأليمة المأسوية في هذه المنطقة، بإحساس مرهف ومسؤولية مثالية. وهو الذي قال: "إن التنصّل من المسؤولية تجاه إحلال السلام في الشرق الأوسط موقف لا أخلاقي". وقد رافق مراحل الحرب المدمّرة على لبنان بكل حَدْبٍ واهتمام، مشيرًا إلى مسؤولية كل انسان في سبيل إحلال السلام في المنطقة.

كلمات الإنجيل المقدس
انطلاقًا من قناعاتنا المسيحية المرتكزة على تعاليم السيد المسيح في الإنجيل المقدّس نتوجّه إلى إخوتنا المسيحيين هنا وفي الغرب بخاصة، ونناشدهم بروح مسؤولية عالية، ونقول لهم: أحبوا هذا العالم العربي! أحبوا المسلمين، فإننا كلَّنا، نحن وهم، ونحن وأنتم ، مخلوقون على صورة الله ومثاله (تك 1: 26).
إلى هذا يدعونا إنجيلنا المقدس حيث نقرأ: "هكذا أحبَّ الله العالم حتى إنه بذل ابنه الوحيد وأرسله ليخلص به العالم" (يوحنا 3: 16-17). وإننا مقتنعون أن الإنجيل ويسوع على حق. فالدواء الوحيد لعالم العنف والحرب والقتل وإيدولوجية الإرهاب، الدواء الوحيد هو المحبة!
إن هذه الكلمات التي نوجهها إلى رعايانا في كنيستنا الرومية الملكية الكاثوليكية، وإلى إخوتنا في الغرب، وقد وجَّهناها إلى اجتماع المجالس الأسقفية في أوروبا المنعقد في سان بطرسبرغ في روسيا في تشرين الأول الماضي؛ إن هذه الكلمات التي يخطُّها بطريرك مسيحي في العالم العربي وفي كنيسة عربية، إنما تنبع من صميم الإنجيل المقدّس الذي فيه كلمات الحياة، التي تفوق كلِّ منطق سياسيٍّ وكلِّ حكمة بشرية وحساباتٍ استراتيجية. وهو كما نردِّد في صلواتنا "القوة التي تفوق الأسلحة" (قانون القيامة باللحن الثاني – التسبحة الأولى).


الإيمان سلاح السلام
هذا هو التعبير الصادق عن قناعاتنا العميقة وعن إيماننا القويم. لا بل إننا نؤكد أن إيماننا نحن البشر ـ مسيحيين ولكن أيضًا يهودًا ومسلمين ـ هو السلاح  الأمضى في عالمنا، مهما عصفت به الأهواء السياسية والقوميَّات والصراعات والتوجُّهات الأصولية وإيديولوجية الإرهاب والعنف. لا بل نحن مقتنعون كل الاقتناع أن هذه التيارات الهدّامة لكل مجتمع، لا علاقة لها مطلقًا بالدين أو المعتقد أو الطائفة. والسلاح الوحيد تجاهها هو الإيمان. وإذا أهملنا سلاح الإيمان وازدريناه لنحكِّم فطنتنا ومهارتنا السياسية وحكمتنا البشرية، فسنبقى ويبقى العالم في حلقة مرعبة مأسوية دموية، من الحرب والقتل والتقاتل والعنف والإرهاب والأصولية.
ولا يجوز أن نصنِّف كل مشاكلنا كأنها مشاكل إيمانية، إسلامية ومسيحية...
هل فحصنا قناعاتنا الدينية والإيمانية؟ إذ إن هناك ضعفًا كبيرًا في إيماننا وثوابت إيماننا المسيحي... هناك نقص في التضامن المسيحي وفي العلاقات بين الطوائف. ويقول يوحنا الرسول: "إن الغلبة التي بها نغلب هي إيماننا" (1 يوحنا 5: 4).
وهنا ندعو حكام العالم، في بلادنا العربية وفي العالم أجمع، ونحن في أجواء عيد ميلاد السيد المسيح أمير السلام، لكي يعملوا حقًا على تحقيق أنشودة الملائكة التي بدأنا بها رسالتنا الميلادية. فهي وحدها البرنامج الحقيقي لعالمنا، الذي يحتاج إلى أن يكون في تواصل مع الله، ليمجِّد الله، ويحلَّ السلامَ ويحقِّق المسرة لجميع بني البشر.
إنَّ الظروف التي يمرّ بها العالم العربي، وبخاصة في فلسطين والعراق ولبنان، وبعد خبرة الحروب المتعاقبة، هي مناسبة مميزة وفرصة ذهبية لكي يفهم العرب والإسرائيليون أمثولات التاريخ. ندعوهم كلَّهم إلى طرح الأسلحة ليصنعوا "منها مناجل" (أش 2: 4) لأجل حصاد الخير والأمن والأمان والاستقرار...

شرق أوسط بلا حرب
ولهذا ندعوهم جميعًا لكي يجعلوا منطقتنا هذه المشرقية العربية، منطقةً منزوعة السلاح، والحروب والأحقاد والبغض والعداوة، لكي تكون كما أرادها الله لها، أرضًا قدّسها الله، ليعيش فيها معًا، في السلام والوئام، أبناء الله في الديانات الكبرى الموحِّدة: يهودًا ومسيحيين ومسلمين. وهي مهدُهم الروحي جميعًا، ليثمروا فيها ثمار السلام ويجدِّدوها بروح الله.
إنَّ هذه الصراعات الدامية، التي تعاقبت في المنطقة على مدى أكثر من خمسين سنة، بدل أن تكون من علامات نهاية العالم، فلتكن علاماتِ بدايةِ عالم جديد، "وأرضٍ جديدة وسماءٍ جديدة" (رؤ 21: 1)، حيث، كما يقول صاحب المزامير  "العدل والسلام تلاثما" (مزمور 84).

