Patriarche Youssef

الرسالة إلى الإسلام

9 8 2016
 
رسالة بطريرك عربي سوري
إلى إخوته المسلمين حيثما كانوا في العالم
بمناسبةمرورخمسين سنة
على صدور وثيقة
"علاقة الكنيسة بالديانات غير المسيحيَّة"
(1965-2015)
***
إليكم إخوتي المسلمين، ملوكًا وأمراء، ورؤساء وأئمَّة، وشيوخًا وفقهاء، ومؤمنين أتقياء في العالم أجمع، لا سيّما في الشّرق العربيِّ، أوجّه هذه الرسالة، مقرونة بالمحبّة الأخويّة، النّابعة من صميم القلب:
 السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته!
لا شكّ أنّكم تستغربون هذه الرّسالة وتتساءلون ما الدافع الذي يحمل رئيسًا دينيًّا مسيحيًّا على مخاطبة جماعة المسلمين؟ إليكم الجواببمنتهى البساطة: الدّافع هو الوضع الرّاهن الخطير السّائد في شرقنا العربيِّ، حيث طغَت الحركات التّكفيريَّة وبغَت، جالبةً الدّمار إلى أوطاننا، خصوصًافي سورية والعراق واليمن وليبيا. ذلك ما يحملني على مخاطبتكم، لا سيّما وإنّ العالم المسيحيّ يحتفل بذكرى مرور خمسين عامًّا على وثيقة فريدة، أصدرها المجمع الفاتيكانيِّ الثاني في 17 كانون الأوّل 1965بعنوان: "تصريح حول علاقة الكنيسة بالدّيانات غير المسيحيَّة".
وقد شارك في هذا المجمع، بطبيعة الحال، بطاركة المشرق والمطارنة المساعدون، ومنهم بطل المجمع، البطريرك مكسيموس الرابع الصّائغ، الذي قدَّم طلبًا إلى لجنة المجمع المركزيَّة، باسم كنيسة الروم الملكيّين الكاثوليك، بتاريخ 5 حزيران 1962، جاء فيها: "نتمنَّى أن يُعَدَّ قرارٌ بشأن الإسلام والدّيانات التوحيديَّة. فالمسيحيّون الذين هم غالبًا على اتّصال بمعتنِقي هذه الديانات، سيكونون سعداء بمعرفة تعليم الكنيسة الإيجابيِّ بشأنهم، فهي ترفض أن تعتبرهم مجرَّد ضالّين (راجع كنيسة الروم الملكيّين الكاثوليك في المجمع الفاتيكانيِّ الثاني، بالعربيِّة، عام 1992 ص: 440).
أبدأ بسرد مقاطع من تلك الوثيقة التي تُعتبر تطوّرًا حاسمًا في موقف الكنيسة من الأديان الأخرى. وقد أُقيمَت ولا تزال تُقام المؤتمرات والنّدوات والمحاضرات للتعمّق في دراسة هذه الوثيقة وسُبُل تطبيقها عمليًّا، وذلك لمناسبة الذكرى الذّهبيّة لصدورها في ختام المجمع الفاتيكانيِّ الثاني برئاسة البابا الراحل، الطوباويّ بولس السادس.
وحدة الجنس البشريّ
"تتفحَّص الكنيسة بادئَ ذي بدء ما هو مشتركٌ بين الناس ويقودهم إلى مصير واحد". "فكلُّ الشعوب جماعة واحدة ولها أصل واحد لأنَّ الله هو الذي أسكن الجنس البشريّ بأسره على وجه الأرض كلِّها. ولهم غاية واحدة وهي الله الذي يشمل الجميع بعنايته وشهادة جودته وتصاميم خلاصه. إلى أن يتَّحد المختارون في المدينة المقدَّسة التي سيُنيرها مجد الله وستمشي الأمم هناك في نوره" (رقم 1).
احترام جميع الأديان
"وعلى هذا المنوال تجتهد أيضًا سائر الديانات الموجودة في العالم كلّه في أن تُجيب بطرق متنوّعة على قلق قلوب البشر، بعرضها السبل أي التعاليم وقواعد الحياة والطّقوس المقدَّسة".
"فالكنيسة الكاثوليكيَّة لا ترذل شيئًا ممَّا هو حقٌّ ومقدَّسٌ في هذه الديانات.بل تنظر بعين الاحترام والصّراحة إلى تلك الطّرق، طرق المسلك والحياة، وإلى تلك القواعد والتعاليم التي غالبًا ما تحمل شعاعًا من تلك الحقيقة التي تُنير كلَّ الناس. بالرغم من أنَّها تختلف في كثير من النّقاط عن تلك التي تتمسَّك بها هي نفسها وتَعرضُها. ولذا فهي تُبشِّر وعليها أن تُبشِّر بالمسيح دون انقطاع، إذ إنَّه هو "الطريق والحقّ والحياة" (يوحنّا 14/6)" (رقم 2).
الدين الإسلاميّ
"وتنظر الكنيسة بعين الاعتبار أيضًا إلى المسلمين الذين يَعبدون الإلهَ الواحدَ الحيَّ القيُّوم الرّحيمَ الضّابطَ الكلّ خالقَ السماء والأرض المكلِّمَ البشر. ويجتهدون في أن يَخضعوا بكليَّتهم حتَّى لأوامر الله الخفيَّة، كما يَخضع له إبراهيم الذي يُسنَدُ إليه بطيبةِ خاطر الإيمانُ الإسلاميّ. وإنَّهم يُجلُّون يسوع كنبيٍّ وإن لم يعترفوا به كإله، ويُكرِّمون مريم أمّه العذراء كما أنَّهم يدعونها أحيانًا بتقوى. علاوةَ على ذلك إنّهم ينتظرون يوم الدين عندما يُثيبُ الله كلَّ البشر القائمين من الموت. ويعتبرون أيضًا الحياة الأخلاقيّة ويؤدُّون العبادة لله، لا سيّما بالصّلاة والزكاة والصوم" (رقم 3).
"وإذا كانت قد نشأت، على مَرِّ القرون، منازعاتٌ وعداواتٌ كثيرة بين المسيحيّين والمسلمين، فالمجمع المقدَّس يَحضُّ الجميع على أن يتناسَوا الماضي وينصرفوا بإخلاصٍ إلى التّفاهم المتبادل، ويصونوا ويُعزِّزوا معًا العدالة الاجتماعيَّة والخيور الأخلاقيَّة والسلام والحرِّيَّة لفائدة جميع الناس" (رقم 3).
الإخاءالشّامل ينفي كلَّ تمييز
"لا نستطيع أن ندعوَ الله أبًا للجميع إذا رفضنا أن نسلكَ أخويًّا تجاه بعض الناس المخلوقين على صورة الله. فعلاقة الإنسان بالله الآب وعلاقته بإخوته البشر مرتبطان إلى حدِّ أنَّ الكتاب يقول: "إنَّ من لا يُحبُّ لا يعرفُ الله" (1 يوحنا 4/8).
"إذًا يُقوَّضُ أساسُ كلِّ نظريَّةٍ أو تصرُّفٍ يُفرِّق بين إنسانٍ وإنسان، وبين أُمَّة وأُمَّة، فيما يتعلَّق بالكرامة الإنسانيَّة وبالحقوق النابعة منها" (رقم 5).
"فالكنيسة تَشجب إذًا كمنافٍ لروح المسيح، كلَّ تفرقةٍ أو جَوْرٍ يلحقُ بالبشر بسبب عِرْقِهم أو لَونهم، وبسبب وَضعهم أو دِيانتهم" (رقم 5) (نهاية المقتطفات).
أسباب إصدار هذه الرسالة
إنَّ الدوافع التي حملت الكنيسة على التطرّق إلى هذا الموضوع تعود إلى موقف البابا يوحنا الثالث والعشرين، خلفه البابا بولس السادس الذي دعا إلى الحوار في رسالته بشأن الكنيسة، وفي زياراته لبعض أقطار الشرق الأقصى لا يدين فيها بالمسيحيَّة إلاَّ جزء يسير من السكّان. كما تعود إلى كون الكنيسة نورًا وخميرًا في هذا العالم: فالخمير لا يؤدِّي عمله ما لم يمتزج بالعجين كلِّه. لذا كان على الكنيسة أن تعترف "بعجين" هذا العالم، وبقِيَمه لا سيَّما تلك التي تنادي بها الأديان. ولا ضَيْرَ في هذا الموقف على الكنيسة لأنَّها، إذا كانت لها مواعيد المسيح، فما من قوَّة تقدر على نقضها. بل بقدرِ ما تنفتح تزداد فعاليّةً وأهميَّة.
لم يسبق لأيّ من المجامع المسكونيَّة الأولى أن تطرّق إلى علاقة الكنيسة بسائر الأديان. ولئنْ حدثتْ محاولات في هذا الصّدد، فقد ظلَّت فرديّةً دون أن تؤدِّي إلى نتائج عمليَّة جماعيّة.
لذا يبدو أنَّ التّصريح المجمعي، أضفْ إليه رسالة بولس السادس في الكنيسة التي تدعو إلى الحوار مع كلّ المؤمنين وذوي الإرادة الصالحة، كلُّ ذلك هو بدايةٌ لفجرٍ جديد في العلاقات التي يجب أن تنمو بين الكنيسة، والديانات الأخرى القائمة في العالم.
إنَّ المبادئ الواردة في هذه الوثيقة تستند إلى كثير من وثائق المجمع الفاتيكانيِّ الثاني. منها وثيقتان من أهمّ وثائق المجمع المذكور، إحداهما بعنوان: "دستور عقائديِّ في الكنيسة" صدر عام 1964 والأخرى بعنوان: "دستور راعويِّ حول الكنيسة في عالم اليوم" عام 1965. نكتفي بالمقتطفات التّالية أساسًا للعلاقة بالإسلام والمسلمين وبغير المسلمين عمومًا.
غير المسيحيِّين
"أمَّا الذين لم يقبلوا الإنجيل بعد، فإنَّهم متَّجهون نحو شعب الله، بطرقٍ شتَّى. ولكنّ تصميم الخلاص إنَّما يشمل الذين يعترفون بالخالق ومن بينهم أوَّلًا المسلمون الذين يُقرّون أنَّ لهم إيمانَ ابراهيم، ويعبدون معنا الإله الواحد الرحيم، الذي سيدين البشر في اليوم الأخير" (راجع: دستور عقائديّ في الكنيسة رقم 16).
مساواة جوهريَّة بين جميع الناس
"من المؤكَّد أنَّ الناس ليسوا متساوين بقواهم الجسديَّة المختلفة، ولا بقواهم العقليَّة والأدبيَّة المتنوَّعة. غير أنَّ كلّ نوع من التمييز ينال من حقوق الإنسان الأساسيَّة، اجتماعيَّة كانت أم ثقافيَّة، سواء ارتكز على الجنس واللون والعرق أم على الوضع الاجتماعيِّ أم اللغة أم الدين، يجب نبذه لأنَّه منافٍ لتصميم الله. والحقُّ يقال إنَّه لمن المحزن أنَّ هذه الحقوق الأساسيَّة، حقوق الإنسان، لم تُحترَم بعد في كلّ مكان. أليست هذه هي الحال عندما تُحرم المرأة حقَّ اختيار زوجها بملء حرِّيَّتها، أو تختار طريقة حياتها أو أن تحصل على تربيةٍ وثقافةٍ تشبهان التربية والثقافة المعترف بهما للرجل؟" (دستور راعويّ حول الكنيسة في عالم اليوم رقم 29: 2)
"علاوةً على ذلك فبالرغم من الفوارق الشرعيَّة بين الناس، تَفترض مساواة البشر في الكرامة، الوصول إلى أوضاع حياةٍ عادلةٍ وأكثرَ إنسانيَّة. فعدم المساواة الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة الجسيمة، بين أعضاء العائلة الواحدة أو بين شعوبها، تثير الشكَّ وتقف عقبةً في وجه العدالة الاجتماعيَّة والانصاف وكرامة الإنسان وفي وجه السلام الاجتماعي والدولي" (المصدر نفسه رقم 29: 3).
"فلتجتهدنَّ إذًا المؤسّسات الخاصَّة والعامَّة، لتكون في خدمة كرامة الإنسان ومصيره. وبالوقت ذاته فلتقاوَمَنَّ بقوّةٍ وفاعليةٍ كلُّ أنواع الاستعباد الاجتماعيِّ أو السياسيِّ، ولتحافَظَنَّ على حقوق الإنسان الأساسيَّة في ظلِّ كلّ نظامٍ سياسيّ. حتَّى وإن لزم أن يطول الوقت لبلوغ الهدف المتوخَّى، يجب على كلّ هذه المؤسَّسات البشريَّة أن تلبِّي رويدًا رويدًا دعوة الواقع الروحيِّ الذي يسمو على كلِّ واقع" (المصدر نفسه رقم 29: 4).