المصالحة في تعليم القديس بولس
لقد كتبنا هذه الرسالة بروح بعيدة كل البعد عن أي حقدٍ أو كراهية أو انتقام أو منطقِ غالبٍ أو مغلوب. إن منطقِ إيماني المقدس يبعدني عن كل هذه المواقف السلبية.
وبالعكس يدعوني إلى المحبة، ومحبة الأعداء والمحبة بدون مقابل، والمحبة التي تبني وتثق "وتُصدِّق وترجو وتتفاءل ولا تظن السوء ولا تتباهى... ولذا فهي لا تسقط ابدًا" (1كور 13).
وإلى هذا يدعونا القديس بولس الرسول في رسالته إلى أهل أفسس متخطِّيًا منطق الحرب والعنف والإرهاب والانتقام والدَّمار والقوة وعرض العضلات... إننا إذا قرأنا هذه الرسالة بعيون جديدة، نرى فيها نبوءَة لعصرنا وأوضاعنا الراهنة، ونرى فيها أيضًا دعوة إلى المصالحة بين الدول والشعوب والديانات. هذه المصالحة التي هي أساس السلام.
وهذه مقاطع من هذه الرسالة: "أمّا الآن، ففي المسيح يسوع صِرتم قريبين بدم المسيح بعدما كنتم بعيدين. فالمسيح هو سلامنا، جعل اليهود وغير اليهود شعبًا واحدًا وهدم الحاجز الذي يفصل بينهما، أي العداوة، وألغى بجسده شريعة موسى بأحكامها ووصاياها ليخلق في شخصه من هاتين الجماعتين، بعدما أحَلَّ السلام بينهما، إنسانًا واحدًا جديدًا ويصلح بينهما وبين الله بصليبه، فقضى على العداوة وجعلهما جسدًا واحدًا. لقد جاء وبشِّركم بالسلام أنتم الذين كنتم بعيدين، كما يبشّركم بالسلام أنتم القريبين، لأن لنا به جميعًا سبيل الوصول إلى الآب في الرّوح الواحد.
"فلستم إذًا بعد اليوم غرباء أو ضيوفًا، بل أنتم مع القدّيسين رعيّة واحدة ومن أهل بيت الله. بنيتم على أساس الرسل والأنبياء، وحجر الزاوية هو المسيح يسوع نفسه، الذي فيه يتماسك البناء كلّه وينمو ليكون هيكلاً مقدّسًا في الرّب. وبه أنتم أيضًا مبنيّون معًا لتصيروا مسكنًا لله في الروح" (أفسس 2: 13-22).
نحن اليوم بحاجة ماسّة إلى هذه الرؤيا التي تتخطى الأزمات الحالية وواقع الحرب والنِّزاع في فلسطين والعراق ولبنان. وتتخطى منطق الأصوليين، ومنطق القوة واللجوء إلى السلاح وكأنه الوسيلة الوحيدة. وتتخطَّى واقع حركات نرى أنّها تُخِيفُنا، مثل حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي والإخوان المسلمين... مع أنها ليست إلا إفرازات الظلم والقهر والاستعباد، ولن يكون لها مبرِّر في عالم يسوده العدل والسلام والعدالة الاجتماعية وتخفق في ربوعه رايات الإيمان...
هذه الرؤيا التي رسمها لنا القديس بولس هي دعامة شرق أوسط جديد، وأرضٍ جديدة وسماءٍ جديدة ومشرقٍ عربيّ جديد. إنها رؤية إيمانية تساعدنا كلّنا مسيحيين ومسلمين ويهودًا أيضًا، لكي نواصل مسيرةً، منطلقُها وحي الله لنا في هذه المنطقة من العالم، التي أرادها الله المكانَ الذي فيه يُكلّم البشر. وإذا نجحنا في مسيرة مشتركة نقبل بعضنا بعضًا كلٌّ على دينه وباحترام عقيدته وحقوقه وكرامته، فذلك يكون البرهانَ الساطع على صحة إيماننا، ويكون حافزًا لشبابنا لكي يقبلوا هم أيضًا إيمان الآباء والأجداد باحترام وتقدير، ليعيشوا قيمه في مجتمعهم.

دعوة إلى الصبر والثقة
ونحب أن نتوجّه إلى أبنائنا الروم الملكيين الكاثوليك، بهذه الكلمات المشجعة لهم في عيشهم اليومي ومعاناتهم ومشاكلهم. لا بل أظن أن هذه الكلمات تنطبق على جميع المسيحيين في شرقنا العربي العزيز وأيضًا في بلاد الانتشار.
أيها الأحباء!
إن انتماءَكم الكنسي الإيماني الحقيقي هو قوَّتكم أمام الصعوبات التي هي في كلِّ مجتمع، شرقًا وغربًا، بين مسيحيين ومسيحيين، ومسيحيين ومسلمين، وبين بوذيين ومسلمين ومسيحيين. ولا تظنّوا أنكم أنتم وحدكم كمسيحيين في الشرق لديكم مشاكل. المسلم لديه مشاكل في عيش إيمانه هنا وخارج البلاد العربية. المسيحي الغربي في أوروبا المدعوة مسيحية والمعلمنة والمهدَّدة بمختلف مظاهر الإلحاد، لديه أيضًا مشاكل في عيش إيمانه، في جوٍّ علماني، وحيث أصبح الإيمان محصورًا ضمن جدران الكنيسة. مما يشكل خطرًا أشد وقعة من مشاكل أخرى. والمسيحيون في أوروبا الشرقية عانوا من نير الشيوعية، صعوبات لم يعانها مسلم أو مسيحي شرقًا وغربًا. وكنتُ مؤخرًا (أيلول 2006) في سلوفاكيا وتشيكيا وروسيا، وزُرت سابقًا على رومانيا وأوكرانيا. وهناك سمعتُ أخبار استشهاد من مات ومن لم يمت، ومن شهد بدمه ومن شهد بصموده في إيمانه... وأقول لكم لا مجال للتشبيه بين مشاكل وصعوبات عيش الإيمان عندنا وعندهم بالرغم من الصعوبات عندنا وعندهم.
فلا إيمان بلا صعوبات. ولكنّها ليست صعوبات الإيمان، بمقدار ما هي صعوبات مجتمعية، سياسية، اقتصادية، ثقافية، يتعرّض لها الإنسان المؤمن وغير المؤمن، المسيحي والمسلم. يتعرّض لها الإنسان بقطع النظر عن دينه وجغرافية موقعه وثقافة بلاده...

لا تخف أيها القطيع الصغير
ونخاطب أبناؤنا كلاً بمفرده:
"لا تخف أيها القطيع الصغير!" (لو 12: 32) "لا تخف أن تكون ما قاله لكَ يسوع. أن تكون نورًا وملحًا" (متى 5: 13و14) وخميرة، وخادمًا وشاهدًا ومتمثِّلاً بيسوع، وثابتًا في اتباع تعاليمه في الإنجيل المقدّس، في انفتاحٍ كامل على إخوتك البشر الذين لهم إيمانهم وقيمهم...
بل قل لهم: أنا مواطن معكم!
وأنا مؤمن معكم!
وأنا خادم معكم!
وشاهد معكم!
وبانٍ معكم في وطننا الواحد!
ومستقبلي مستقبلُكم!
وتقدُّمي تقدُّمكم!
ولغتي لغتُكم!
وانتمائي العربي مثل انتمائكم ومعكم!
وأنا باقٍ معكم ولأجلكم!
وكما سرنا معًا على مدى 1400 سنة سنتابع المسيرة في الألفية الثالثة.

دعوة إلى اخوتنا المواطنين المسلمين
وفي سعينا لإقناع أبنائنا المسيحيين بالبقاء في أوطانهم حيث زرعهم الله، نرى أنه من الضروري أن نتوجّه معهم وباسمهم ومن منطلق مسؤوليتنا كعرب مواطنين في البلاد العربية، إلى إخوتنا المسلمين، إلى الحكام والشيوخ والفقهاء والمثقَّفين والمفتين، وإلى عموم المسلمين، لكي نقول لهم بصراحة، ما هي الهواجس التي تنتاب المسيحيين، وما هي مواقع التخوف عندهم، والتي تدفعهم إلى الهجرة.
إنها ليست أسبابًا دينية بحتة، ولكنها ذات طابع اجتماعي، قومي، حضاري، وأيضًا ديني.
فعندما نتكلّم عن العيش المشترك والتعايش والمواطنية، فلا بدّ أن يكون تحقيق شروط هذه المبادئ واجبًا يقع على كاهل المسلم كما يقع على كاهل المسيحي.
هكذا هو الأمر في الكلام عن فصل الدين عن الدولة، وعن العروبة وعن القومية والديمقراطية وحقوق الإنسان، والتشريعات التي ترتكز على الإسلام كمصدر وحيد للشريعة أو كمصدر رئيسي، والتي تتسبَّب في تشريع قوانين ومواد دستورية تميِّز بين المواطنين على أساس الدين وتَحولُ دون المساواة أمام القانون، وتنتقص من المساواة في المواطنة. وكذلك القول عن أحزاب متشدِّدة وتيَّارات إسلامية وحركات أصولية هنا وهناك. تنسب إليها، بحق أو بغير حق، أعمال عنفٍ وإرهابٍ وقتلِ وإحراق كنائس وتسلُّط مواطنين على أترابهم، واستغلال الدين والأغلبية الدينية، لأجل إذلال الجار أو رفيق العمل والمهنة...
هذه الأمور تجعل المسيحيين يشعرون بالقلق والخوّف من مستقبلٍ مجهول في مجتمع ذي أغلبية مسلمة. وكثيرًا ما يُنعتونَ بالعَمالة أو بأنهم صليبيون أو كفَّارًا أو متعاملون مع الغرب أو مع إسرائيل...
هذه الأمور وسواها على شبهها تشكّل موضوع تخوُّف لدى المسيحيين. ولا بدّ من أن تكون موضوع حلقات دراسية ومؤتمرات ومحاضرات واجتماعات في المجتمع العربي والإسلامي. ولا بدَّ من أن تُعالجَ بموضوعية حقيقية، فيضع المسلمون والمسيحيون معًا يدهم على الجرح الذي يسبب نزيف الهجرة لدى المسيحيين.