تضامنٌوثيقٌ بين الكنيسة والعائلة البشريّة بأسرها
"إنَّ آمالَ البشر وأفراحَهم، في زمننا هذا، إنَّ أحزانهم وضيقاتهم، لا سيَّما الفقراء منهم والمعذَّبين جميعًا، لَهي أفراحُ تلاميذ المسيح وآمالُهم، هي أحزانُهم وضيقاتُهم. وهل من شيء إنسانيٍّ حقٍّ إلاَّ وله صدى في قلوبهم؟ فجماعتهم تتألَّف من بشرٍ يجمعهم المسيح، ويقودهم الروح القدس في مسيرتهم نحو ملكوت الآب. إنَّهم يحملون رسالة خلاصٍ عليهم أن يعرضوها على الجميع. ولذلك تعترف جماعة المسيحيِّين بتضامنها الحقِّ والوثيق مع الجنس البشريِّ وتاريخه" (المصدر نفسه رقم 1).
هذا وقد نوقشت المبادئ والتوجيهات الواردة في وثائق المجمع الفاتيكانيِّ الثاني منذ خمسين سنة، في ندوات ومؤتمرات ونشرات كثيرة. وأصبحت هذه الوثائق الدّستورَ الرّسميّ للعلاقة بين المسيحيَّة والإسلام. ومن ثمارها معايدة البابا للمسلمين لا سيَّما في عيدَي الفطر والأضحى، وفي مناسبات أخرى. وكذلك نشاطات المجلس الحبريّ للحوار بين الأديان.
ولا بدّ أن نذكر في هذا الصّدد، الإرشاد الرسولي للبابا بندكتوس السادس عشر حول الكنيسة في الشرق الأوسط: شركة وشهادة (2013). وقد صدرت هذه الوثيقة على أثر انعقاد سينودس الأساقفة في رومة حول الكنيسة في الشرق الأوسط (من 10 إلى 24 تشرين الأول 2010). وهي صدى لتعاليم المجمع الفاتيكانيِّ الثاني. وإليكم بعض المقتطفات منها:
 الحوار بين الأديان
19- "إنَّ طبيعةَ الكنيسة ودعوتَها الكونيِّة تتطلَّبان منها إقامة حوار مع أعضاء باقي الديانات الأخرى. يرتكز هذا الحوار في الشَّرق الأوسط إلى عَلاقاتٍ روحيِّةٍ وتاريخيِّةٍ تجمع المسيحيِّين مع اليهود والمسلمين. هذا الحوار، الَّذي لا تفرضه بالأساس اعتباراتٌ براغماتيَّة ذاتُ طابع سياسيّ أو اجتماعيّ، بل يستند، قبل كلّ شيء، إلى أُسسٍ لاهوتيِّة مرتبطة بالإيمان. تلك الأسسُ الَّتي تجد مصدرَها في الكتاب المُقَدَّس، ويُحدِّدها بوضوح دستورُ الكنيسة العقائديّ "نور الأمم" والإعلان بشأن عَلاقات الكنيسة مع الدّيانات غير المسيحية، في عصرنا. اليهود والمسيحيُّون والمسلمون يؤمنون بإله واحد، خالق جميع البشر. فليُعِدِ اليهود والمسيحيون والمسلمون اكتشافَ إحدى الرّغبات الإلهيّة، أي الرّغبة في وحدة وتناغم العائلة البشريِّة. وليَكتشفِ اليهودُ والمسيحيّون والمسلمون في المؤمن الآخر أخًا يُحترم ويُحَبّ كي يُقدِّموا، كلٌّ على أرضيّته أوَّلًا، شهادةً جميلةً للصفاء والمودّة بين أبناء إبراهيم. فلتكن معرفة إلهٍ واحدٍ بالنِّسبة للمؤمن الحقيقي - إذا تمَّ عَيشُها بقلب طاهر- دافعًا قويًّا للسَّلام بالمنطقة وللتعايش المشترك، القائم على الاحترام بين أبنائها، وليس أداةً تُستغلُّ في إشعال الصّراعات المُتَكَرّرة، وغير المبرَّرة".
العلاقة مع المسلمين
23-"بأمانةٍ لتعاليم المجمع الفاتيكانيِّ الثاني تنظر الكنيسة الكاثوليكيَّة، إلى المسلمين بأعين التقدير، أولئك الذين يعبدون الله خصوصا بواسطة الصَّلاة والزّكاة والصّيام، يكرِّمُون يسوع كنبيٍّ، دون الإقرار بألوهيِّته، ويُكرِّمون مريمَ، أمَّه العذراء. نعلم أنَّ اللّقاء بين الإسلام والمسيحيّة اتَّخذ غالبًا شكل الجدل العقائديِّ. وقد شَكَلَّت هذه الاختلافاتُ العقائديّة وللأسف ذريعةً لدى هذا الطرف أو ذاك ليُبَّرِرَ، باسم الدين، ممارساتِ التعصّب والتمييز والتهميش وحتَّى الاضطهاد".
24- "على الرّغم من ذلك، يتقاسم المسيحيُّون مع المسلمين الحياةَ اليوميِّةَ نفسَها في الشَّرق الأوسط، حيث وجودهم ليس عرضيًّا أو حديثًا إنَّما تاريخيّ. فالمسيحيُّون، لكونهم جزءًا لا يتجزأ من الشرق الأوسط، أقاموا على مرِّ العصور نوعًا من العلاقة مع محيطِهم يُشكِّل مثالًا يُحتذى به. وتفاعلوا مع تَديُّن المسلمين وواصلوا عيشَ حياتهم وتعزيز قيم الإنجيل في ثقافة بيئتهم، حسب إمكاناتهم وضمن حدود الممكن. ونتجت عن ذلك حياة تكافليِّة مُتَميِّزة. ولهذا السبب، من المنصف أن نُقرَّ بإسهام اليهود والمسيحيِّين والمسلمين في نشأة ثقافةٍ غنيّةٍ في الشَّرق الأوسط".
المشاركة التامَّة في حياة الوطن
25- "من واجب وحَقِّ المسيحييِّن في الشَّرق الأوسط، ومعظمُهم من سكَّان البلاد الأصليِّين، المشاركةُ التَّامّة في حياة الوطن من خلال العمل على بناء أوطانهم. ينبغي أن يتمتَّعوا بمواطنة كاملة، لا أن يُعاملوا كمواطنين أو مؤمنين من درجةٍ ثانية. وكما كانت الحال في الماضي، إذ كانوا من رُوَّادِ النَّهضة العربيِّة، وكانوا جزءًا لا يَتَجزَّأ من الحياةِ الثَّقافيِّة والاقتصاديِّة والعلميِّة لمختلف حضارات المنطقة، ها هم يرغبون، اليومَ وعلى الدوام، في مقاسمة خبراتهم مع المسلمين مقدِّمين إسهاماتهم الخاصَّة. إنَّ المسيحيِّين، بفضل يسوع، هم حسَّاسون تجاه كرامة الشَّخص البشريّ والحُرِّيّة الدِّينيِّة النَّاجمة عنها. فقد قام المسيحيُّون - بدافع حبّهم لله والبشريّة، وممجِّدين هكذا طَبيعةَ المسيح المزدوجة، وراغبين في الحياة الأبديّة- ببناء المدارس والمستشفيات وشتى أنواع المعاهد، حيث يُستقبل الجميع بدون أيّ تمييز (راجع متى 25، 31+). لهذه الأسباب بالذّات، يولي المسيحيُّون حقوقَ الشخص البشريّ الأساسيَّةَ اهتمامًا خاصًّا. إنَّ التّأكيد على أنَّ هذه الحقوق ليست إلاَّ حقوقًا مسيحيّة للإنسان، هو تأكيد غير صحيح. إنَّها ببساطة حقوق تقتضيها كرامة كلّ كائن بشريِّ وكلّ مواطن مهما كان أصله أو قناعاته الدّينيّة أو خياراته السياسيّة".
الحرِّيَّة الدينيّة
26- "الحُرِّيّة الدِّينيِّة هي تاج كلّ الحُرِّيَّات. إنَّها حَقٌّ مُقَدَّسٌ وغير قابل للتفاوض. إنَّها تَشمل في الوقت ذاته، الصعيدين الفرديّ والجماعيّ، حُرِّيّة إتِّباع الضَّمير في المسائل الدِّينيِّة، وكذلك حُرِّيّة العبادة. وتشمل حرِّيّة اختيار الدّيانة الَّتي يرتئي الشَّخص أنَّها صحيحة والتّعبيرُ علانية عن هذا المعتقد. يجب أن يُسمح للإنسان بممارسة ديانته والتّعبير عن رموزه بحرِّيّة، دون أن يُعرِّض حياته وحرِّيَّته الشَّخصيَّة للخطر. تَستَمدُّ الحُرِّيّة الدينيّة جُذورَها من كرامةِ الشَّخص. إنَّها تضمن الحُرِّيّة الأخلاقيِّة وتُنمِّي الاحترام المتبادل. إنَّ اليهود الذين تعرَّضوا طويلا لأعمال عدائيّة، غالبًا ما كانت قاتلة، لا يسعهم أن ينسوا فوائد الحُرِّيّة الدينيّة. أمَّا المسلمون فيتقاسمون من جانبِهم مع المسيحيِّين القناعة بأنَّ الإكراه فيما يتعلَّق بالدّين غير مقبول، خصوصًا إذا تَمَّ بواسطةِ العنف. إنَّ هذا الإكراه، الَّذي قد يتَّخذ أشكالًا مُتَعدِّدة وخطيرة على الأصعدة الشَّخصيّة والاجتماعيّة والثقافيّة والإداريّة والسياسيّة، يتناقض مع مشيئةِ الله. وهو يُستخدم أداةً لتحقيق مآربَ سياسيّة-دينيّة، أداةً للتمييز والعنف الذي قد يؤدِّي للموت. إنَّ اللهَ يريد الحياةَ لا الموت. إنَّه يُحَرِّم حتَّى قتل القاتل (راجع تك 4، 15-16؛ 9، 5-6؛ خر 20، 13)".
التسامح الدينيّ
27- "التسامح الدينيِّ موجود في العديد من الدول، لكنَّه لا يؤدِّي إلى نتيجة ملموسة لأنَّه يبقى محدودًا في نطاق تطبيقه. من الأَهَميِّة بمكان الانتقالُ من التسامح الدينيِّ إلى الحُرِّيِّة الدينيِّة. هذا الانتقال لن يَتَسَبَّب في النِّسْبَويَّة، كما يؤكِّد بعضُّهم. فهذه الخطوة الواجبة ليست تصدَّعًا في المعتقد، لكنَّها إعادةُ نظرٍ في العلاقة الأنتروبولوجيَّة مع الدين والله. وليست تعدِّيًا على "الحقائق المؤسِّسة" للمُعتقد، لأنَّه، على الرّغم من الاختلافات البشريّة والدينيّة، ثمَّة بَصِيصٌ مِنَ الحقيقةِ يُنير جميع البشر".
التّعايش في الشّرق ممكن!
28-أنظار العالمِ كلِّه موجَّهة صوب الشرق الأوسط الذي يبحث عن طريقه. فلتُظهر هذه المنطقة أنَّ التعايش الأخويّ ليس أمرًا مثاليًّا، وأنَّ انعدام الثقة والأحكام المسبقة ليست أمرًا حتميًّا. فباستطاعة الأديان أن تلتقي مَعًا لخدمة الخير العام وللمساهمة في تنميَّة كلّ شخص وفي بناء المجتمع. يعيشُ المسيحيُّون الشرق-أوسطيّون منذ قرونٍ الحوارَ الإسلاميَّ – المسيحيَّ. إنَّه بالنِّسبة لهم حوارٌ عبرَ الحياة اليوميِّة ومن خلالها. ويدركون غنى الحوار وحدودَه. يعيشون أيضًا الحوارَ اليهوديَّ - المسيحيَّ الأكثر حداثة. ويوجد منذ زمن بعيد حوار ثنائيّ أو ثلاثيّ الأطراف بين "مُثَقّفين أو لاهوتيِّين" يهودٍ ومسيحيِّين ومسلمين. إنَّه مُختبرُ اللقاءَات والبحوث المختلفة، ولا بُدَّ من تعزيزه. تساهم في هذا المجال جميع المعاهد أو المراكز الكاثوليكيّة المختلفة - المعنيّة بالفلسفة واللاهوت وسواهما - الَّتي أبصرت النُّور في الشَّرق الأوسط منذ زمن بعيد، وتعمل أحيانًا في ظروف صعبة. أُوجِّه لهم تحيِّةً وديّة وأشجِّعهم على مواصلة عمل السَّلام هذا، مدركين ضرورة دعم كلِّ ما من شأنه التِّصدِّي للجهل وتَنمية المعرفة. الاتِّحاد المفرح بين حوار الحياة اليوميّة وحوار "المثقَّفين أو اللاهوتيِّين" سيساهم حتمًا، بشكلٍ تدريجيٍّ وبمعونة الله، في تحسين التّعايش اليهوديّ - المسيحيّ، واليهوديّ - الإسلاميّ، والإسلاميّ - المسيحيّ. هذه هي أمنيَّتي والنِّيّة الَّتي أصلّي من أجلها" (نهاية المقتطفات).