لا ذمِّيون ولا محميُّون
إننا نتوجّه بهذه الرسالة الميلادية إلى إخوتنا المسلمين بكل ثقة وبكل محبة. وهما مصدر صراحتنا! ونقول لهم بصراحة: إننا، نحن وشعبنا ورعايانا، نريد أن نعيش معًا ونكمِّل مسيرة الأجيال السابقة، ونريد من إخوتنا المسلمين لا أن نكون "ذميين" محميين... بل نريد أن نكون مواطنين مثلهم، لنا ولهم نفس الحقوق والواجبات. ونريد أن نبني معهم أوطاننا ونسهم في مستقبل أفضل لها. هكذا كان دور المسيحيين في التاريخ، وهكذا يجب أن يكون اليوم معًا في الألفية الثالثة للميلاد والقرن الخامس عشر للهجرة.
فلا نطلب حماية من إخوتنا المواطنين المسلمين، بل مساواة وتكافوءًا في فرصِ العمل والمهنة. نريد عيشًا مشتركًا وتعايشًا بكل ما تحويه هذه العبارات من محبة وثقة واحترام وإكرام ومسؤوليات مشتركة، وتضامنٍ ومسيرةٍ مشتركة وعطاءٍ وتضحياتٍ في سبيل أوطاننا. ونريد أن نشعر بهذا المناخ في كل بلادنا العربية بدون اسثناء. فالمسيحي مواطن عربي في كل بلدٍ عربي، أكان عدد المسيحيين قليلاً أو كثيرًا، أكانوا فقراء أم أغنياء... لهم حق المواطنة الكاملة وفي كل قطر من الأقطار العربية وبدون استثناء. ولهم حق الحرية الكاملة في ممارسة شعائرهم الدينية، وبناء كنائسهم لتتعانق مع مساجد اخوتهم المسلمين.
هذه هي المواقف التي تجعل المسيحي يشعر بالأمان والاطمئنان وتخفِّف من وطأة الهجرة.
ونقول لاخوتنا المسلمين: إن لدينا نحن المسيحيين طاقات جبارة، ولنا أديارنا ومدارسنا وجامعاتنا ومؤسساتنا الخيرية والاجتماعية والثقافية والصحية... وكلّها نسخّرها في خدمتهم. ولكن إذا هاجرنا فكل هذه الطاقات ستتبدَّد وتزول. والخاسر هو الإنسان العربي، المسلم والمسيحي سواء بسواء.
ونؤكّد لهم مجدَّدًا أن تواصلنا الإيجابي والحفاظَ على قيمنا الإيمانية مسيحيين ومسلمين هو أساس مواطنتنا الحقيقية وعيشنا المشترك. والتحدِّي الأكبر لنا، مسيحيين ومسلمين، هو كيف نعيش إيماننا في عصر العولمة، وكيف نوصله وديعة ثمينة مقدّسة إلى أجيالنا الطالعة وإلى شبابنا مسيحيين ومسلمين، وهم سواء بسواء معرَّضون للأخطار عينها في عالم اليوم.

نداء البطاركة الشرقيين الكاثوليك
أيها الإخوة! لقد عالج أصحاب الغبطة البطاركة الشرقيون الكاثوليك موضوعًا متعلِّقًا بما نحن في صدده في هذه الرسالة. وقد عقدوا مؤتمرهم السادس عشر، وكان عنوانه "الكنيسة وأرض الوطن". وقد درسوا في مؤتمرهم السابق موضوع: "العدالة والسلام في الشرق الأوسط". ويسرنا أن ننقل إليكم بعض المقاطع من هذا المؤتمر لكي يسمع أبناؤنا صوت آبائهم البطاركة الذين يشعرون أن آمال وآلام أبنائهم هي آمالهم وآلامهم. وهذه بعض المقاطع منها.
"إن أرض شرقنا مروية بدماء شهدائنا وعاش عليها آباء كنائسنا وقديسوها. وهي مهد الحضارات والأديان ومنبت الكنائس والأديار التي منها أخذنا هويتنا وإيماننا وحضارتنا".
"إنَّ حضورنا في هذا الشّرق حيث أرادنا الله، يقتضي منّا الأمانة للمسيح، والالتزام بالشّهادة لمحبّته، وتطبيق مبادئ إنجيله المقدّس، والقيام بواجب الخدمة لمجتمعاتنا. ومهما تفاقمت المصاعب، فإنَّ لنا علامات رجاء ساطعة في ما لكنائسنا من غنى روحيّ وثقافيّ واجتماعيّ ووطنيّ، جمّل كنيسةَ المسيح الواحدة والمتنوّعة في تراثاتها الليتورجيّة واللاهوتيّة والروحيّة والتنظيميّة، وفقًا للتقاليد الإسكندريّة والأنطاكيّة السريانيّة والمارونيّة والروميّة الملكيّة، والكلدانيّة والأرمنيّة واللاتينيّة. هذه التي رآها يوحنا الحبيب «نازلة من السماء من عند الله، مهيّأة مثل عروس مزيّنة لعريسها». وسمع صوتًا من العرش يقول: «هوذا مسكن الله مع الناس، فسيسكن معهم وهم سيكونون شعبه، وهو سيكون «الله معهم»، وسيمسح كلّ دمعة من عيونهم» (رؤيا 21/2-4).
"هذه الكنيسة تقتضي منّا حضورًا ورسالة. ذلك أنَّ "المسيحية أصبحت عنصرًا جوهريًا من ثقافة المنطقة، وتغنيها بتقاليدها" (رجاء جديد للبنان، 1). فلا بدَّ لها من أن تتبادل الأفكار مع المؤمنين في الديانات الأخرى حول القيم الروحيّة والخلقيّة والاجتماعية والثقافيّة، من أجل تعزيز العدالة الاجتماعية والمساواة والحريّة، وإرساء أسُس السلام (القرار المجمعي في علاقة الكنيسة والديانات غير المسيحية، 2و3).
"إن إيماننا المسيحيّ يقتضي منّا أن نجسّده في رسالة تنبع من عمق أمانتنا للمسيح ووحدتنا فيه والاقتداء به. وتقتضي منّا في الأساس أن نحافظ على وجودنا والبقاء في أرضنا متضامنين ومتآزرين بمسؤوليّة مشتركة. إنَّ الأزمة الاقتصاديّة والمعيشيّة والاجتماعيّة تستدعي من الكنيسة والدولة ومن القادرين ذوي الإرادة الطيّبة أن يبادروا إلى تعزيز الحياة الاقتصاديّة وإحياء مشاريع إنمائيّة وتوفير فرص عمل تساعد الشباب على الاستقرار في أرضهم وتحقيق ذواتهم، وتمكّن العائلات من عيش كريم على أرض أوطانهم.
"أمّا الرسالة، فتبدأ في مضمونها بالمحافظة على العيش المشترك في وجه تعاظم صراع الثقافات والأديان. بل هي الشهادة الحية للقدرة على العيش معًا في سلام وتكامل خلاّق بين المختلفين. فالأديان في جوهرها يجب أن تكون عوامل جمع لا تفريق، لأن الجوهر في كلّ دين هو عبادة الله وتكريم جميع خلائقه. فالمسيحيّون في الشّرق شرقيّو الانتماء والمواطنة وملتزمون قضايا بلدانهم.
"أسباب الهجرة تتراوح، مع بعض الاختلاف في هذا أو ذاك من بلداننا، بين عدم الاستقرار السياسيّ في المنطقة، وعدم الاستقرار الاقتصاديّ كنتيجة حتميّة للأولى، وانعدام الأمن، والحالة الاجتماعيّة المتردّية، والغربة النفسيّة والمعنويّة، وانتهاك الحرّيات العامّة، والحروب المفروضة، وأعمال العنف والإرهاب.
أيها الأحباء!
"إننا نتفهّم صعوبة الأوضاع التي تُثير قلقكم حول المستقبل المسيحيّ في هذا الشّرق. وفي الوقت عينه نجدّد العزم على العمل مع المؤسّسات الكنسيّة، والحكومات، وأصحاب القرار محليًّا وإقليميًّا ودوليًّا، ومع ذوي الإرادات الحسنة، والقادرين المتموّلين، من أجل إيجاد المبادرات الكفيلة بتوفير الاستقرار السياسيّ والاقتصاديّ والأمنيّ والاجتماعيّ. ونؤكّد حرصنا على تفعيل دور المسيحيّين في بلدانهم، في مختلف مجالات الحياة العامّة، لما لمساهمتهم من فاعليّة في إحياء أوطانهم بفضل خبراتهم وتراثهم وجدّية عملهم. ولا بدّ من التذكير بأن للمسيحيّين في هذا الشّرق دورًا هو بمثابة حلقة وصل بين الحضارة الإسلاميّة والحضارة المسيحيّة، تفتح بينهما إمكانيّة إجراء حوار بنّاء. فلا يجوز أن يتقلّص هذا الدور، إسهامًا في إحلال السّلام في المنطقة والعالم".