رسائل بطاركة الشرق الكاثوليك
رسائل بطاركة الشرق الكاثوليك هي تعبير محلِّيٌّ مشرقيٌّ لتعليم الكنيسة الوارد في الوثائق السابقة. في الواقع أكبَّ مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك على دراسة وضع المسيحيِّين المشرقيِّين في إطار وجودهم ودورهم التاريخيِّ في مجتمعهم المشرقيّ العربيِّ ذي الأغلبيَّة المسلمة. وكان هذا موضوع رسائلهم الكثيرة منذ تأسيس المجلس 1991. ومنذ الاجتماع الأوَّل للمجلس. هكذا نقرأ في الرِّسالة الأولى، وفي الاجتماع الأوَّل، فقرة عنوانها مثل عنوان رسالتي هذه، هذا نصّها.
إلى إخوتنا المسلمين
"إنَّنا نتوجِّه إلى إخوتنا المسلمين بقلبٍ مفتوح ونيَّة صادقة. إنَّ عيشنا المشترك الذي يمتدُّ على قرون طويلة يشكِّل، بالرغم من الصعوبات، الأرضيَّة الصَّلبة التي نبني عليها عملنا المشترك حاضرًا مستقبلًا، في سبيل مجتمعٍ متساوٍ ومتكافئ لا يشعر أحَّد فيه، أيًّا كان، أنَّه غريب أو منبوذ".
"إنَّنا ننهل من تراثٍ حضاريٍّ واحد نتقاسمه، وقد أسهم كلٌّ منّا في صياغته انطلاقًا من عبقريَّته الخاصَّة. إنَّ قرابتنا الحضاريَّة هي إرثنا التاريخيِّ، الذي نُصِرُّ على المحافظة عليه، وتطويره، وتجذيره، وتفعليه، كي يكون أساس عيشنا المشترك وتعاوننا الأخويّ. إنَّ المسيحيِّين في الشرقِ هم جزءٌ لا ينفصل عن الهويَّة الحضاريَّة للمسلمين. كما أنَّ المسلمين في الشرق هم جزءٌ لا ينفصل عن الهويَّة الحضاريَّة للمسيحيِّين. ومن هذا المنطلق نحن مسؤولون بعضًا عن بعض أمام الله والتاريخ".
 
دعوة نموذجيّة
وفي الفقرة الثانية نداء كنداء الوثائق الكنسيَّة بأسرها، وشرح لدعوتنا المشتركة النموذجيَّة، مسيحيِّين ومسلمين.
"ولذا علينا أن نبحث بشكلٍ مستمرٍّ، عن صيغة، لا للتعايش فحسب، بل للتواصل الخلَّاق والمثمر، الذي يضمن الاستقرار والأمان لكلِّ مؤمن بالله في أوطاننا، بعيدًا عن آليةِ الحقدِ والتعصُّب والفئويةِ ورفضِ الآخر. وإنَّنا على قناعة بأنَّ قيمنا الروحيَّة والدينيَّة الأصيلة خليقة بأن تساعدنا على تخطِّي المشاكل التي قد تطرأ على مسيرة عيشنا المشترك. وهذا ما يفرض علينا أن ينظر بعضنا إلى بعض بروح الانفتاح والتعرُّف المتبادل الحقيقي لأنَّ الإنسان عدوُّ ما يجهل".
"إنَّ العالم اليوم تُمزِّقه آفات الفرقة والتعصُّب والتمييز على اختلاف أنواعها. وإنَّنا نطمح إلى إرساء قواعد عيش تكون نموذجًا لعالمنا، بدل أن نشوِّه قصد الله فينا فنكون صورة عكسيَّة لما يطمح إليه إنسان اليوم من السلام والوئام والتعاون على أساس المواطنة الحقيقيَّة والصادقة".
"لقد أرادنا الله، جلّت حكمته، معًا في هذه البقعة من العالم. وإنَّنا نقبل هذه الإرادة برحابة صدر ونرجو أن تعمل هذه الإرادة على توسيع قلوبنا بحيث تتَّسع للجميع مهما كانت انتماءاتهم المختلفة" (رسالة بطاركة الشرق الكاثوليك في مناسبة انعقاد اجتماعهم الأوَّل في لبنان من 19 إلى 24 آب 1991).
وأصدر مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، رسائل عدَّة، ولم تخلُ رسالة واحدة إلاّ وفيها حديث حول التواصل مع المواطنين المسلمين. وكانت الرسالة الثالثة (عام 1994) مخصَّصة لهذا الموضوع الحيوي لنا مسيحيِّين ومسلمين وتحمل هذا العنوان المعبِّر:
"معًا أمام الله في سبيل الإنسان والمجتمع، العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيّين في العالم العربيِّ"
هذا العنوان برنامج عمل لنا جميعًا: علينا أن نكمِّل العيش معًا، أمام الله وفي ضوء الإيمان، وذلك في سبيل الإنسان والمجتمع.
الرسالة موجَّهة إلى المسيحيِّين. ومثل رسالتي هذه موجَّهة خصِّيصًا إلى المسلمين في العالم العربيِّ، وإلى المسلمين والمسيحيِّين في الغرب، وإلى المسلمين في كلِّ العالم.
أكتفي بسرد فقرات قصيرة معبِّرة من هذه الرسالة التاريخيَّة.
"نوجِّه رسالتنا هذه إلى إخوتنا وأبنائنا الأعزَّاء، ومن خلالهم إلى جميع أبناء أوطاننا، وبالأخصّ إلى المسلمين إخوتنا، وإلى ذوي الإرادة الصالحة في العالم. وإنَّنا بذلك نضمُّ أصواتنا إلى الأصوات الصادقة الكثيرة في بلداننا وفي كلّ مكان، والداعية إلى التلاقي الخلاَّق بين أبناء جميع الديانات" (رقم 7).
"وهكذا يتمكَّن البشر من بناء "حضارة المحبَّة" التي تمجِّد الله، والتي يتوق إليها إنسان اليوم بكلّ جوارحه، بالرغم ممَّا يعترض سبيلها من عقبات وعراقيل" (رقم 7).
تساؤلات
"إذا ما نظرنا إلى هذه القضايا المرتبطة بالدين والسياسة من زاوية العيش المشترك بين المسيحيِّين والمسلمين، فالسؤال الذي يطرح نفسه، لا بل التحدّي الذي نواجهه هو: كيف يمكننا المساواة بين المسيحيِّ والمسلم في البلد العربيِّ الواحد؟ نحن اليوم على مفترق طرق، وما زلنا نواجه القضيَّة نفسها، أي كيفيَّة الإبقاء على الروح الإسلاميَّة والمسيحيَّة معًا لبناء الشخصيَّة العربيِّة في كلِّ بلد يتواجد أو لا يتواجد فيه العربيِّ المسيحيِّ والمسلم. فمع بقاء الدين عنصرًا جوهريًّا في المواطنيَّة والحياة العامة، كيف يمكننا أن نتجاوز عقبة التفريق بين المواطنين بسبب انتمائهم الدينيِّ؟ كيف يمكننا أن نتجاوز هذه العقبة في الواقع المعاش؟" (رقم 35).
"ونتمنَّى أن يمتلئ كلّ واحد من نور دينه في ممارسة الحياة العامَّة من خلال إطار قانوني يسمح حقًّا للجميع بالمشاركة المتساوية في مجال الحياة الوطنيَّة، بما فيها القرار السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ وغيره" (ختام رسائل البطاركة).
ولنا معلِّم في هذا التوجُّه الكنسيِّ الشامل بالنسبةلموقف الكنيسة من الإسلام والمسلمين، وهو قداسة البابا فرنسيس. وهو يذكر دائمًا في خطبه ومواقفه، ضرورة العيش معًا لأجل الإنسان وخير المجتمع، لكي نبني معًا مسيحيِّين ومسلمين، حضارة المحبَّة، لكي تكون للناس ولجميع الناس، لكي تكون لهم الحياة، وتكون لهم أفضل.
ذلك هو موقف الكنيسة الكاثوليكيَّة الرسميّ، وهو بطبيعة الحال موقف جميع أبنائها، رعاةً كانوا أم جماعة المؤمنين.
ننتظر وثائق مماثلة من العالم الإسلاميِّ، لا سيَّما من المسلمين المقيمين في البلاد العربيِّة، وكذلك في البلاد الأوروبيَّة حيث ينتشر المسلمون اليوم أكثر من ذي قبل. نحتاج إلى أصوات واضحة، ذات سلطة ومصداقيَّة، للإجابة على تساؤلات المسيحيِّين، والانفتاح على هذه الوثائق الكنسيَّة الرسميَّة الصادرة عن أعلى سلطة في الكنيسة.
انطلاقًا من هذه الوثائق الكنسيَّة التاريخيَّةومن صميم قناعتي،أكتب هذه الرّسالة، علمًا أنَّ الأفكار الواردة فيها تكاد تتردَّد في كلٍّ من رسائلي الرعويَّة، ومحاضراتي، ومداخلاتي في المؤتمرات، والمقابلات الصحفيّة التي أُجريَت معي في مختلف أنحاء العالم.
وهذه بعض المقتطفات من محاضرتي "كنيسة العرب وكنيسة الإسلام" (راجع مجلَّة آفاق – العدد 27-2004، مؤتمر كنيسة العرب – مركز لقاء).
إنّ عنوان المحاضرة، في حدِّ ذاته، أثار الاهتمام ولفتَ الأنظار إلى أهميّة مضمونها، وقد حدّدتُ فيها موقفي من مفاهيم كثيرة تهمّ المسيحيِّين والمسلمين على السواء، وتقتضي منَّا أن نعمل معًا لأجل تطويرها في مجتمعنا. ومنها:
مفهوم الدين
"إنَّ المفهوم الحقيقي للدين لا يُجيز لكَ أن تستعمل حتى عبارة: ديني أو دينكَ! وربما كان ذلك معنى الآية القرآنيَّة: " لكم دينكم ولي ديني!" (سورة الكافرون، الآية 6) فدينكم (المنبثق من عقليَّتكم البشريَّة) يَحصُرُكم، يُقيِّدُكم، يُقزِّمكم، يُفرِّقُكم، يُشَرْذِمُكم. أمَّا ديني الذي أُبشِّركم به، فهو يرفعكم، يرتقي بكم، يُوحِّدُكم، يجمعُكُم، يربط فيما بينكم".
"وعليه، فالمسيحيّ الذي أصبح حقًّا خليقة جديدة، لا يمكن أن يتقوقع في ذاته، أو يحصر نفسه في فريق، في جماعة، وحتَّى في كنيسة. وأنا كمطرانٍ أو بطريرك مسيحيِّ عربيّ، لست للمسيحيِّين فقط، أنا إنسان ولأجل أخي الإنسان، لكي أحمل إليه الإنجيل ليس وكأنَّه إنجيلي أنا، أو إنجيل جماعة محصورة. بل أحمل إليه الإنجيل بمعناه الأصيل الأصلي: بشارة جميلة، روحيَّة، شاملة، عالميَّة".
"هذا ما يدفعني إلى أن أطلق تصريحات تُخدِّش بعض الآذان، وقد ردَّدتُها مرارًا على مدى ثلاثين عامًّا، وأنا طالب في مدرسة دير المخلِّص، ويوم رسامتي مطرانًا نائبًا بطريركيًّا في القدس (عام 1981)، وفي خطابي أمام قداسة البابا القدّيس يوحنا بولس الثاني أثناء زيارتي الأولى لقداسته في رومة (عام 2001) مع رهط من المطارنة والكهنة والمؤمنين من رعايانا (700 شخصًا). فكان هذا الموقف نوعًا ما إعلانَ اعترافي بإيماني الإنسانيّ، المسيحيّ الكاثوليكيّ، عندما صرَّحت: أنا بطريرك كنيسة هي "كنيسة العرب" وفي إطارها الجغرافيّ والديموغرافيّ هي أيضًا "كنيسة الإسلام".
"وفي كلّ ذلك لا بدَّ من احترام الهويَّة الخاصَّة بالمسيحيّ وبالمسلم. ولا يجب أن يشعر المسلم أنَّ هناك قصدًا بتدمير هويَّته، واقتحام حَرَمَه، أو شخصيَّته، أو نمطِ حياته، أو قناعاتِه. بل يشعرُ بالأمان والاحترام. وبحيث تتوفَّر الشروط لتداخل Osmoseمليءٍ بالفطنة والاحترام والانفتاح."
كنيسة العرب وكنيسة الإسلام
"العبارتان ليستا موضوع مزايدات اجتماعيَّة أو سياسيَّة أو انتهازيَّة أو طائفيَّة. العبارتان "كنيسة العرب" و"كنيسة الإسلام" هما مشتقّتان من صميم إيماننا المسيحيِّ، وبالتحديد من وحي الإنجيل، ومن عقيدة التجسّد الإلهي. العبارتان تُجسّدان إيمانَنا المسيحيِّ المطلق، في مجتمعنا العربيِّ الشرق-أوسطيّ. العبارتان هما تطبيقٌ عمليٌّ لعقيدة التجسّد، على الأرض، في الواقع، في التاريخ، في الجغرافية، في المجتمع، في المعاصَرة، في أرضنا العربيِّة".
"ليست هذه القناعات خيارًا حرًّا، ولا خيارًا استراتيجيًّا مرتبطًا بشروط وضعٍ سياسيٍّ أو اجتماعيٍّ معيَّن، مثلًا في لبنان بالذات، أو في سوريَّة. كلا أنّها قناعات روحيَّة، عقائديَّة، إيمانيَّة، وجوديَّة، تنطلق من صميم ضميري وتفكيري وخبرتي المسيحيَّة والإنسانيَّة والرعويَّة. ومن ضميرنا وتفكيرنا وخبرتنا جميعًا!".
"وأعتبرها جوهريَّة وأساسيَّة ومهمّة جدًّا لكي تساعدنا على فهم سؤال مطروح علينا جميعًا كرعاة، وبنوعٍ خاصّ على مؤمنينا العائشين في خضمِّ مشاكل الحياة اليوميَّة والمعاناة، والجهاد لأجل عيش قيم الإنجيل، قيمِ إيمانهم، في عالم نكرز فيه بالعيش المشترك، والمعايشة والتضامن والحوار واللقاء والتسامح والمحبَّة، نابذين ما يُراد لعالمنا أن يكون عالمـًا منقسمًا، عالمَ صراعِ الحضارات والديانات والثقافات. أجل هؤلاء المؤمنون يعيشون هذه الظروف والأحوال والمعاناة. ويحتاجون إلى جوابٍ على سؤالنا وسؤالهم: ما هي رسالتنا وما هو دورنا في عالمنا العربيِّ ذي الأغلبيَّة المسلمة! لماذا يجب أن نبقى هنا!".
"علينا مسيحيِّين ومسلمين أن نكون في "لقائنا" خلاّقين، روَّادًا، مخترعين. لكي نبني معًا مجتمعًا عربيًّا نشعر أنَّه مجتمعنا، بيتُنا لنا كلِّنا نحن مواطني هذا العالم العربيِّ الكبير".
"ولذا لا يجوز أن نترك إخوتنا المسيحيِّين الغربيين وحدهم في موضوع موقفهم من الإسلام ومن الحوار ومن علاقات الشرق والغرب، والعالم العربيِّ مع الغرب، وعلاقات الغرب بالعالم العربيِّ والإسلامي. وبات لزامًا علينا أن نقول ذلك لهم ونشدِّد على أهميَّة دورنا في هذا الموضوع. كما أنَّه من الضروري أن نقول لإخوتنا المواطنين العرب عن أهميَّة دورنا، وأهميَّة أن نكون إلى جانبهم في حوارهم مع الغرب المدنيّ والدينيّ".
"أليست الظروف العالميَّة الحالية والعربيَّة الراهنة هي دعوة ملحَّة لتفعيل هذا الدور التوافقي الفريد؟ أليست الضغوطات الحاليَّة الممارسة على العالم العربيِّ والإسلامي نداءً ملحًا لتكثيف التفاعل المسيحي – الإسلامي في منطقتنا، لكي نجنِّد قوانا المشتركة في مسيرة المستقبل العربيِّ، المسيحيِّ الإسلاميِّ، المشترك في مطلع هذه الألفيَّة الثالثة" (نهاية المقتطفات).
الحوار بين المسيحيّين والمسلمين[1]
"ولهذا ندعو إلى الحوار الروحيِّ الإيمانيِّ الجادّ! هلمُّوا إلى كلمةٍ سواءٍ! فلنتخاطب بكلمات إيماننا الجميل. لأنّ الكلمة التي أعطاني إياه الله في إيماني المسيحيّ هي لي. ولكن ليست لي فقط! هي لمجتمعيّ، لإخوتيّ البشر! عليَّ أن أحملها لهم نورًا! محبّة! إشعاعًا! دعوة محبّة! علامة رجاء للآخر لكي ينموَ في دينه ومعتقده ويتعمّق فيه، وليس لكي يحتقره أو أنا أحتقره!".
"إنَّه من الأهميَّة على جانب كبير أن يُحبَّ كلَّ إنسان دينه، "كلمة الله" له. ويتعرّف عليه، ويتعمّق فيه، ويحافظ عليه ويدافع عنه. ولكن عليه أن يكون منفتحًا على الآخر وعلى معتقده وإيمانه. وإلاّ وقعنا في النسبيّة التي هي أكبر أعداء الإيمان".
"يسوع يدعونا إلى التبشير به قائلًا: "اذهبوا إلى العالم أجمع. وتلمذوا جميع الأمم" (متى 28: 19). ويحرّضنا القدّيس بولس الرسول مخاطبًا تلميذه تيموثاوس: "بشِّر (بالكلمة) في حينه وفي غير حينه" (1 تيم 4: 2).
لا احتكار لكلمة الله! إنَّها لي وللآخر! عالمنا المسلم يخاف التبشير! ولكنّه يدعو إلى التبشير بالإسلام. هذا موقف غير معقول. إنَّنا نطالب مواطنينا المسلمين أن تؤمَّن لنا حرّيّة حمل البشارة الصالحة إلى الآخر، بمحبّة واحترام، وتقدير لإيمان الآخر. ولا نطلب من الآخر أن يعتنق إيماننا! يكفي أن يكتشف إيماننا، ويقدِّره، ويحبَّه. أمَّا الهداية فهي عمل الله. "إنَّك لا تهدي من أحببت! ولكنَّ الله يهدي من يشاء!" (سورة القصص 56).
"كلمة الله لي وهي وحيُه لي! ولكنَّها ليست لي فقط! بل علينا أن نشارك الآخر فيها. علينا أن يكون بيننا خبز وملح! ولا يُهمُّني الخبز والملح والقهوة بيننا! بل يُهمُّني كيف نتقاسم كلمة الله في المسيحيّة والإسلام واليهوديّة. كيف نُغذِّي بعضنا بعضًا بكلمة الله! لأنّ كلمة الله هي الخبز الجوهريّ (أعطِنا خبزنا الجوهريِّ). صلاة الأبانا هي دعوة إلى المشاركة بكلمة الله!".
"نشكر الله على العلاقات الكثيرة الجميلة بين المسيحيّين والمسلمين، بخاصّة في الحياة اليوميّة. ولكنّني أطلب أن نشارك بكلمة الله! هذا ما يجمعنا! ويُوحِّدنا! ويُقوّينا! ويُقوّي إيماننا! لا نخف أن نحبَّ كلمة الله عند أخينا! لا نخف من الآيات القرآنيّة ولا نخف من آيات الإنجيل المقدّس! أو التوراة! إنّها كلمة الله لنا كلّ حسب دعوته. وأقول لإخوتي المسلمين لا تخافوا من إيماننا. بل بالحريّ علينا أن نخاف من كلماتنا الحاقدة! الناقدة! المتكبرة! المتعالية! كلمة الله لا تحتقر! لا تتكبَّر! لا تنتفخ! لا تتباهى. لا تفرح بالسوء بل تفرح بالحقّ. لا تحبّ الإساءة! لا تفرح بالظلم! بل تفرح بالحبّ! تصدّق كلَّ شيء (1كو 12)".
كلام الله وكلام الناس
"لنحبَّ كلمة الله. فإنَّ كلمات الله لنا جميعًا! فلنتقاسَمْها ولنتغنّ بها! ولنُحبَّها! ولتكن لنا كلماتٍ لودِّنا وعيشنا المشترك وتعايشنا! وتواصلنا! بدل أن نتغنّى بكلمات المجاملة الفارغة والكاذبة والمتملِّقة. فلنتغذَّ بها ولنغذِّ بعضنا بعضًا بأجمل كلمات الأرض، ألا وهي كلمات السماء! كلمات الله لأبناء البشر. فالله غنّي وكلماته كلمات منعشة لنا كلّنا! لا نخف من كلمات الله بل لنخف من كلمات الناس! ولنعمل لكي تتحوّل كلمات الناس إلى كلمات الله!".
"أقترح أن نؤسِّس منتدى باسم "منتدى كلمة الله" حيث يجتمع مسيحيِّون في ما بينهم ومسيحيّون ومسلمون. ويتحاورون حول كلمة الله".
"غيرتنا على كلمة الله يجب أن تكون أوَّلًا أداة لتقديسنا وتعمُّقنا في إيماننا. ولا يجوز أن تتحوّل غيرتنا على كلام الله وتعاليمه أداةَ وسلاحًا لاستغلال الآخر، أو الحكم عليه أو اضطهاده أو إرغامه على اعتناق ديننا. كما لا يجوز أن تصبح كلمة الله مصدر صراع بين المؤمنين وأصحاب المعتقدات المختلفة، ولا أن تصبح أداة إرهاب أو مفاضلة باطلة".
"فكلمة الله هي الحَكَمُ وليس نحن، بالنسبة لمن لا يؤمن بإيماننا."
"ولماذا نخاف من الكنائس والجوامع! إذا كانت علامةَ تحدٍّ فهي تُخيف! ولتكن علاماتِ إيمانٍ! تبعثُ الأمل والرجاء بدل الخوف".
"ولماذا تخاف السعودية من كنيسة أو من الإنجيل عندها؟ أو من صلاة المسيحيّين في الجماعة؟ من هو في النور لا يخاف شيئًا!".
"لا نخفْ! النبي محمد لم يخفْ من الوجود المسيحيّ واليهوديّ! بل حارب الوثنية علنًا. واليوم كلّنا، مسيحيّين ومسلمين، علينا أن نحارب الوثنية المعاصرة، والشِّرْك والكفر".
"وأقول لإخوتي المسلمين لا تخافوا من إيماننا. بل خافوا من عدم إيماننا! من عاداتنا التي لا تحبّونها. ولإخوتي المسيحيِّين أقول: لا تخافوا من المسلمين المؤمنين الذين يحفظون كلمة الله!" (من رسالتي لميلاد 2007).
ويسرُّني أن أنقل إليكم أيُّها الأحبَّاء ما كتبته في رسالة عيد الميلاد عام 2006، وهي بعنوان: "السلام والعيش المشترك والحضور المسيحيِّ في المشرق العربيِّ". وأوّل ما قلته فيها: "لا تخفْ أيَّها القطيع الصغير!".
"لا تخف أيها القطيع الصغير!" (لوقا 12: 32)
"لا تخف أن تكون ما قاله لكَ يسوع. أن تكون نورًا وملحًا" (متى 5: 13و14)، وخميرة، وخادمًا وشاهدًا ومتمثِّلًا بيسوع، وثابتًا في اتباع تعاليمه في الإنجيل المقدّس، في انفتاحٍ كامل على إخوتك البشر الذين لهم إيمانهم وقيمهم".
"بل قل لهم: أنا مواطنٌ معكم!"
"وأنا مؤمنٌ معكم!"
"وأنا خادمٌ معكم! وشاهدٌ معكم!"
"وبانٍ معكم في وطننا الواحد!"
"ومستقبلي مستقبلُكم!"
"وتقدُّمي تقدُّمكم!"
"ولغتي لغتُكم!"
"وانتمائي العربيِّ مثل انتمائكم ومعكم!"
"وأنا باقٍ معكم ولأجلكم!"