لا للهجرة
وفي هذا السياق أذكِّر الأبناء والإخوة الأحباء وبخاصة الشباب بمرسومي البطريركي الأول: لا للهجرة! وأطلب منهم أن يأخذوا هذا الكلام مأخذ الجد. وعلينا أن نشجّع بعضنا بعضًا على البقاء هنا، ونحاول أن نقنع بعضنا بعضًا، ونردّ على اعتراضات المعترضين، وندحض أقوال الذين يردِّدون: البلد ليس لنا! ماذا يمكننا أن نعمل؟ ماذا علينا أن نعمل؟
نقول للجميع: لا للتخاذل من المسؤولية! لا للانسحاب من حلبة الحياة الاجتماعية والسياسية والوطنية والقومية! لا للقوقعة! لا للغربة النفسية! لا للغربة في الوطن ولا للغربة عن الوطن ولا للشعور بالدُّونية! ولا للتهميش: لا لمن يهمِّشنا ولا لمن يريد أن يهمِّش ذاته! لا لليأس من أوضاع أوطاننا العربية ومجتمعاتنا فيها. لا للاستسلام وللإحباط أمام أحداثٍ هنا وهناك، يعاني منها أبناؤنا، عاشوها واختبروها أو سمعوا عن أخبارها! لا للانطواء على الذات، أو على الطائفة! لا للخوف من مظاهر الأصولية والتطرّف والحركات التكفيرية والأعمال الإرهابية ومظاهر الفوقية والتمييز الديني.
فهذه أمور لا تمتُّ إلى الدين بصلة، لا إلى الدين المسيحي ولا إلى الدين الإسلامي، ولو قام بها مسلمون أو نسبت إلى مسلمين، ربما نعيش إلى جنبهم وهم رفاق العمل والمهنة وجيران حارتنا!
يقول لنا السيّد المسيح متكلّمًا عن الظروف الصعبة التي تعترض المؤمن في حياته:
"إحذروا أن يُضلِّكم أحد! ستسمعون بحروب وأخبار حروب! أنظروا لا تقلقوا! فإنه لا بدّ أن يكون هذا... وستنهض أمة على أمة، ومملكة على مملكة. حينئذٍ يسلمونكم إلى الضيق ويقتلونكم ويُبغضكم جميع الأمم من أجل اسمي. حينئذن يشكُّ كثيرون فيُسلم بعضهم البعض ويمقت بعضهم البعض. ولكثرة الإثم تبرد المحبة عند كثيرين... ولكن من يثبت إلى المنتهى فذاك يخلص" (متى24: 4 -13).
ويذكُر بولس الرسول أبطال الإيمان "الذين ذاقوا الهزء والسياط حتى القيود والسجن. رُجِموا. نشروا. ماتوا بحدِّ السيف. تشرّدوا في جلود الغنم والمعز. معوزين. تاهوا في البراري والجبال والمغاور وكهوف الأرض... ولم يقبلوا النجاة ليحرزوا قيامةً أفضل". ويختم هذا الوصف المأسوي المرعب للجهاد في سبيل الإيمان قائلاً: "إنكم لم تجاهدوا بعدُ حتى الدمّ". ومحرِّضًا إياهم على الثقة:  "لذلك، نحن أيضًا، إذ يُحدق بنا مثل هذا السحاب الكثير الكثيف من الشهود، فلنطرح عنّا كل ثقلٍ والخطيئةَ التي تكتنفنا، ولنسعَ بثباتٍ في الميدان الموضوع أمامنا. ناظرين إلى يسوع مبدئ الإيمان ومكمله". (عبرانيون 11 و12).

لماذا البقاء في المشرق العربي؟
قلتُ في لقاءاتنا في باريس في أثناء المشاركة في يوبيل 150 سنة "لمبرة الشرق": "إنكم أنتم الفرنسيين الكاثوليك تقدِّمون المساعدات المالية لكي تدعموا حضورنا في الشرق العربي. ولكن علينا نحن أن نكتشف أسباب ودوافع ومحفِّزات وجودنا وحضورنا في الشرق العربي".
ولا يجوز لنا كمسيحيين أن نضع الصعوبات الحياتية في أكثريتها أو مجملها في ملف العلاقات المسيحية الإسلامية. كما لا يجوز وليس حقيقيًا أن أسباب الهجرة دينية كما تُصوِّرها بعض وسائل الإعلام المحلية وبخاصة الأجنبية. ويطلقون صرخات يائسة مراهنين على متابعة الحضور المسيحي في الشرق. لقد عرض اختصاصيون استماراتٍ واستفتاءات في اجتماع البطاركة الشرقيين الكاثوليك في تشرين الأول الماضي حول أسباب الهجرة. وكانت الاسباب الدينية في المرتبة الأخيرة، وكاد أن لا يكون لها ذكر.

حرية العبادة مؤمَّنة
ونحن استنادًا إلى خبرتنا حول أوضاع المسيحيين في البلاد العربية، يمكننا أن نؤكّد أن المسيحي يمكنه أن يمارس إيمانه المسيحي دون معارض في كل البلاد العربية، إلا في المملكة العربية السعودية. فإن حرية العبادة مؤمّنة في كل من لبنان وسوريا والأردن وفلسطين وإسرائيل ومصر والسودان والعراق والكويت، وفي الخليج العربي عمومًا.
وفي هذه البلاد الكنائس موجودة ومتوفرة. وكذلك التعليم الديني، والكتب الدينية وإمكانية الاحتفال بالصلوات والأعياد والرياضات والأسرار المقدّسة وإقامة المدارس والمؤسسات الاجتماعية والدينية والأديار والأخويات وفرق الشباب والنشرات الدينية... هذه هي العناصر الأساسية للحياة المسيحية. ولا أحد يمنع المسيحي من ممارسة حياته الدينية! من يمنعنا أن نعيش حياة مسيحية فاضلة؟ من يمنع العائلات أن تعيش بأمان وسلام واستقرار بحيث يتربّى الأولاد في جوّ مسيحي حقيقي؟ هناك مغريات وتجاوزات وضغوطات ومشاكل حياتية مختلفة... ولكن هذا الأمر يحدث في كل المجتمعات الدينية وسواها في الشرق والغرب، في بلادنا وفي الغرب...

حقوق وامتيازات
أما الحقوق المدنية، والسياسية، والمجتمعية، والمراكز والامتيازات وسواها، فهي قضايا لا علاقة لها بالدين والإيمان... ولكنّها بالطبع جزء أساسي من حياة كل مواطن وتؤثّر فيه سلبًا وإيجابًا، ويمكن أن تكون سبب ويلات ومصاعب جمّة للأسرة... ولكنّها تعالج مدنيًا، وليس من منطلق ديني أو طائفي. بالطبع يصعب الفصل فصلاً حاسمًا بين متطلبات الحياة الدينية والمجتمعية... ولا بدَّ من أن يعالج المسيحي هذه الأمور من منطلق إيمانه من جهة، ولكن أيضا من منطلق مواطنته وحقوقه المدنية وحقوق الانسان عامة. ويطالب بها بكل الوسائل المشروعة والمتاحة.
ولكن لا بدَّ للوصول إلى هذا المستوى في التعامل مع المجتمع ومع مختلف التوجُّهات والتيَّارات التي فيه، لا بدَّ من وجود مسيحيين منفتحين حاضرين شاهدين في المجتمع، منخرطين في الحياة المجتمعية والسياسية والاقتصادية، مشاركين مشاركة كاملة في حياة أوطانهم، من منطلق مواطنتهم أوّلاً ثم منطلق إيمانهم وقيم الانجيل المقدّس. إنه صراع المصالح! وليس صراعًا دينيًا ولا مسيحيًا ولا إسلاميًا ولا إيمانيًا... وصدق قول الشاعر: وإنما تؤخذ الدنيا غُلابًا!
هذا ما أشار إليه قداسة البابا بندكتوس السادس عشر في رسالته البابوية الأولى "الله محبة ميلاد 2005" وكما أورده في تشرين الأول 2006 البيان الختامي في مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان قائلا: "مهمة الكنيسة "المساهمة في تنقية العقل من العمى الخلقي ومن تجربة المصلحة الخاصة والتسلّط، بحيث يتم الاعتؤاف هنا والآن بما هو عدل وحق، ويوضع موضع العمل. وتعمل الكنيسة على تنشئة الضمائر في المجال السياسي والاقتصادي وتوجيهها إلى مقتضيات العدالة بشكل أشمل، والحث على العمل بوجبها، ولو تناقضت مع المصلحة الشخصية" (الله محبة، 28).
وقد عرضت اقتراحاً على هذا المجلس فيه دعوة إلى السلام وإلى تطوير الأوضاع الاجتماعية في بلادنا العربية. إذ إن هذا التطوير له تأثير كبير في تحسين ظروف المعيشة والحياة للمواطنين ويخفف من وطأة الهجرة.
يدعو هذا الاقتراح إلى تأليف لوبي أو مجموعة مسيحية اجتماعية تطالب المسؤولين في الدول العربية بدعم المدارس الخاصة وتأمين الضمان الاجتماعي والتقاعد والضمان الصحي.
كما ورد في الاقتراح، القيام بمساع حثيثة من قبل مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان ومجلس البطاركة الشرقيين الكاثوليك، لدعم مساعي السلام في الشرق الأوسط من خلال الاتصال بالمجالس الأسقفية في العالم والدول العظمى والمحافل الدولية ومجلس الأمن، لكي يعملوا على تحقيق السلام في الشرق الأوسط. إن هذه المساعي محليا، عربيا وإقليميا ودوليا، هي من صميم رسالة الكنيسة في خدمة المجتمع.