"وكما سرنا معًا على مدى 1437 سنة سنتابع المسيرة في الألفيَّة الثالثة".
دعوة إلى اخوتنا المواطنين المسلمين: هواجس المسيحيِّين
"وفي سعينا لإقناع أبنائنا المسيحيِّين بالبقاء في أوطانهم حيث زرعهم الله، نرى أنَّه من الضروري أن نتوجّه معهم وباسمهم ومن منطلق مسؤوليَّتنا كعرب مواطنين في البلاد العربيِّة، إلى إخوتنا المسلمين، إلى الحكام والشيوخ والفقهاء والمثقَّفين والمفتين، وإلى عموم المسلمين، لكي نقول لهم بصراحة، ما هي الهواجس التي تنتاب المسيحيِّين، وما هي مواقع التخوَّف عندهم، والتي تدفعهم إلى الهجرة؟".
"إنَّها ليست أسبابًا دينيَّة بحتة، ولكنَّها ذات طابع اجتماعيِّ، قوميِّ، حضاريِّ، وأيضًا دينيّ".
"فعندما نتكلّم عن العيش المشترك والتعايش والمواطنة، فلا بدّ أن يكون تحقيق شروط هذه المبادئ واجبًا يقع على كاهل المسلم كما يقع على كاهل المسيحيّ".
"هكذا هو الأمر في الكلام عن فصل الدين عن الدولة، وعن العروبة وعن القوميَّة والديمقراطيَّة وحقوق الإنسان، والتشريعات التي ترتكز على الإسلام كمصدرٍ وحيد للشريعة أو كمصدرٍ رئيسيٍّ، والتي تتسبَّب في تشريع قوانين ومواد دستوريَّة تميِّز بين المواطنين على أساس الدين وتَحولُ دون المساواة أمام القانون، وتنتقص من المساواة في المواطنة. وكذلك القول عن أحزابٍ متشدِّدة وتيَّارات إسلاميَّة وحركاتٍ أصوليَّة هنا وهناك. تُنسب إليها، بحقٍّ أو بغير حقٍّ، أعمال عنفٍ وإرهابٍ وقتلٍ وإحراقِ كنائس وتسلُّطِ مواطنين على أترابهم، واستغلالِ الدين والأغلبية الدينيِّة، لأجل إذلال الجار أو رفيق العمل والمهنة".
"هذه الأمور تجعل المسيحيِّين يشعرون بالقلق والخوّف من مستقبلٍ مجهولٍ في مجتمعٍ ذي أغلبيَّة مسلمة. وكثيرًا ما يُنعتونَ بالعَمالة أو بأنَّهم صليبيُّون أو كفَّارٌ أو متعاملون مع الغرب أو مع إسرائيل".
"هذه الأمور وسواها على شبهها تُشكِّل موضوعَ تخوُّفٍ لدى المسيحيِّين. ولا بدّ من أن تكون موضوع حلقاتٍ دراسيَّة ومؤتمراتٍ ومحاضراتٍ واجتماعاتٍ في المجتمع العربيِّ والإسلاميّ. ولا بدَّ من أن تُعالجَ بموضوعيَّةٍ حقيقية، فيضع المسلمون والمسيحيُّون معًا يدهم على الجرح الذي يسبب نزيف الهجرة لدى المسيحيِّين".
 
 
لا ذمِّيُّون ولا مَحميُّون
"إنُّنا نتوجّه بهذه الرسالة الميلاديَّة لعام 2006 إلى إخوتنا المسلمين بكلِّ ثقةٍ وبكلِّ محبَّة. وهذا مصدر صراحتنا! ونقول لهم بصراحة: إنَّنا، نحن وشعبنا ورعايانا، نريد أن نعيش معًا ونكمِّل مسيرة الأجيال السابقة، ونريد من إخوتنا المسلمين لا أن نكون "ذمِّيِّين" محميِّين. بل نريد أن نكون مواطنين مثلهم، لنا ولهم نفس الحقوق والواجبات. ونريد أن نبني معهم أوطاننا ونسهم في مستقبلٍ أفضل لها. هكذا كان دور المسيحيِّين في التاريخ، وهكذا يجب أن يكون اليوم معًا في الألفيَّة الثالثة للميلاد والقرن الخامس عشر للهجرة".
"فلا نطلب حماية من إخوتنا المواطنين المسلمين، بل مساواةً وتكافؤًا في فرصِ العمل والمهنة. نريد عيشًا مشتركًا وتعايشًا بكلِّ ما تحويه هذه العبارات من محبَّةٍ وثقةٍ واحترامٍ وإكرامٍ ومسؤوليَّات مشتركة، وتضامنٍ ومسيرةٍ مشتركة وعطاءٍ وتضحيَّاتٍ في سبيل أوطاننا. ونريد أن نشعر بهذا المناخ في كلِّ بلادنا العربيِّة بدون استثناء. فالمسيحيِّ مواطن عربيّ في كلِّ بلدٍ عربي، أكان عدد المسيحيِّين قليلًا أو كثيرًا، أكانوا فقراء أم أغنياء. لهم حقّ المواطنة الكاملة وفي كلّ قطر من الأقطار العربيِّة وبدون استثناء. ولهم حقّ الحرِّيَّة الكاملة في ممارسة شعائرهم الدينيَّة، وبناء كنائسهم لتتعانق مع مساجد إخوتهم المسلمين.هذه هي المواقف التي تجعل المسيحيّ يشعر بالأمان والاطمئنان وتخفِّف من وطأة الهجرة.ونقول لإخوتنا المسلمين: إنَّ لدينا نحن المسيحيَّين طاقات جبَّارة، ولنا أديارنا ومدارسنا وجامعاتنا ومؤسَّساتنا الخيريَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة والصحيَّة. وكلّها نسخّرها في خدمتهم. ولكن إذا هاجرنا فكلّ هذه الطاقات ستتبدَّد وتزول. والخاسر هو الإنسان العربيِّ، المسلم والمسيحيّ سواء بسواء".
"ونؤكّد لهم مجدَّدًا أنَّ تواصلنا الإيجابّي والحفاظَ على قيمنا الإيمانيَّة مسيحيِّين ومسلمين هو أساس مواطنتنا الحقيقيَّة وعيشنا المشترك. والتحدِّي الأكبر لنا، مسيحيَّين ومسلمين، هو كيف نعيش إيماننا في عصر العولمة، وكيف نوصله وديعة ثمينة مقدّسة إلى أجيالنا الطَّالعة وإلى شبابنا مسيحيِّين ومسلمين، وهم سواء بسواء معرَّضون للأخطار عينها في عالم اليوم".
خواطر في الحضور المسيحيّ في المشرق العربيِّ
وأعود إلى مطلع رسالتي لعام 2006 وإلى العبارات الثلاث التي تصدّرَتها: السلام والعيش المشترك والحضور المسيحيِّ في المشرق العربيِّ. وأختصر رسالتي بهذه الخواطر:
 1. العيش المشترك هو مستقبل هذه البلاد. وهذه مقولة تصحُّ للمسيحيِّين والمسلمين. وذلك يعني قبول الآخر كما هو واحترامه واكرامه. الاعتراف بمواطنته وكلِّ الحقوق المتحدِّرة عن هذه المواطنة. وهي حقوق الانسان كلِّ إنسان على هذه البسيطة وفي هذا الشرق.
2. "المسيحيُّون عنصر هامٌّ في هذا العيش المشترك. لأنَّه لا عيش مشترك بدون تعدُّدية، مضمونها أنَّ مجتمعي يضمُّ المسيحيِّ بجميع فئاته وطوائفه والمسلم بكلِّ فئاته وطوائفه واليهودي".
3. "هذا العيش المشترك مهدَّد بسبب الهجرة التي سببُها الأشدُّ خطورة، هي الحروب والأزمات، والتي أصلها كما قلنا كامن في الصراع الإسرائيليّ - العربيِّ والظلمِ الحاصل بسببه. ومن إفرازاته التطرّف والتزمّت والأصوليَّة والعنف والإرهاب ومشاعر العداء والكراهيَّة في المجتمع، وعدم المساواة في الحقوق وفرصِ العمل، والمشاركةُ في وظائف الدولة وإداراتها، في المجالس النيابيَّة وفي الوزارات والمناصب والخدمات الأخرى".
4. "إذا بقيت الهجرة على وتيرتها واستمرَّ نزيفها، فهذا يعني تفريغ الشرق من تعدديَّته المسيحيَّة. ويعني انهيار مقولة العيش المشترك. فالمسيحيّ لا يمكنه أن يصمد أمام مسلسل النكبات والأزمات والحروب والصراعات".
5. "ولكن ما يساعد بالأكثر المسيحيّ على الصمود أمام هذه المصاعب وعدم الهجرة، هو القناعة الإيمانيَّة أنَّ بقاءه في البلاد العربيِّة حيث وُلدت المسيحيَّة، وحيث زرعه الله مسيحيًّا، هو بذاته رسالة ودعوة.هذه الدعوة محتواها أنَّ الكنيسة المسيحيَّة، ولنقلْ هنا بخاصَّة الأنطاكيَّة، هي، كما أردّده دائمًا، كنيسة عربيَّة بجذورها وقوميَّتها. والأهمَّ من ذلك إنَّها كنيسة العرب وكنيسة الإسلام. إنَّها كنيسة عمانوئيل: الله معنا ولأجلنا. وهي بدورها كنيسة مع ولأجل الآخر. وهذا الآخر هو المواطن المسلم، في المجتمع العربيِّ ذي الأغلبيَّة المسلمة. المسيحيُّون مسؤولون أن يحملوا رسالة الانجيل وبشراه وقيمه في هذا المجتمع، لكي تكون الكنيسة حاضرة وشاهدة وخادمة في هذا المجتمع ومشاركة فيه ومتفاعلة معه".
6. "المناخ الملائم لكلّ هذه العناصر السابق ذكرها، وهي التعدديَّة والعيش المشترك ومع ما ذكر حولهما، المناخ الملائم هو السلام في المنطقة. السلام العادل والشامل والثابت الكفيل بإنهاء الصراع الإسرائيليّ - العربيِّ".
7. "من جهة أخرى إذا كانت البلاد العربيِّة وإذا كان المواطنون المسلمون حريصين على التعدديَّة، وعلى العيش المشترك، ويُهمِّهم أن يبقى المسيحيُّون في المنطقة، فلا بدَّ من أن يتمتّع المسيحيُّون بالمواطنة الكاملة وبجميع الحقوق المترتِّبة عليها. ولا بدّ للدول العربيِّة من أن تجمع كلمتها وتوحّدها لكي تفرض حلًّا حضاريًّا سلميًّا عادلًا للقضية الفلسطينيّة".
8. "وإذا لم يتمَّ الأمر، وفي مستقبل قريب منظور، فنزيف الهجرة سيستمر، وستزيد الحركات الأصولية والإسلامية، ويزيد العنف والإرهاب ويقع الشباب المسلم فريسة سائغة في حبائلها. ومعنى ذلك أنّنا سنخلّف لأجيالنا العربيِّة الشابة الطالعة إرثًا مظلمًا، ومستقبلًا قاتمًا. وسيفقد المجتمع العربيِّ الإسلامي مقوِّمات التعددية والعيش المشترك. وستتحقَّق نبوءة صراع الحضارات والثقافات والأديان." (نهاية المقتطفات).  لشديد الأسف، ذلك ما نراه اليوم عام 2016!      
تاريخٌ ميلاديّ وتاريخٌ هجريّ
لقد عشنا في العالم العربيِّ معًا، مسيحيِّين ومسلمين، على مدى تاريخنا المشترك، الهجريّ الإسلاميّ، والميلاديّ المسيحيّ. والتاريخان إشارة إلى الميلاد: ميلاد السيِّد المسيح له المجد، وانطلاقة الإسلام. الجميل أنَّنا نشير إلى هذا التاريخ المزدوج في نشرات الأخبار اليوميَّة. وفي ذلك درس هام لأجيالنا الطَّالعة. لذا أدعو وسائل الإعلام إلى أن تذكر هذين التاريخين معًا في مُستهَلّ كلّ يوم، بدلًا من أن تكتفي بتاريخ واحد، ميلاديّ أو هجريّ.
أيَّها الأحباء!
إنَّ عيشنا المشترك معًا حوالي 1437سنة بكمٍّ كبير من التوافق والتعاون والتضامن والتناغم في حقول الأدب والعلم واللغة والبناء والإعمار والفن والموسيقى والهندسة، وكلّ العلوم العربيِّة، الإسلاميَّة، المسيحيَّة... إنَّ هذا العيش المشترك هو برهان على أنَّ العيش المشترك ليس وهمًا، وليس مجرَّد أمنية، ولا مجرَّد موضوع مؤتمرات اللقاء والحوار المسيحيِّ الإسلاميِّ... بل هو تاريخ حقيقيّ! وإنجاز موثَّق بكلّ أنواع الوثائق والبراهين القاطعة...
لا بل إنَّ العيش المشترك هو الجواب القاطع المقنع لجميع الذين يشكِّكون في نجاح الحوار المسيحيّ الإسلاميّ... فإنَّ العيش المشترك، أو التعايش، أو الحوار الحياتيِّ اليوميِّ التاريخيِّ الناجح على مدى عقود وأجيال... هو الجواب على هذا التساؤل وهو البرهان على نجاح الحوار الحياتيِّ الذي هو الهدف الأسمى لكلّ مؤتمر أو لقاء أو دراسة أو تعليم أو أطروحة دكتورا...
الحلُّ هو الإسلام؟
يسرّني أن أشاطركم هذه الطُّرفة لما فيها من عبرة: دُعيت ذات يوم إلى الاحتفال بتخرّج طلاب جامعة الخليل في فلسطين، حوالي العام 1988. وإذا بمجموعة من الشباب يعتَلون المسرح، رافعين لافتة كُتب عليها: "الحلّ هو الاسلام".
فقمت والتحقت بالشباب قائلاَّ: "الحلّ هو أن نبقى معًا، مسلمين ومسيحيِّين!" ففرح الشباب بمبادرتي العفويّة ورحّبوا بي في احتفالهم.
·                   حبّذا لو اعتبرنا شعار "الحلّ هو الإسلام" دعوةً إلى المسلمين لكي يعُوا أنّ رسالتهم الأصيلة تستوجب تطبيق الإسلام الحنيف، الذي يأمر بالمعروف وينهي عن المنكَر!
·                   حبّذا لو رأينا في ترحيب الشباب المسلمين برجل دين مسيحيّ، وهم يرفعون شعار "الإسلام هو الحلّ"، دليلاً على أنَّ المسيحيَّة والإسلام هما معًا الحلّ!
·                   حبّذا لو أعلن الجانبان، الإسلاميّ والمسيحيّ، في بيانٍ مشترك، أنّ الحلّ هو أن يعيش كلٌّ منهما القِيَمَ الإنسانيّة الأصيلة التي يدعو إليها إيمانه، في عالمٍ هو أحوج ما يكون إلى القيَم والأصالة!
الانفتاح الحقيقيُّ
الجميل في الخُطَب التي يلقيها الأئمّة المسلمون، أنَّهم يستهلّونها دائمًا بذكر النبيّ الكريم وصحبه وآله، ثمّ يُردِفون: "والصّلاة والسلام على جميع الأنبياء والمرسَلين!".
أليس ذِكرُ الأنبياء والمرسلين جميعًا، رمزًا للانفتاح الإسلاميِّ الحقيقيِّ، الذي يجمع ولا يفرِّق؟ أليس هذا ما تشير إليه الآية الكريمة: "يا أيُّها الناس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا". ذلك هو بالضبط ما وردَ في الإنجيل المقدَّس عن السيِّد المسيح: "أتى ليجمعشمل أبناء الله المشتّتين ويجعلهم واحدًا" (يوحنا 11: 51-52).
أليس هذا هو الإسلام المنفتح؟ يدعو إلى رسالته من يشاء أن يدخلها (لا إكراه في الدين) (سورة البقرة 256) دون أن يكفِّر رسالة الآخرين، لاسيَّما أهل الكتاب من النصارى واليهود.
الإسلام الأصيل الذي نحبّ!
هذا هو الإسلام الحنيف! هذا هو الإسلام الذي عشناه معًا! وهذا هو الإسلام الذي نحبّه! وهذا هو الإسلام الذي نقدِّره، وهذا هو الإسلام الذي نريد نحن كمسيحيِّين مشرقيِّين أن ندافع عنه وأن نحميه ونحمي أتباعه من كلّ تحريفٍ أو تحويرٍ أو انحراف أو تحجيمٍ أو انزلاق، أو استغلالٍ، أو إتجارٍ... أو استثمارٍ...
هذا هو الإسلام الحلّ! وهذا هو الإسلام الذي عشناه معكم! وهذا هو الإسلام الذي نريد أن نتابع المسيرة معه، لكي نبني معًا عالمـًا أفضل، عالمـًا فيه المجال الواسع لكلّ أجيالنا المسيحيَّة والإسلاميَّة، ليعيشوا في الكرامة والحرِّيَّة والأمن والأمان والرخاء والازدهار والإبداع والتطوُّر...
الخوف على الإسلام من التكفيريّين
إنَّنا، معشر المسيحيِّين العرب المشرقيِّين، نخاف على إسلامنا الغالي، وعلى إخوتنا المسلمين الأحبَّاء، نخاف عليه وعليهم من التيارات التكفيريَّة الأصوليَّة الهدّامة، التي تشوِّه وجه الإسلام الحنيف، وتسوِّد وجوه أتباعه، في العالم العربيِّ، وفي الغرب، وفي كلِّ مكان.
يُخطئ من يظن أنَّ هذه التيارات التكفيريَّة هي لصالح انتشار الإسلام ونصرة المسلمين. إنَّها بالحريِّ كارثة على الإسلام أوَّلًا والمسيحيَّة ثانيًا. إنَّها خطرٌ يحيق بالمسيحيّين في الشرق العربيِّ، وفي أوروبا، التي تشهد موجة عارمة من الهجرة الجماعيَّة، غالبيّتها من المسلمين.
لا بل إنَّ هذه التيارات التكفيريَّة هي أداةٌ شريرةٌ لتقويض الإسلام والمسيحيّة معًا، لا بل تستهدف البشريَّة بأسرها. وهي وسيلة جهنّميّة لتحقيق ما دعا إليه الكاتب الأميركي "سام هنتنغتون"، "صراع الحضارات"، لا بل صراع الأديان، أو بالحري صراع أتباع الأديان في كلِّ مكان.  Sam Huntington, The Clash of Civilizations، وإذا تمّ هذا الصّراع فعلًا، فسيكون شرقنا العزيز أوَّل ضحيَّة لهذه النظريَّة، وتكون أوروبا الضحيَّة الثّانية.
لذا، ينبغي علينا، نحن المشرقيِّين العرب، مسيحيِّين ومسلمين، أن نقف صفًّا واحدًا، ودرعًا منيعًا، لدرء هذا الخطر الداهم. إنَّ موقفنا المشترك مسيحيِّين ومسلمين من التيارات التكفيريَّة، ومن نظريَّة هنتنغتون الهدامة، هو الذي سيجنِّب الشرق والغرب، بل العالم بأسره، العواقب الوخيمة لمثل هذا الصّراع. لا بل إنَّ نجاح متابعة حوارنا مسيحيِّينومسلمينهو نجاح كلّ حوار في العالم.
مسؤوليَّة مشتركة
وأودّ أن أشير من جديد إلى مسؤوليَّة المسلمين، جميع المسلمين، لا سيَّما في الشرق العربيِّ، بأن يحاموا عن الإسلام ويحموا الإسلام من هذه التيارات. عليهم أيضًا أن يُطمئنوا المسيحيِّين، لا سيَّما المشرقيِّين، بأنَّ هذه التيارات التكفيريَّة، وما يُنشر يوميًّا في العديد من وسائل الإعلام، وفي الفضائيِّات، من تعاليمٍ تدعو إلى القتل والإرهاب، وتحريض على العنف، مصحوبة، ومشفوعة بآيات تكفيريَّة داعمة بها... ليست من الإسلام وأنّهم يرفضونها! وأقول لهم بمنتهى الصراحة: إنَّ تلك الفتاوى تخيف المسيحيِّين، وتجعل الكثيرين منهم يستنتجون أنَّها ليست من ابتكار داعش وسواها من الفرق التكفيريَّة، ومن تعاليم دعاة وسائل الاعلام فحسب. بل هي من صميم الإسلام. ذلك أمر خطير جدًّا لأنّ من شأنه أن يقوِّض التّعايش المنشود بين الجانبين.
كم نتمنَّى أن يقوم إخوتنا المسلمون الغيورون على دينهم الحنيف وقرآنهم، بتأكيد قيَم الإسلام الأصيل بكلّ قواهم، وبجميع الوسائل الممكنة، على شتّى المستويات الإسلاميَّة والعربيِّة، محليًّا وعالميًّا. إنّه واجب لا غنى عنه صيانةً لصفاء الإسلام، وكرامته، ومنزلته في العالم، ودرءًا لما يسمَّى "الخوف من الإسلام" الذي قد يؤدّي إلى "الخوف من المسيحيَّة" وبالتّالي إلى نشوب "صراع الحضارات".
ذلك هو ما نخشى أن يحدث - لا سمح الله - في الشرق والغرب، من جرّاء النّـزوح الإسلاميّ العارم إلى أوروبَّا بنوع خاصّ! إنّها لمسؤوليّة جسيمة ينبغي الاضطلاع بها حرصًا على مصيرنا المشترك.
نحن المسيحيِّين لا سيَّما المشرقيِّين، بحاجةٍ ماسَّة إلى شرحٍ فقهيٍّ، ويصدر من سلطةٍ إسلاميَّة لها مصداقيّتها، بحاجةٍ ماسَّةٍ لشرحٍ مقنعٍ لآيات القرآن التي تدعو إلى القتل، والتنكيل، والعنف... إلخ.
تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا: مصير مشترك
تاريخنا الطّويل كان ولا يزال مشتركًا.
مآسينا الحاضرة مشتركة.
ومستقبلنا سيكون أيضًا، بعون الله، مشتركًا ومُشرقًا.
لذا علينا أن نتبنَّى هذا الشعار الذي طالما ردّدتُه:
يجب أن نبقى معًا، لنبني عالمـًا أفضل لأجيالنا الطَّالعة!
نستطيع أن نبقى معًا، لنبني عالمـًا أفضل لأجيالنا الطَّالعة!
نريد أن نبقى معًا، لنبني عالمـًا أفضل لأجيالنا الطَّالعة!
مسيحيِّون مع المسلمين ولأجلهم
"نريد أن نبقى كمسيحيِّين! ونريد أن نبقى كمسيحيِّين مع ولأجل المسلمين. ونريد أن يفهم المسلمون ذلك. وعليهم أن يُبعدوا عنهم تهمة أنَّ المسلمين يريدون تفريغ الشرق من المسيحيِّين.من جهةٍ أخرى نقول لهم بكلِّ محبَّة وشجاعة وتصميم: نريد أن نبقى معهم! ونبقى معهم لأجلهم. كلّنا معًا في التاريخ. وسنبقى معًا اليوم، وسنبقى غدًا. المستقبل لنا كلّنا معًا. أو نكون معًا أو لا نكون كلّنا معًا. المسيحيُّون والمسلمون هم معًا النسيج الواحد المشترك في كلِّ بلدٍ عربيٍّ! الله معنا! ونحن مع بعضنا البعض! لا بل نقول بكلِّ صراحة: كنا وسنبقى نحن المسيحيِّين في سوريَّة وفي البلاد العربيِّة، المدافعين عن الإسلام في الخطِّ الأوَّل. كما نحن أيضًا المدافعون عن العروبة وعن الوحدة العربيِّة. (راجع رسالتي ميلاد 2006: السلام - العيش المشترك – الحضور المسيحيّ في  الشرق الأوسط ص13-14).
"نريد أن نبقى مسيحيِّين. ونريد أن نبقى مسيحيِّين مع المسلمين ولأجلهم. ونريد أن يفهم المسلمون ذلك. إنّما عليهم أن يُبعدوا عنهم كلَّ تهمة وشبهة، من أنّهمَ يريدون تفريغ الشرق من المسيحيّين.نريد أن نبقى معًا اليوم، وغدًا، وإلى الأبد!".