دور الكنيسة الأنطاكية
الكنيسة الأنطاكية، بمختلف تسمياتها الخمس (رومية أرثوذكسية، رومية ملكية كاثوليكية، سريانية أرثوذكسية وكاثوليكية، ومارونية) هي المكان الكنسي المميّز للعيش المشترك، وبالتحديد للعيش مع الإسلام ولأجله وفي العالم العربي ولأجله. والمكان المفضّل لتفعيل الحضور المسيحي.
هذا واقع تاريخي وجغرافي. ولكن الأهمَّ وبيتَ القصيد في ذلك هو: "هل يكتشف  وكيف يكتشف ومتى يكتشف، أبناء كنيسة أنطاكية رسالتهم في هذا التاريخ المسيحي – الإسلامي، وفي هذه الجغرافية المسيحية–الإسلامية، وفي هذه الحضارة المسيحية – الإسلامية. وهل يكتشفون بأن هذا التاريخ هو تاريخ الخلاص. وهذه الجغرافية هي جغرافية خلاص. وهذه الحضارة هي حضارة خلاص؟
ربما يَعيبُ عليّ البعض، وقد قرأت ذلك في صحيفة فرنسية، أنني أردِّد هذه الأفكار في غالب رسائلي أو حتّى فيها كلّها. إنني عالم بذلك وحريص عليه. لأنني في قناعةٍ أستكشفها كل يوم، وأتعمّق فيها وأختبرها وأهذَّ بها وهي هوسي وهمّي وهاجسي، وهي: كيف أتواصل مع إخوتي المطارنة والكهنة والرهبان والراهبات وجميع أبناء وبنات رعايانا في كنيستنا المقدسة، بشأن هذه القناعة وكيف أوصلها إليهم، فتصبح قناعة كنسية، قناعة الرعاة والرعية!
وأعاود الكرة وأقول: إذا لم نصل إلى هذه القناعة، فلا مستقبل لوجودنا في هذا الشرق العربي، ولا مستقبل لحضورنا فيه، ولا مستقبل لشهادتنا وخدمتنا فيه.
خلاصة
وفي الختام أعود إلى مطلع رسالتي وإلى العبارات الثلاث التي تصدّرتها: السلام والعيش المشترك والحضور المسيحي في المشرق العربي. وأختصر رسالتي بهذه الخواطر:
1-    العيش المشترك هو مستقبل هذه البلاد. وهذه مقولة تصحُّ للمسيحيين والمسلمين. ويعني قبول الآخر كما هو واحترامه واكرامه. الاعتراف بمواطنته وكلِّ الحقوق المتحدِّرة عن هذه المواطنية. وهي حقوق الانسان كلِّ إنسان على هذه البسيطة وفي هذا الشرق.
2-    المسيحيون عنصر هام في هذا العيش المشترك. لأنه لا عيش مشترك بدون تعدُّدية، مضمونها أن مجتمعي يضم المسيحي بجميع فئاته وطوائفه والمسلم بكلِّ فئاته وطوائفه والدرزي أيضًا واليهودي.
3-    هذا العيش المشترك مهدّد بسبب الهجرة التي سببُها الأشد خطورة، هي الحروب والأزمات والتي أصلها كما قلنا كامن في الصراع الإسرائيلي ـ العربي والظلمِ الحاصل بسببه. ومن إفرازاته التطرّف والتزمّت والأصولية والعنف والإرهاب ومشاعر العداء والكراهية في المجتمع، وعدم المساواة في الحقوق وفرصِ العمل، والمشاركةِ في وظائف الدولة وإداراتها، في المجالس النيابية وفي الوزارات والمناصب والخدمات الأخرى.
4-    إذا بقيت الهجرة على وتيرتها واستمر نزيفها، فهذا يعني تفريغ الشرق من تعدديته المسيحية. ويعني انهيار مقولة العيش المشترك. فالمسيحي لا يمكنه أن يصمد أمام مسلسل النكبات والأزمات والحروب والصراعات.
5-    ولكن ما يساعد بالأكثر المسيحي على الصمود أمام هذه المصاعب وعدم الهجرة، هو القناعة الإيمانية أن بقاءه في البلاد العربية حيث ولدت المسيحية، وحيث زرعه الله مسيحيًا، هو بذاته رسالة ودعوة.
هذه الدعوة محتواها أن الكنيسة المسيحية، ولنقل هنا بخاصة الأنطاكية، هي، كما أردّده دائمًا، كنيسة عربية بجذورها وقوميتها. والأهم من ذلك أنها كنيسة العرب وكنيسة الإسلام. إنها كنيسة عمانوئيل: الله معنا ولأجلنا. وهي بدورها كنيسة مع ولأجل الآخر. وهذا الآخر هو المواطن المسلم، في المجتمع العربي ذي الأغلبية المسلمة. المسيحيون مسؤولون أن يحملوا رسالة الانجيل وبشراه وقيمه في هذا المجتمع، لكي تكون الكنيسة حاضرة وشاهدة وخادمة في هذا المجتمع ومشاركة فيه ومتفاعلة معه.
6-    المناخ الملائم لكل هذه العناصر السابق ذكرها، وهي التعددية والعيش المشترك ومع ما ذكر حولهما، المناخ الملائم هو السلام في المنطقة. السلام العادل والشامل والثابت الكفيل بانهاء الصراع الإسرائيلي ـ العربي.
7-    من جهة أخرى إذا كانت البلاد العربية وإذا كان المواطنون المسلمون حريصين على التعددية، وعلى العيش المشترك، ويُهمِّهم أن يبقى المسيحيون في المنطقة، فلا بدَّ من أن يتمتّع المسيحيون بالمواطنة الكاملة وبجميع الحقوق المترتِّبة عليها. ولا بدّ للدول العربية من أن تجمع كلمتها وتوحّدها لكي تفرض حلاً حضاريًا سلميًا عادلاً للقضية الفلسطينية.
وإذا لم يتم الأمر، وفي مستقبل قريب منظور، فنزيف الهجرة سيستمر، وستزيد الحركات الأصولية والإسلامية، ويزيد العنف والإرهاب ويقع الشباب المسلم فريسة سائغة في حبائلها. ومعنى ذلك أنّنا سنخلّف لأجيالنا العربية الشابة الطالعة إرثًا مظلمًا، ومستقبلاً قاتمًا. وسيفقد المجتمع العربي الإسلامي مقوِّمات التعددية والعيش المشترك. وستتحقَّق نبوءة صراع الحضارات والثقافات والأديان.