خطرُ شرقٍ أوسط بلا مسيحيِّين: إلى أين؟
قال أحَّدهم منذ نشوب الأزمة السوريَّة: "حافظوا على مسيحييكم لكي تحافظوا على عروبتكم". ويقول محمد حسنين هيكل[2] عن التحوّل في النسيج الاجتماعيِّ العربيِّ:
"لي ملاحظة تتعلَّق بمسيحيِّي الشرق. هناك ظاهرةُ هجرةٍ بينهم يصعب تحويل الأنظار عنها أو إغفال أمرها أو تجاهل أسبابها، حتَّى وإن كانت الأسباب نفسيَّة، تتَّصل بالمناخ السائد أكثر ممَّا تتصل بالحقائق الواقعة فيه. أشعر أنَّ المشهد العربيِّ كلَّه سوف يختلف إنسانيًّا وحضاريًّا، وسوف يُصبح على وجه التأكيدِ أكثرَ فقرًا وأقلَّ ثراءً لو أنَّ ما يجري الآن من هجرةِ مسيحيِّي الشرق تُرِكَ أمره للتجاهل أو التغافل أو للمخاوف، حتى وإن لم يكن لها أساس. أيّ خسارة لو أحسَّ مسيحيّيو الشرق، بحقٍّ أو بغير حقٍّ، أنَّه لا مستقبل لهم ولأولادهم فيه، ثمَّ بقي الإسلام وحيدًا في المشرق!" (محمد حسنين هيكل، عام من الأزمات، 2000-2001، القاهرة، 2002، ص52).
 
 
وأُضيف كلمةً للأمير طلال بن عبد العزيز:
"عندما نتحدَّث عن وجود المسيحيِّين في العالم العربيِّ نعني بقاءَهم فيه. فهم من عناصر التكوين الأولى التي يمنع بقاؤها قيام بيئة تفترش التعصّب والتطرّف، وبالتالي العنف المؤدِّي إلى كوارث تاريخيَّة. بقاؤهم ترسيخٌ للدولة العصريَّة المتعدِّدة العنصر والمتنوّعة في وحدتها ونفيٌ قاطعٌ لعنصريّة الدولة. بقاؤهم قوَّةٌ لقضايا العرب في اتصالهم مع الغرب المسيحيّ اجتماعيًّا، ثقافيًّا واقتصاديًّا. أمَّا هجرتهم فقوَّة معاكسة وعُرضة لاستغلال بيئٍة تضيِّق مناخات الحوار والتواصل. بقاؤهم، أخيرًا وليس آخرًا، هو منع لاستنزاف قسمٍ مهمٍّ من الطاقات العلميَّة الثقافيَّة والفكريَّة الخلاقة في العالم العربيِّ. وهو أيضًا حرصٌ أكيدٌ على عناصر قوَّة اقتصاديَّة في التجارة والصناعة والمال والتخصّص المهنيّ. باختصار، إنَّ هجرة العرب المسيحيِّين في حال استمرارها هو ضربة عميقة توجَّه إلى صميم مستقبلنا. مهمّتنا العاجلة منع هذه الهجرة وترسيخ بقاء هذه الفئة العربيِّة في شرقنا الواحد، والتطلّع إلى هجرة معاكسة إذا أمكن".
أجوبة ووثائق إسلاميّة
 من دواعي سروري أن أُثني، في هذا الصّدد، على المبادرة الكريمة التي اتّخذها الأخ والصديق العزيز الأستاذ محمد السمّاك. فقد كتب مقالًا بعنوان "ضرورة اللقاء"، وهي كلمته التي ألقاها في المؤتمر القاصدي الأوَّل حول مفاهيم الحريَّة الدينيِّة. وصدر عنه "إعلان بيروت" 22 حزيران 2015. يعالج فيه مخاوف المسيحيّين، بل يتناول مجمل القضايا المشتركة التي تهمُّ المسيحيِّين والمسلمين على السّواء. (وقد نشرته صحيفة الفاتيكان الرسميّة "أوسرفاتوري رومانو" بتاريخ 15 تشرين الأوَّل 2015)
كما ظهرت وثائق إسلاميّة هامّة تتناول القضايا عينها، وتتجاوب مع الوثائق الكنسيَّة المشار إليها في هذه الرسالة، ويمكننا اعتبارها ردًّا إيجابيًّا على مخاوف المسيحيّين، ولو أنَّها لم تدخل بعد في حيّز التّنفيذ.
وإليكم أهمّها وفقًا لتاريخ صدورها:
·       رسالة عمَّان(رمضان 1425هـ / تشرين الثّاني 2004م)
·       وثيقة الأزهرحول المرجعيّة الإسلامية للدولة المدنية (يونيو- حزيران 2011م/ 26 رجب 1432 هـ).
·       وثيقة وزارة الأوقاف السوريَّةبعنوان (وثيقة تطوير الخطاب الدينيِّ 14/8/1436 هـ/ 1/6/2015م) وتسمى أيضًا ميثاق الشرف الدينيِّ.
·       في سورية صدرت ولا تزال تصدر سلسلة مقالات عن وزارة الأوقاف بعنوان "فقه الأزمة" (1435هـ، 2014م) ظهر منها أربعة أجزاء حتّى الآن.
·       وثيقة مراكش(27 كانون الثاني 2016).
·       كما نودّ أن نشير إلى كتابٍ مدرسيٍّ تربويٍّ دينيّ أصدرته مؤسَّسة "أديان" في لبنان، وشارك في وضعه ممثِّلون عن مجلس كنائس الشرق الأوسط، ودار الفتوى في الجمهورية اللبنانيّة، والمجلس الإسلاميّ الشيعيّ الأعلى والمجلس المذهبيّ لطائفة الموحّدين/الدّروز (2014م). عنوان الكتاب "دور المسيحيَّة والإسلام في تعزيز المواطَنة والعيش معًا". وهو ينطوي على موادّ للتربويِّين، والخطباء، والوعَّاظ، بشأن قبول الآخر، والعدل، واحترام القوانين، والعهود... إلخ.
ونشير أيضًا إلى مركز الملك عبد لله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات الذي أُسِّس عام 2011.
الوثائق الرسميَّة والإعلام التكفيريّ
إنَّنا نقدِّر ما جاء في هذه الوثائق، مع أنّها للأسف الشديد لا تزال حبرًا على ورق، بلا تأثير على خطباء المساجد والمنابر، ولا على وسائل الإعلام، ولا على وسائل التّواصل الاجتماعي، ولا على المناهج التعليميَّة. بل على النّقيض من ذلك، فإنَّنا نرى وسائل إعلام كثيرة دائبة على التّرويج للأفكار التكفيريّة الهدَّامة، على نحوٍ منهجيَّ هادف.
نحن، معشر المسيحيّين، أعلنّا على الملأ، بالوثائق الرسميّة، على المستوى الكنسيّ والعالميّ، تصميمنا على العيش المشترك. غير أنّ الشّريك المسلم لم يُصْدِر حتّى الآن مثل هذه الضمانات. لذا لم تَعُدْ الوثائق المذكورة أعلاه كافية لطمأنة المسيحيّ. ذلك أنّ التيارات التكفيرية بانتشارها المريع، ضعضعت العيش المشترك، وأضعفت إرادة التعايش، لا سيَّما وإنّها، مع ما يواكبها من إرهاب، وعنف، وأعمال بربريّة، في الشرق الاوسط، وإفريقيا، وآسيا، وأوروبا، وأمريكا، تنتسب كلّها إلى الإسلام والمسلمين حصرًا. فأسفرت جرائمها، بطبيعة الحال، عن تشويه وجه الإسلام والمسلمين.
وبالتّالي، لم يَعُدْ يكفي القول إنّ الإسلام منها براء لأنّه دين الرحمة. فقد نُسفَت أُسُسُ الثّقة بين المسلم والمسيحيّ، في الحيّ الواحد، والمدرسة ومحلّ العمل والشارع. زِدْ على ذلك أنَّ تلك الحركات التكفيريّة تؤدّي لا محالة إلى إثارة فِتَنٍ دينيَّةٍ بين الفِرَق الإسلاميَّة ذاتها، بمعزل عن الحرب التي تدور رحاها حاليًّا.
كلُّ ذلك ينعكس سلبيًّا على المسيحيّين، فقد أمسَوا لا يطمئنُّون إلى الوثائق والتّصريحات مهما كان مصدرها. وما عادوا يثقون بآيات القرآن الكريم، ولا بالحديثِ وأخبار الصحابة، لأنَّ الفتاوى التكفيريّة تستند إلى القرآن والحديث، في تبريرها السّلبَ والنّهبَ والإرهابَ، وتُضفي صورةً سلبيَّةً على الإسلام، كما تزيد من مخاوف المسيحيّين، وتحرِّضهم على الهجرة.
هذه المخاوف التي تُشيعها داعش والفِرَق التكفيريَّة في القلوب، سمعنا روايتها مباشرة من فمِ الشّهود العيان المسيحيّين الذين عاشوا رَدحًا من الزّمن تحت حكم داعش في سورية والعراق، فاختبروها عن كثب، ووقفوا على حقيقتها البشعة.
من واجبنا نحن الرعاة الروحيِّين المسيحيّين أن نُصغي إلى شهادة أولئك الأبرياء الذين سُلِبَت ممتلكاتهم، وهُجِّروا من ديارهم، ففرّوا من جحيم التّكفيريّين، لئلّا يُذبَحوا ذبح النّعاج. ومن واجب المسلمين الشّرفاء، شركاء العيش المشترك، ذوي النّوايا الصّادقة، أن يطَّلعوا عليها هم أيضًا، لكي نستطيع أن نعمل معًا بعزيمة لا تنثني، على عزل الفئات التّكفيريّة، فيطمئنّ المواطن، مسلما كان أم مسيحيًّا، إلى مستقبله.
مصطلحات تثير المخاوف
تلك المخاوف تتزايد من جرّاء مصطلحات لم تَعُدْ مقبولة في أيّ مجتمع متحضّر، خصوصًا في المجتمع الإسلاميِّ المستنير. ومنها:
الخلافة الإسلاميَّة. الدولة الإسلاميَّة. الأمة الإسلاميَّة. الفتوحات الإسلاميَّة. دار الإسلام. دار السّلام ودار الحرب. ذمِّيِّ. جزية. حماية. فرض الشريعة الإسلاميَّة على غير المسلمين. وكلّها يتردّد في وسائل الإعلام، وفي الكتب المدرسيّة لا سيَّما كتُب التاريخ. لا بل أنَّ هناك شعورًا أنَّ بعض بلدان عربيَّة وإسلاميَّة أصبحت "دار الإسلام"!
نقولها بمنتهى الصّراحة: إنّ استعمال هذه المصطلحات في المجتمع المتحضّر، وعصر العولمة، أصبح مستنكَرًا، ليس عند المسيحيّين فحسب، بل أيضًا عند كثير من المسلمين المثقَّفين المنفتحين، رفاق المسيرة الأكارم، الغيورين على مستقبل العيش المشترك. إنّهم يرفضون تلك المصطلحات البالية التي لم تَعُدْ مستساغة عند أيّ إنسان خلقه الله حرًّا كريمًا، فضلًا عن أنّها تناقض القرآن الكريم، وصريح الحديث: "لا إكراه في الدّين" (سورة البقرة 256)، "لا فضل لعربيّ على أعجميّ إلّا بالتّقوى"، "جعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا. إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم" (سورة الحجرات 13).
ليست داعش سوى مختصر رهيب، لتلك المصطلحات العنصريّة، التي أضحى مجرَّدُ ذكرها يُثير الاستنكار، بل الاشمئزاز، في النّفوس، شرقًا وغربًا، نظرًا لما ترتكبه داعش من جرائم همجيّة بحقّ المسيحيّين الأبرياء والتّراث البشريّ، إلى حدّ أنَّ كثيرين من المسلمين أسَرُّوا إلى أصدقائهم المسيحيّين أنّهم صاروا يخجلون أن ينتموا إلى الإسلام. ولا ريب أنّ جرائم داعش كان لها الأثر الأكبر في تنامي كراهيَّة الإسلام والمسلمين، (Islamophobie) في العالم، وهناك شعورٌ بأنَّ الخطر العالميّ الذي يهدَّد العالم بأسره هو الإسلام، والمسلمون.
إنَّه لمن دواعي سروري وافتخاري، أنا البطريرك المسيحيّ العربيِّ، أن أدافع بكلِّ قواي عن الإسلام الأصيل والمسلمين، والعيش المشترك بيننا. إنّما أتوقّع أن ينضمَّ إليَّ الأخُ المسلم، رفيقُ الدرب الطويل في المسيرة المشتركة عبر التاريخ. ولا يسعني أن أكتمكم، أيّها الأحبّاء، أنّي أستشفّ في الأفق البعيد، مؤامرة تُحاك خيوطها في الخفاء، وتستهدف تشويه وجه الإسلام أوّلا، وتقويض الوجود المسيحيّ في الشّرق، ثانيًا. هذا ما يُخيفنا جميعًا، مسيحيّين ومسلمين، لأنَّه خطرٌ يهدّد كياننا ومصيرنا المشترك.
حلف عربيٌّ إسلاميٌّ مسيحيٌّ موحَّد
أمام كلِّ ذلك أرى أنَّ الدواء لكلِّ هذه الأخطار والهواجس والتهديدات، الدواء أمام هذا الوباء، داعش ومشتَّقاتها، وتسمياتها المتنوِّعة، الدواء أمام هذا كلِّهِ والطريقُ إليه، هو حلفٌ عربيٌّ إسلاميٌّ، وينضمُّ إليه حلفٌ عالميّ. ومن جهة أخرى الحلّ هو السعي على مستوى العالم العربيِّ بنوعٍ خاص، وبدايةً. إذ انَّ أي حلف أوروبيٍّ وأمريكيّ، لمحاربة داعش، يُعتبر اليوم نوعًا جديدًا من الحروب الصليبيَّة، المتجدِّدة، العصريَّة، بالرغم من التعبير الحقيقيِّ العربيِّ التاريخيِّ، (حرب الفرنجة)، أو نوعًا من الاستعمار أو الحملات الاستعماريَّة المعاصرة. هذا ولا يجوز أن يُستثنى أيُّ بلدٍ عربيٍّ أولًا وإسلاميٍّ ثانيًا من هذا الحلف الشامل.
إنَّ هذا الاقتراح آتٍ من ثقتي بالعالم العربيِّ والإسلاميِّ، ومحبَّتي له، ويُطالب به جميع الطوائف المسيحيَّة. ولا يجوز لنا أن نترك معالجة خطر داعش والتيارات التكفيريَّة التي تهدِّد بنوع خاص الإسلام والمسلمين، لا يجوز أن نترك مهمَّة تبديد هواجس المسيحيِّين من هذا القبيل لأوروبَّا ولأمريكا وسواها من دول العالم.
هذا الحلف الشامل العربيِّ الإسلاميُّ، وأزيد المسيحيُّ، هو الكفيل بأن يحقِّق النصر الروحيَّ والإيمانيَّ والإنسانيِّ، على كلِّ مشتَّقات الأفكار التكفيريَّة، مهما كان مصدرها. وهو الكفيل بأن يبدِّد الهواجس المسيحيَّة، لا سيما في سورية والعراق ولبنان.
من جهة أخرى أريد أن أقول أنَّ ما أقوله وأعبِّر عنه بهذه اللغة، هو نابع من محبَّتي لعالمي العربيِّ والإسلاميّ. كما أنَّ اعتباراتي هذه أستقيها من مناقشاتي مع رعايانا المسيحيِّين، وأنا صدىً لكلِّ الهواجس التي هي موضوع الأحاديث، والمناقشات، والحوارات عند الجميع. كما أنَّها تُعبِّر عن قناعاتي كإنسان وكمواطن مسيحيٍّ وعربيٍّ وسوريٍّ.
لا حضور مسيحيّ بدون دور مسيحيّ
إظهار دورنا الرِّيادي، إلى إخوتنا وأبنائنا المسيحيّين واجب مقدّس. لكنَّنا لا نزال ننتظر الدّور المماثل، الذي ينبغي أن يقوم به المسلم المسؤول، من حاكم ومفكّر وزميل ورفيق مسيرة.
نأمل أن تتوالى من قبل المسلمين الأصوات والمواقف والقرارات التي ذكرناها أعلاه المؤكِّدة على بقاء المسيحيِّين وأهميَّة دورهم في بلادنا المشرقيَّة. وهذا ما يبعث على الثقة بيننا مسيحيَّين ومسلمين. وهي ضروريَّة لبقاء المسيحيِّين وعدم هجرتهم. ذلك ما أشرت إليه في رسالة بعنوان "دور المسيحيّين في الأزمة السوريَّة" عام2014. وممّا قلته:
"على المسيحيِّين العرب أن يُسهموا لكي يستعيد العالم الإسلاميِّ العربيِّ وحدته القويَّة والعالميَّة، دون خوف أو تردُّد، فهذا عالمنا، وهذه وحدتنا. إنَّ الوطن العربيِّ في مخاض عسير وعلينا أن نجتهد ليولد مجتمع متعدِّد من خلال العروبة الثقافيَّة وبناء المستقبل المشترك".
"ثقتي لا تتزعزع في أنَّ العقل الإسلاميِّ قادر على استيعاب حضارة العصر، فهو على قدْرٍ عظيم من المرونة ليوفّق بين الشريعة ونصوصها وبين متطلبات العصر. ونحن علينا أن نساهم في ولادة الإنسان العربيِّ الجديد". "شرقنا العربيِّ بالرغم من مشاكله فهو يبقى نموذجًا مقبولًا ومعقولًا وممكنًا للعيش المشترك في المنطقة، حيث الديانات الموحِّدة الثلاثة تواجدت وتعايشت بتناغم نسبيّ ومتفاوت حسب البلدان".
الخطر على الشبيبة العربيِّة
"من جهة أخرى، العالم العربيِّ شابٌّ، ويمكن أن يتأثَّر بسهولة، ويصبح فريسة للأصوليَّة والإرهاب ورفض الآخر تحت تأثير فتاوى متطرِّفة وشيوخ متطرِّفين مستفيدين".
"الخطر الأكبر الذي يتهدَّد العالم العربيِّ هو ما يسمَّى "العالم العربيِّ الجديد" المنبثق عما يسمَّى "الربيع العربيِّ". إنّ الصورة التي تبدو في الأفق للعالم العربيِّ الجديد، هي التقسيم والتوزيع الطائفيِّ والمذهبيِّ. فقد أقنعَت إسرائيل العالم بأن يقبلها "دولة يهوديَّة" غير آبهةٍ بوجود الفلسطينيِّين العرب فيها من مسيحيِّين ومسلمين. ومن المذهل، أنَّه لم يعترض أحّد في العالم الأوروبيِّ العلمانيِّ الديمقراطيِّ على تلك الصّفة العنصريّة لدولة إسرائيل.
 
 
خطر الكانتونات العربيِّة
"وكأنَّ العالم الأوروبيِّ يريد أن تكون الدول العربيِّة على شاكلة الدولة اليهوديَّة، مقسَّمة وفقًا للدين والعرق والطائفة، أعني أن يتقسَّم العالم العربيِّ (سوريا والعراق وسواهما) إلى دويلات وكانتونات وغيتوهات مذهبيَّة: سنيَّة - شيعيَّة - علويَّة - درزيَّة - كرديَّة - يزيديَّة - يهوديَّة - وربَّما مسيحيَّة أيضًا. وقد قرأت الكثير عن هذه المشاريع.
"إذا تمَّ ذلك فإنَّ المسيحيِّين لن يكون لهم مكان في هذه النظريَّة. وإذ ذاك نصل إلى هذه المعادلة: العالم العربيِّ يعني العالم الإسلاميِّ فقط. دولة يهوديَّة (إسرائيل). أوروبا "مسيحيَّة" (ولو علمانيَّة).
الخطر العالميِّ على كلّ حوار!
"هذا يعني أنّ دولًا أوروبيَّة "مسيحيَّة" تحمي إسرائيل. وهي إذ ذاك تعتبر عدوَّة للإسلام والمسلمين. وهذا ما يمكن أن يقود بتأكيد إلى الصراع المسيحيِّ – الإسلاميِّ وإلى صراع الحضارات والديانات".
"وهذا يعني زوال الحوار المسيحيِّ – الإسلاميِّ – اليهوديِّ. وهكذا يفقد العالم المسيحيُّ الأوروبيِّ مصداقيَّته وإمكانيَّةَ حواره مع الإسلام والمسلمين. وهذا يعني عدم إمكانيَّة تحقيق سلام بين إسرائيل والعرب وفلسطين. وهذا يعني حروبًا وأزمات، ستكون عاقبتها المزيد من هجرة المسيحيِّين، وأخيرًا ربما انقراضهم أو تحويلهم إلى أعداد صغيرة جدًّا".
ربيعٌ عربيٌّ مدمِّرٌ
"هذه هي الصورة التي أراها أمامي من خلال ما يحدث حاليًا في ما يسمَّى الربيع العربيِّ والثورات العربيِّة، والفوضى الخلاّقة، أو الحرب المدمِّرة". "وهذا ما اعتبره السببَ الأساسي في عدم إيجاد توافق لحلّ الأزمة السوريَّة. لأنَّ هناك إرادة بتقسيم سوريا ودول المنطقة من خلال الربيع العربيِّ". "وهذا ما نرفضه كمسيحيِّين وأنا كبطريرك. وهذا ما يجعلني في حذرٍ كبيرٍ ورفضٍ واضح لهذا الربيع العربيِّ، ولموقف الدول الأوروبيَّة وأميركا من الأزمة في سورية. وهذا ما يجب أن نرفضه كمسيحيِّين ومسلمين" (من رسالة 2014).
 
 
هدف هذه الرّسالة
مِمّا تقدَّم تبرز أهميَّة صيانة التّعايش الوديّ بين المسلم والمسيحيّ في شرقنا. الأمر الذي يبرِّر توجيه هذه الرّسالة الجديدة إليكم، إخوتي الأعزّاء المسلمين قادةً ومواطنين من شتّى المذاهب والمشارب في الشرق العربيِّ، وفي العالم الإسلاميِّ وفي كلّ قطر من أقطار العالم.
كما أُريد أيضًا أن تصل هذه الخواطر إلى إخوتي المسيحيّين، الرّعاة وجماعة المؤمنين، لكي يستمرّوا في التواصل مع المسلمين، ويتجنَّبوا الوقوع في فخِّ الحركات التكفيريَّة الهدَّامة المأجورة، التي ترمي إلى استئصال المسيحيّين أو تهجيرهم، تمهيدًا لنشر مفهومها المغرض للإسلام، وفرضه على العالم بحدّ السّيف. ذلك هو ما يجعلها خطرًا يهدّد العالم بأسره، بدءًا بنا نحن المسيحيّين والمسلمين في الشرق العربيِّ.
إنَّ الحوار روحانيَّة تنقلنا من الاستبعاد إلى الاستيعاب، ومن الرفض إلى القبول، ومن التصنيف إلى التفهّم، ومن التشويه إلى الاحترام، ومن الإدانة إلى الرحمة، ومن العداوة إلى الألفة، ومن التنافس إلى التكامل، ومن التنافر إلى التلاقي، ومن الخصومة إلى الأخوّة.
حضارة المحبَّة
المهمَّة الملقاة على عاتقنا في المشرق العربيِّ، هي أن نتحدَّى الغرب بوحدة مسيحيَّة إسلاميَّة مشرقيَّة قائمة على حضارة من نوع جديد: حضارة المحبّة. وحضارة المحبَّة هي أن أحبّك وتحبّني محبّة صادقة، وفيّة، لا تتحمّل القيود ولا الشّروط. فالمحبّة إمّا أن تكون بلا قيد ولا شرط أو لا تكون. أحبّكَ أخًا كريمًا بدون شرط، راجيًا أن تبادلني هذه المحبّة بمثلها، لأنّ كِلَينا خُلقنا على صورة الله ومثاله. ذلك هو مفهوم العظة الأولى التي ألقاها السيّد المسيح على الجبل، بل مفهوم الإنجيل برمّته.
الإنجيل يدعونا إلى أن نتحوّل إلى خَلْق جديد، وإلى عقليَّة جديدة وروحانيَّة جديدة! ذلك ما يطمح إليه أيضًا رجال السياسة عندما يتكلّمون عن "النظام العالميِّ الجديد"، أو "الشرق الأوسطٍ الجديد". لكنّ جديدهم غير جديدنا، ونظامهم غير نظامنا. وقد فاتهم أنَّنا كِلَينا نملك هذا النّظام الجديد منذ نشأة الإنجيل والقرآن. كما يفوتهم، أنّ هذا "الشّرق الأوسط الجديد"، إنْ لم يقُم على ركن المحبّة، فسيكون أكثر سوءًا ممّا هو عليه الآن.
ختامًا، أقول لكلّ من يستوعب مضمون هذه الرسالة الوجدانيَّة، ويتجاوب معي، أيًّا كان انتماؤه الدّينيّ: أنت أخي في الإنسانيّة! أحبّك يا أخي، مسلمًا كنت أم مسيحيًّا أم يهوديًّا! فالمحبَّة وحدها قادرة على أن توحّدنا في هذا المشرق المبارك، مهد الأديان، لأنّ الله محبّة.
دمشق 15/ آذار/ 2016                                  مع محبَّتي وتقديري ودعائي
+ غريغوريوس الثَّالث
 
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والإسكندريَّة وأورشليم
للرُّوم الملكيِّين الكاثوليك


[1]رسالة الميلاد 2007
[2]محمد حسنين هيكل، عام من الأزمات، 2000-2001، القاهرة، 2002، ص52.