صنع السلام: التحدّي الأكبر
لأجل تجنّب كل هذه الويلات نتوجّه بندائنا القديم الجديد، الذي أوردناه في رسائلنا السابقة، وإبّان الحرب على لبنان في صيف 2006، إلى البلدان العربية وملوكها وأمرائها ورؤسائها. إنه نداء نابع من محبتنا لهم ولأوطاننا العربية: بادروا إلى صنع السلام، اليوم وليس غدًا. وأنتم مسؤولون مسؤولية أخلاقية تجاه صنع السلام. وإلا فستبقى تُهَمُ الإرهاب والعنف والقتل تلصق بالإسلام، والإسلام منها براء. ولكن يقول الإنجيل المقدس: "من ثمارهم تعرفونهم"(متى 7: 20).
السلام هو اليوم التحدّي الأكبر! والجهاد الأكبر والخير الأكبر! والنصر الحقيقي والضمانة الحقيقية لمستقبل الحرية والكرامة والتقدم والازدهار والأمن والأمان لأجيالنا الطالعة، ولشبابنا، مسيحيين ومسلمين، وهم مستقبل أوطاننا وصانعو تاريخها وحاملو لواء الإيمان والأخلاق فيها.
في الناس المسرّة!
في ختام ليترجيا القداس الإلهي يصلّي الكاهن سرًّا هذه الصلاة الجميلة: "أيها المسيح إلهنا بما أنك كمال الناموس والأنبياء. و قد أكملْتَ كلَّ ما دبَّرته عناية الآب. إملأ قلوبنا فرحًا وسرورًا كلَّ حين. الآن وكلَّ أوانٍ وإلى دهر الداهرين. آمين".
وبعد المناولة المقدّسة ننشد كلّنا قائلين: "لقد نظرنا النور الحقيقي وأخذنا الروح السماوي ووجدنا الإيمان الحق..." وننشد أيضًا بعد المناولة: "لتمتلئ أفواهنا من تسبحتك يا رب... إحفظنا في القداسة. لنشيد بمجدك ونهذّ النهار كلّه بمجدك".
هذه دعوة إلى المؤمنين بعد اشتراكهم في المسيح اشتراكًا وجوديًا ومصيريًا في المناولة المقدّسة، لكي يكونوا أقوياء، فرحين، صامدين، في إيمانهم مفتخرين به، نافضين كل مشاعر التخاذل، ومشاركين في المسرة التي أتانا بها السيِّد المسيح وأعلنها نشيد الملائكة. وهكذا يتخطَّون دوَّامة الخوف على الحضور المسيحي وعلى دورهم ومستقبلهم في هذه البلاد العربية وحتى في بلاد الانتشار.
وإلينا جميعًا، رعاة ورعية، البطريرك والمطارنة والكهنة والرهبان والراهبات والمؤمنين جميعًا، يتوجّه القديس بولس في رسالته إلى أهل أفسس، وهي رسالة موجّهة إلى كل أبرشية وكل رعيّة وكل رهبانيّة وكل مؤمن.
وهذه مقاطع منها: "تشدَّدوا في الرّب وفي قدرةِ قوّته. إلبَسوا سِلاحَ الله الكامل، لتستطيعوا مقاومة مكايد إبليس. فإنَّ مُصارعتنا ليست ضدَّ دَمٍ ولحم، بل ضدَّ الرئاسات، ضدَّ السُّلطات، ضدَّ سائدي العالم، عالم ظلمة هذا الدهر، ضدَّ قِوى الشرّ الروحية في السّماويّات، فلذلك خذوا سِلاح الله الكامل، لتستطيعوا المقاومة في اليوم الشرير، حتّى إذا تمَّمتم كلَّ شيء تثبتون. فانهضوا أذن وشُدُّوا أحقاءَكم بالحق، والبسوا درع البر. وأنعلوا اقدامكم باستعداد انجيل السَّلام. واحملوا فوقَ هذه كلّها ترس الإيمان، الذي به تقدرون أن تطفئوا جميع سهام الشرير الملتهبة. واتخذوا خوذة الخلاص وسيف الروح، الذي هو كلمة الله"  (أفسس 6: 10-16).
بهذه الآيات نتمنّى للجميع عيدًا سعيدًا وسنة ميلادية جديدة مباركة فيها سنة سلام وخير ومسرّة.
ومع الملائكة ننشد نشيد الأمل والرجاء

"المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة"

غريغوريوس الثالث

                بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والإسكندرية وأورشليم